الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليهود في ظل الحكم الإسلامي
(1)
لقد واجه اليهود عبر التاريخ الطويل للبشرية انواعاً متعددة من الاضهادات والمظالم، لاسباب مختلفة، يعزيها بعض المؤرخين إلى اسباب ذاتية تتعلق باليهود انفسهم، أو بسبب وظائفهم الاقتصادية، كما يعزيها البعض الآخر إلى اسباب خارجة عن إرادة اليهود، بسبب الاغيار الذين يحملون عقيدة مخالفة لهم، أو لأسباب اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك. وقد صَوَّرَ المؤرخون اليهود في القرن التاسع عشر التجربة اليهودية في القرون الوسطى في ظل الإسلام باستخدام مصطلحات رومانطيقية شبه أسطورية على العكس تماماً من تاريخ الاضطهاد والقمع الذي عاشه اليهود الذين قطنوا في العالم المسيحي في القرون الوسطى، حيث قيل عن يهود الأراضي العربية وخاصة أولئك الذين عاشوا في أسبانيا المسلمة انهم عاشوا في عصر ذهبي أو ربما طوباوي (2)، مقارنه بما شهده اليهود من مذابح واضطهادات في معظم البلاد الاوروبية ـ ان لم يكن جميعها ـ شرقيها وغربيها، فقد حصل ان واجهوا الطرد والحرمان والمذابح (3). كما واجهوا احراق كتبهم الدينية كالتلمود في كثير من البلاد الاوربية في الوقت الذي كان فيه موسى بن ميمون (الذي كان يعمل في قصر الخليفة المسلم في بلاد الاندلس) يكتب عن التلمود والفلسفة اليهودية بحرية في ظلم الحكم الإسلامي (4).
وحتى اللغة العبرية التي اختفت تماماً في القرن الثالث قبل الميلاد وحلت محلها اللغة اليونانية والارامية، لم يتم احيائها الا بعد ستة عشر قرناً وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي .. العصر الذهبي للاسلام (5).
(1) من كتاب الاستعمار وفلسطين (إسرائيل مشروع استعماري)، رفيق شاكر النتشة ـ طبعة اوليى 1984 ـ دار الجليل ـ عمان
(2)
تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339
(3)
الإسلام و فلسطين - رفيق شاكر النتشة / محاضرة ص42 ـ 43، فلسطين المحلتة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م.
(4)
- الجنرال جواد رفعت اتلخان / الإسلام وبنو إسرائيل، ص60 ـ61، ترجمة يوسف وليشاه، الرياض، 1404هـ.
(5)
ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 56
هذا وقد وصل انتشار العقيدة اليهودية- حينما لم تكن اليهودية محصورة في حدود أمة- إلى قمته في بابل ثم في بغداد في القرن التاسع أيام الخلفاء المسلمين، حتى إن كبير احبار اليهود كان يقيم في بلاط الخلفاء وله مكانة تفوق مكانة كبار النصارى. وقد برز في هذه الفترة من ازدهار العقيدة اليهودية تحت ظل الخلافة العربية شخصيات يهودية في العراق ومصر
…
وكان انحسار الثقافة اليهودية على أثر انحسار الامبراطورية العربية التي ازدهرت في ظلها تلك الثقافة. ثم كان مركز تألق اليهودية من بعد ذلك في اسبانيا تحت ظل الخلافة الإسلامية حيث ظهر فيها ونبغ (امراء) الطائفة اليهودية مثل (حسدهي بن سبروت) وزير الخليفة في قرطبة، وصموئيل وزير سلطان غرناطه، وهناك فلاسفة ولاهوتيون وشعراء (سليمان بن جابيرول ويهودا هاليفي ولاسيما موسى بن ميمون) ظهروا ونبغوا في تلك المرحلة التي يسميها أندريه شوراكي (المرحلة الذهبية) لليهود في اسبانيا المسلمة حيث أثمر التلاقح اليهودي - العربي أنضج ثماره واحلاها (1).
ففي حين كانت اوروبا الغربية المسيحية تضطهد اليهود باسم الدين وتذيقهم الوان العذاب في القرون الوسطى، وتضطرهم على النزوح إلى شرقي اوروبا وغربيها، كانت الدول العربية توليهم اسمى المناصب وتعترف لهم بحق المساواة المطلقة فيتجرون ويثرون، يبلغون شأناً في السياسة والادارة والاقتصاد لم يسبق له مثيل (2). وهكذا عاشوا في بلاد المسلمين لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة جماعة المسلمين وكان لهم ثروات هائلة ووصلوا إلى القرب من أهل الحل والعقد ومن قرب السلطان حتى في بعض الأحيان حسدهم المسلمون أنهم أصبحوا مقربين من أولى الأمر ومن السلاطين، وهناك شاعر مصري ساخر اسمه الحسن ابن خرقان له أبيات يقول فيها:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غايات آمالهم وقد ملكوا المجد
فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص186
(2)
موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين) - د. اسماعيل احمد ياغي / ص1.
يا أهل مصر إني نصحت لكم تهودوا فقد تهود الملك (1).
