الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريق الثاني: القراءة على الشيخ:
ويُسمِّيها أكثر قدماء المحدِّثين عرْضًا؛ لأن القارئ يعرضه على الشيخ سواء قرأ هو أم غيره وهو يسمع، وسواء قرأ من كتاب أو من حفظ، وسواء كان الشيخ يحفظه أم لا، إذا كان يمسك أصله هو أو ثقة غيره وهي رواية صحيحة باتفاق، خلافًا لبعض من لا يعتد به (1).
واختلفوا في أن القراءة على الشيخ مثل السَّماع من لفظه في المرتبة أو فوقه أو دونه.
فنُقِل عن أبي حنيفة ومالك وغيرهما ترجيح القراءة على الشيخ، ويروى عن مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة أنهما سواء وهو مذهب مُعْظَم علماء الحجاز والكوفة والبخاري (2).
والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ وهو مذهب الجمهور من أهل المشرق (3).
أقول: لعل الوجه فيه، أن الشَّيخ حينئذٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسفيره إلى أمته، والأخذ منه كالأخذ منه صلوات الله وسلامه عليه.
(1) ينظر محاسن الاصطلاح (ص 319).
(2)
ينظر المحدث الفاصل (ص 426)، الكفاية (305 - 309).
(3)
ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 320).
فرع
الأول: العبارة في الرواية بهذا الطريق على مراتب أحوطها أن يقول: قرأت على فلان، أو قُرئ عليه وأنا أسمع فأقر الشيخ به.
ويتلوه قول: حدثنا أو أخبرنا مقيّدًا بقيد قراءًة عليه ونحو ذلك.
واختلفوا في جواز استعمال حدثنا وأخبرنا مُطلَقَيْن، فمنع ابن المبارك وأحمد بن حنبل والنسائي وغيرهم، وجوَّزها الزُّهري ومالك وسفيان بن عيينة وغيرهم (1)، وهو مذهب البخاري.
والمذهب الثالث: أنه يجوز إطلاق أخبرنا ولا يجوز إطلاق حدثنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه (2)، ومسلم وجمهور أهل المشرق وهو الشائع الغالب الآن لأن فيه إشعار بالنطق والمشافهة بخلاف أخبرنا.
ومِن أحسن ما يُحكَي فيه أن أبا حاتم (3) قرأ على بعض الشيوخ ممن سمِع من الفَرَبْري (4) قراءًة عليه صحيح البخاري، وكان يقول له في كل حديث "حدثكم الفَرَبْري"، فلما فرغ من الكتاب، سمع الشيخ يذكر أنه
(1) ينظر المحدث الفاصل (ص 432 - 433).
(2)
ينظر الكفاية (ص 296).
(3)
أبو حاتم هذا هو محمد بن يعقوب الهروي، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان. ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 323).
(4)
هو الإمام المحدث الثقة العالم، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، راوي " الجامع الصحيح " عن أبي عبد الله البخاري، توفي سنة 320 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 10).
إنما سمع الكتاب من الفَرَبْري قراءًة عليه، لا سماعًا منه، فأعاد أبو حاتم قراءة الكتاب كله وقال له في جميعه "أخبركم الفَرَبْري"(1).
الثاني: يستحب أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ "حدثني"، وفيما سمعه مع غيره "حدثنا"، وفيما قرأ عليه بنفسه "أخبرني" وفيما قُرِئَ عليه وهو يسمع "أخبرنا".
ورُوي نحوه عن ابن وهب، واختاره الحاكم، وحكاه عن أكثر مشايخه وأئمة عصره (2).
فإن شك فالمختار أنه يقول: حدثني أو أخبرني.
ونُقِل عن يحيى القطان ما يقتضي جواز حدثنا وأخبرنا، فإن قال لِمَا سمع وحده، حدثنا وأخبرنا، ولِما سَمِع في جماعة حدثني وأخبرني جاز (3).
الثالث: إذا قرأت على الشيخ وقلت أخبرك فلان، أو قلت أخبرنا فلان وهو مُصْغٍ فاهِم غير مُنكِرٍ ولا مُتَكَرِّهٍ، صحَّ السماع وجازت الرواية به، وإن لم ينطق الشيخ على الصحيح.
وشرط بعض الشافعية كسُليم (4)، وأبي إسحاق الشِّيرازي وابن الصبَّاغ وبعض الظاهرية نُطقه، وشرط بعض الظاهرية إقراره به عند تمام السماع.
