الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا" (1).
إن الإسلام هو دون شك دين قائم على الحوار بمعانيه المختلفة، ومستوياته المتباينة المتعددة. فهو بداية حوار بين الله جل جلاله والإنسان، لإقناعه بالإستجابة لنداء الوحي والهداية. فليس الإيمان إنصياعاً بالإكراه بل نتيجة إقتناع بآيات التنزيل التي توجه نظر الإنسان إلى أدلة الخلق وعبر التاريخ وحالات النفس الإنسانية. وهو حوار مع المشرك الذي يؤمن بتعدد الآلهة وعبادة الأصنام لإقناعه عقلياً وشعورياً بمبدأ التوحيد والتنزيه المطلق للذات الإلهية. وهو حوار مع الدهري الملحد الذي لا يؤمن بدين ولا معاد ولا رسالة لإستمالته لطمأنينة اليقين ونور النبوة وبراهين التوحيد. وهو حوار من داخل الدائرة الإبراهيمية مع أهل الكتاب الذين يشكل إمتدادا لهم و ختماً لرسالتهم التي تمهد له وتؤكده و تدل عليه (2).
علاقة المسلم بالآخر عموما
لما كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسنم (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، لان دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقي الديانات والحضارات تتبع من رؤيته إلى التعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعاً، بيد أنه لا يجوز أن يفهم هذا التسامح الانساني الذي جعله الإسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم، على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين. فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسس للعلاقات الانسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس. فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية
(1) الحوار بين الديانات: قيم ثقافة السلام -1 - محمد عابد الجابري - http://www.aljabriabed.net/pape16.htm
(2)
الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.
والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها (1).
ومن ينظر إلى العقيدة الإسلامية يجد أنها عقيدة تتسع لجميع الناس لا تريد أن تلغي الآخر بل هي تعترف أن هناك آخر، هناك مَن يخالفها في العقيدة وهناك مَن يخالفها في الشريعة وهناك مَن يخالفها في السياسة وهناك
…
ولكن أهم الخلافات هي الخلافات العقائدية والقرآن قرر أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تنفصل عن حكمته، أي الحكمة الإلهية والمشيئة الإلهية اقتضتا أن يكون الناس مختلفين في الدين، لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد الناس أن يكونوا على دين واحد وعلى نهج واحد لخلق الإنسان على غير هذه الصورة. ومادام لكل إنسان عقله وإرادته فلابد أن يتغير الناس في اتجاهاتهم الدينية وغير الدينية وهذا ما يقرره القرآن بوضوح حيث يقول الله تعالى (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد وعلى منهج واحد (ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} مختلفين {إلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). المفسرون يقولون ولذلك أي وللاختلاف خلقهم .. خلقهم ذوي عقول مختلفة وإرادات مختلفة وملكات مختلفة ولهذا لابد أن تتغير أديانهم وتختلف فهذا واقع ولذلك خلقهم. ولذلك مَن يريد أن يلغي الآخرين ويريد أن يجمع الناس على دين واحد أو على نهج واحد هذا يخالف المشيئة الإلهية.
فالتنوع مطلوب حسب نص القرآن الكريم، وهو من آيات الخلق السامية، كما في قوله تعالى:(ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). فليس من هدف الإسلام حمل الناس على ملة واحدة أو عقيدة مشتركة، بل إن إختلافهم مطلوب مقصود (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم). ويبين القرآن الكريم الحكمة من الإختلاف بأنها (التعارف) و (التعاون على البر و التقوى) و (التسابق إلى الخير)، بما فصلته الآية الكريمة: (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا و لو شاء الله
(1) الإسلام وترسيخ ثقافة الحوار الحضاري-حسن عزوزي- http://www.scienceislam.net/article.php3?id_article=567⟨=ar
لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما أتاكم فأستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). ولهذا السبب أعلن الإسلام حرية العقيدة ونبذ الإكراه في الدين و وضع ضوابط دقيقة لتعميق خط التفاعل و التعارف بين بني البشر الذين يتفقون في أصولهم و عمود نسبهم (كلكم لآدم و آدم من تراب)، كما يتفقون في قدراتهم المعرفية و العقلية و الروحية، و لا يتمايزون إلا بسلوكهم الأخلاقي و ميزاتهم الروحية المكتسبة المتاحة لجميع الناس (1).