هكذا تمتّع اليهود والمسيحيون الذين عاشوا في العالم الإسلامي بتسامح شرعي بوصفهم "أهل الذمة"، حيث لم تتكون في الإسلام قوانين خاصة لليهود كتلك التي تَكَوّنَتْ في العالم المسيحي، حيث كان يهود القرون الوسطى يعتبرون أقناناً للمجلس الملكي وفي بعض الأحيان مارست الكنيسة سلطتها المطلقة على اليهود متذرعة بمبدأ كنسي قديم يتعلق بعبودية اليهود الأبدية. إن التشريعات الإسلامية التي تتعلق بحياة اليهود تجسدت في ميثاق عمر الذي أُدْخِلَ في الشريعة الإسلامية. وقد حُوفِظَ على التنظيمات أو التشريعات كما هي بدون تغيير على مرور الزمن ونادراً ما تم خرقها. ولأسباب مهمة أخرى أيضاً لم يُصَب التجار اليهود المتجولين في الفلك الإسلامي بوصمة الآخرية (أي كونهم آخرين) التي عانى منها اليهود في أوربا. لأنهم كانوا من سكان الشرق الأدنى الأصليين وليسوا مهاجرين كما في الغرب اللاتيني، وغالباً لا يمكن تمييزهم جسمانياً من جيرانهم العرب المسلمين (2).
يقول الكاتب اليهودي الماركسي إبراهام ليون في كتابه "المفهوم المادي للمسألة اليهودية " والذي علق عليه الكاتب اليهودي مكسيم ردنسون: "عامل الإسلام اليهودية بتسامح يفوق التسامح الذي لاقاه هذا الدين ـ من جانب المسيحية ـ كتيار ايديولوجي اعترف بحقه بالبقاء بالرغم من الهزيمة التي لحقت به". ويقول ايضاً في: وفي ظل الامبراطورية الإسلامية والدويلات التي قامت على اشلائها، والتي احتفظت فيما بينها بصلات وثيقة، ازدهرت التجارة بين مناطق متباعدة، وتقدم الانتاج الزراعي الخاص بكل اقليم من الاقاليم، وراجت الصناعات اليدوية، وشارك اليهود كسائر عناصر السكان في هذا التقدم، ومارس عدد كبير منهم التجارة كما يقول ـ جواتين ـ: " لقد ادت هذه الثورة ـ البرجوازية ـ إلى الاسراع في تحويل اليهود من شعب يمارس بالدرجة الأولى المهن اليدوية إلى جماعة تهتم بصورة
(1) برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة
(2)
تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339
رئيسية بالتجارة .. وعندما وجد اليهود انفسهم ابان العصر الإسلامي امام حاضرة ميركانتيلية قابلوا التحدي وتحولوا بدورهم إلى امة تتكون من رجال الاعمال وباشروا بالقيام بدور رئيسي في نهضة الحضارة الجديدة (1).
وقد وجد اليهود الذين لم يعانوا الاضطهاد القاسي حيث كانوا يقيمون ملجأ لهم في البلدان المجاورة، وخاصة خارج البلدان المسيحية، في العالم الإسلامي الذي فتح لهم صدره (2). ويقول الكاتب اليهودي المعادي للصهيونية الفرد ليلنتال: وكما اشار المؤرخون اليهود فان العصر الذهبي لليهودية امتد من القرون البادئة عام 711 ب. م عندما عاش اليهود متمتعين بالنفوذ والاحترام تحت السلطة الإسلامية في اسبانيا والبرتغال. وحين اضطر اليهود إلى الفرار من وجه مجالس التفتيش المسيحية وجدوا ملجأ لهم في شمال افريقيا والشرق الاوسط.
ان ما يعرف في الغرب بالعداء للسامية لم ينشأ في العالم العربي في يوم من الأيام، ان العرب لم يكونوا قط معادين لليهود، والإسلام يعتبر موسى وابراهيم كما يعتبر يسوع انبياء
…
وفي مصر عاش اليهود طوال الف سنة جنباً إلى جنب مع المسلمين ـ وبعضهم من احفاد اليهود القدماء الذين خلفهم موسى وراءه عند خروجه من مصر، وفر آخرون إلى مصر بعد التدمير الأول الذي انزله البابليون بهيكل القدس، وفي عام 250 ق. م يحدثنا فيلو انه كان في الاسكندرية يهوداً اكثر مما كان في القدس، ووجد اليهود ملاذاً لهم في مصر نجاهم من الاضطهادات النصرانية في اسبانيا والبرتغال خلال القرن الخامس وكذلك اثناء الثورة الروسية والحكم الهتلري. ولا ريب في ان الغزو الاسرائيلي لمصر قد وضع حداً لهذا الملاذ المصري ليهود العالم (3).
وجاء في كتاب "تاريخ العرب: ولقد لقى اليهود من محاسنة المسلمين فوق ما لقيه النصارى برغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب انهم كانوا قليلي العدد فلم يخشى آذاهم، وقد وجد المقدسي سنة 985م ان اكثر الصيارفة وارباب البنوك في سوريا يهود واكثر الكتبة والاطباء نصارى ونرى في عهد عدد من
(1) المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون - ص156 - 157، دار الطليعة، بيروت، 1970م،
(2)
- المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون /ص161.
(3)
هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - ص 294 - 295.
الخلفاء واخصهم المعتصد (892 ـ 902م) انه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حول سنة 1169 م فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين وثلاثة وعشرين كنيساً منها واحد رئيسي مزدان بالرخام المخطط ومجمل بالذهب والفضة، وافاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داوود النبي ورئيس الملة الاسرائيلية (ريش جاوثا) في الارامية أي امير السبي أو بصفته في الواقع زعيم جميع اليهود الذين يدينون بالطاعة للخلافة في بغداد. فقد كان لرئيس الحاخاميين هذا من السلطة التشريعية على ابناء طائفته مثل ما كان للجاثليق على جميع النصارى، وقد روى انه كانت له ثروة ومكانة واملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وعمامة بيضاء موشاة فيها الجواهر واحاط به رهط من الفرسان وجرى امامه ساع يصيح باعلى صوته (افسحوا درباً لسيدنا ابن داوود)(1).
وهكذا فأنه ليس من المدهش أن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية في العصور الوسطى لم يحفظوا أية ذاكرة جماعية عن عنف قام به مسلمون ضد اليهود، ناهيك عن معاداة السامية. و هذا على خلاف شديد مع إخوانهم الذين عاشوا في الأراضي المسيحية والذين رسموا تاريخهم على شكل سلسلة طويلة من المعاناة. ولكن هنالك سلسلة واحدة من العنف تأتي إلى الذاكرة. وهي المذابح والتحويل القسري التي قامت به طائفة متعصبة من الموحّدين في شمال أفريقيا وأسبانيا في القرن الثاني عشر ضد اليهود والمسيحيين وحتى المسلمين المنشقين أو الذين لا يوافقون طريقتهم. وهذا الاضطهاد هو الذي أجبر عائلة ميمون على هجرة وترك أسبانيا والاغتراب (2).
وفي ظل الدولة العثمانية تمتع اليهود في فلسطين، التي كانت خاضعة للحكم العثماني، منذ سنة 1517 م وفي اماكن اخرى من الامبراطورية العثمانية، بقسط
(1) تاريخ العرب- فيليب حتي، د. ادوارد جرجي - الجزء الثاني، ص437 ـ 438 د. جبرائيل جبور/ دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، ط3، 1961م.
(2)
تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي.
كاف من الحرية الدينية، لم تكن من نصيبهم في أي بلد اوروبي، فخلال الحكم العثماني، لم تتخذ اية اجراءات رسمية تستحق الذكر، تناهض اليهود أو تميز بينهم وبين باقي السكان، كما كان الحال في معظم الدول الاوروبية ان لم يكن فيها كلها (1).
فقد عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام لكنهم كانوا يلاقون دوماً في اوروبا الشرقية تمييزاً وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح (2). وتؤكد (الموسوعة اليهودية) بان السلطان عبد الحميد الثاني عامل يهود الدولة العثمانية معاملة طيبة، ويشهد بذلك بعض المقربين اليه من اليهود امثال "ارمينيوس فامبري " الصديق الشخصي للسلطان الذي صرح: انه من خلال الصداقة المستمرة التي تربطني بالسلطان منذ سنوات طويلة كانت لي الفرصة للتعرف على معاملته الطيبة لليهود. وكان اول حاكم تركي يعطيهم المساواة امام القانون مع رعاياه المسلمين، وعندما استلم الحكم امر باعطاء رواتب شهرية لحاخام تركيا الاكبر وبمعنى آخر عامل الحاخام كما يعامل كبار موظفي الدولة واتخذ تقليداً بان يرسل سنوياً في عيد الفصح إلى حاخام القسطنطينية ثمانية آلاف فرنك لتوزع على فقراء اليهود في العاصمة التركية، وعندما منعت حكومة كريت المحلية في عام 1881م مشاركة اليهود في الانتخابات البلدية الغى عبد الحميد هذه الانتخابات ووبخ السلطات لتعديها على حقوق اليهود (3).
ويعزو بعض المؤرخين (غير المسلمين) سبب بقاء اليهود على قيد الحياة إلى استضافة المسلمين وحمايتهم لهم. يقول ج. ه. جانسن في كتابه "الصهيونية واسرائيل وآسيا:" وفي مناسبتين من التاريخ اليهودي في اوروبا نرى ان بقاء اليهود على قيد الحياة يعود إلى استضافة وحماية الحكام المسلمين، كانت الفترة الأولى في القرن السادس عندما وضعت الفتوحات الإسلامية في اسبانيا حداً للاضطهاد اليهودي على يد المسيحيين هناك، ومنذ القرن العاشر فصاعداً أخذ الضغط على اليهود في اوروبا الغربية في الازدياد ببطء حتى إذا ما اطل القرن السادس عشر كانت تلك
(1) تاريخ الصهيونية- صبري جريس - الجزء الأول، ص 60، م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت 1981م.
(2)
الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن - ص16، مركز الابحاث، بيروت، 1972م.
(3)
موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق- ص309 ـ 310.