(1) ينظر تعليق البلقيني على هذه القصة، محا سن الاصطلاح (323).
(2)
أخرجه القاضي عياض في الإلماع (ص 126 - 127).
(3)
ينظر مقدمة ابن الصلاح (325).
(4)
تقدمت ترجمته (ص 79).
قال ابن الصبَّاغ (1): وله أن يعمل به وأن يرويه قائلاً: قُرئ عليه وهو يسمع وليس له أن يقول حدثني (2).
وإذا كان أصل الشيخ حالة السماع في يَدِ مَوثُوقٍ به مُراعٍ لما يقرأ أهلٌ لذلك كان كإمساك الشيخ، سواءٌ كان الشيخ يحفظ ما يقرأ أم لا، هذا هو الصحيح.
وقيل إن لم يحفظه الشيخ لم يصح السماع، وهو مردود لعمل المحدثين على خلافه، فإن كان الأصل بيد القارئ وهو موثوق بدينه ومعرفته فأولى بالصحة، وإن لم يكن الأصل بيد موثوق به ولم يحفظه الشيخ لم يصح السماع (3).
الرابع: لا يجوز في الكُتُب المؤلفة إذا رُويت إبدال "حدثنا""بأخبرنا" ولا عكسه ولا سمعت بأحدهما ولا عكسه، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما، وإن كان يرى ذلك فالإبدال عند التسوية مبنيٌّ على الخلاف المشهور في رواية الحديث، هل يجب أداء ألفاظه؟ أو يجوز نقل معناه فمن جَوَّز أداء المعنى من غير نقل اللفظ يُجَوِّز إبدال حدثنا بأخبرنا، وعكسه ومن لم يُجَوِّز لم يُجوز (4) الإبدال وعلى هذا التفصيل ما
(1) ابن الصباغ هو الإمام، العلامة، شيخ الشافعية، أبو نصر، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر البغدادي، الفقيه توفي في سنة 477 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 464).
(2)
ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 325).
(3)
قوله لم يصح السماع سقطت من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).
(4)
قوله لم يجوز سقطت من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).
سمعه من لفظ الشيخ.
الخامس: يُستحب للشيخ أن يُجيز للسامعين رواية جميع الكتاب الذي سمعوه وإن كتب لأحدهم خطه كتب: «سمعه منِّي وأجزت له روايته عني كما كان بعض الشيوخ يفعل» .
قال ابن عتَّاب الأندلسي (1): لا غِنَى في السماع عن الإجازة لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ أو يغلط الشيخ إن كان القارئ، ويغفل السامع فينجبر (2) له ما فاته بالإجازة (3).
وإذا عظم مجلس المحدث، فبلَّغ عنه المُسْتَملِي فهل يجوز لمن سمع المُبَلِّغ دون المُمْلي أن يروي ذلك عن المُمْلي؟ ذهب جماعة من المتقدمين وغيرهم إلى جواز ذلك ومنع ذلك المحققون وهذا هو الصواب.
السادس: يصح ممن هو وراء حجاب، إذا عُرف صوته إن حدَّث بلفظه أو عُرف حضوره إن قرئ عليه، ويكفي في تعريف ذلك خبر ثقة، هذا هو الصواب، وقد كانوا يَسْمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب ويروونه عنهن اعتمادًا على الصَّوت واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:
(1) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب مفتي قرطبة توفي سنة 462 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 328).
(2)
في المطبوعة فيخبر والمثبت من (ز)، (د)، والإلماع.
(3)
أخرجه القاضي عياض في الإلماع (ص 92).
«إن بِلالاً ينادي بِلَيلٍ فكُلوا واشربوا حتَّى يُنادي ابنُ أمِّ مَكْتُوم» (1).
السابع: إذا قال الشيخ بعد السماع لا ترو عنِّي أو رجعت عن إخبارك به أو نحو ذلك، ولم يُسنده إلى خطأ، أو شك أو نحوه، بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه حديثه وروايته، فذلك غير مُبطِل لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه، [ولو خص بالسماع قومًا فسمع غيرهم بغير علمه جاز له أن يرويه عنه](2)، وعن النسائي ما يؤذن بالتَّحَرُّز (3) منه.
ولو قال الشيخ: أُخبِركم ولا أُخبِر فلانًا لم يضره وجاز له روايته.
(1) أخرجه البخاري (3/ 37).
(2)
ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).
(3)
في (ز) التجوز، والمثبت من (د)، ونسخة على (ز).