فالإسلام يعترف بالآخر ويقيم العلاقات مع الأخر على أسس ثابتة حتى وهو يعترف بأن الآخرين كفار. وهنا الإسلام يقيم أشياء أساسية في فكر الإنسان وفي نفسيته تنشأ ما نسميه التسامح، التسامح الديني من خلال:
أولا: اعتقاده أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله وهذا يريح الإنسان.
ثانياً: أنه إذا كان هناك مهتدى وهناك ضال وهناك مؤمن وهناك كافر وهناك بار وهناك فاجر فحساب هؤلاء الناس ليس للإنسان ولكنه إلى الله عز وجل وليس في هذه الدنيا ولكن في يوم الحساب، الله سيفصل بين هؤلاء ويقول القرآن {إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {اللَّهُ رَبُّنَا ورَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا ولَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإلَيْهِ المَصِيرُ} هذا أمر آخر يريح الإنسان مع الذين يختلفون معه.
ثالثاً: أن الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه أو لغته أو إقليمه أو طبقته {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما روي البخاري ومسلم أنهم مروا عليه بجنازة فقام الرسول عليه الصلاة والسلام لها واقفا احتراما للميت فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي. فقال أليست نفس. فما أروع الموقف وما أروع التعليل نفسه" أليست نفس".
رابعاً: الإسلام يقيم العلاقة بين الناس جميعا على أساس العدل، عدل الله لجميع خلق الله يهودي نصراني مجوسي وثني {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الشنآن شدة البغض سواء شدة بغضهم لكم أو
(1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.
بغضكم لهم لا يمنع هذا أنك تحكم بالعدل فالعدل مطلوب، والقرآن أنزل الله فيه تسع آيات من سورة النساء تدافع عن يهودي أُتهم ظلما، حيث ان احد المسلمين سرق ولكن اهله وقبيلته أرادوا أن يلصقوا التهمة بأحد اليهود، وذهبوا إلى النبي يعرضون حجتهم حيث كاد النبي عليه الصلاة والسلام ان يصدقهم ويدافع عن هذا المسلم ويتهم هذا اليهودي، وهنا نزل القرآن يبرئ اليهودي ويعاتب النبي عليه الصلاة والسلام أنه هم بتصديق هؤلاء ويقول الله تعالى في هذه الآيات {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً، واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تحامي عنهم {ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} إلى آخر الآيات التسع في الدفاع عن هذا اليهودي (1).
ومما تقدم يتضح لنا ان بنية الإسلام في الأصل بنية حوارية يشكل فيها "الاعتراف بالآخر" أولى مميزاتها بل أساساً يتنزل فيها منزلة "العقيدة". ذلك أن القرآن لم يثبت شرعية وجوده ويدافع عن اختياراته وبدائله إلا عبر أخلاقيات الحوار والنقاش، بل ربما انفرد القرآن، من بين نصوص الأديان الكتابية الأخرى، بذلك الحرص القوي الذي يطبع جل آياته، على محاولة طرح اختياراته الإصلاحية عبر أسلوب الجدال والحوار ومحاولة البرهان والتدليل على اختياراته وبدائله وإقناع مخالفيه بها
…
وما هو أهم في كل هذا "اعترافه" الضمني والصريح بذلك التراكم المعرفي والأخلاقي الذي يمثله تاريخ الديانات الكتابية وسيرها الحثيث نحو الإصلاح والتصحيح والكمال العقائدي والأخلاقي، الأمر الذي اقتضى من الإسلام، قرآنا وسنة، ضرورة الاعتراف ب"الآخر" باعتباره مساهما فعالا في ذلك التطور الفكري والأخلاقي القابل دوما للإصلاح و"التتميم". من ثم جاءت تلك التأكيدات المتتالية في القرآن تذكر المؤمنين به قبل غيرهم، أنهم يمثلون حلقة من سلسلة من تلك "الحنيفية" التي يعتبر إبراهيم الخليل عليه السلام واسطة عقدها، ولبنة أساسية فيها. وحيث ذلك، أُمر المسلمون في تعاملهم مع "أهل الكتاب"، ورغم الخلافات الواردة، ان
(1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة