المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب:(البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل) - الدكتور علي جمعة إلى أين

[طلحة محمد المسير]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌الفصل الأولبعض أساليب الدكتور علي جمعة في الإقناع

- ‌أولا: التطاول على المخالفين

- ‌ثانيًا: التناقضات

- ‌ثالثًا: تحريف النقول

- ‌رابعًا: الكلام المحتمل والمصطلحات الفضفاضة

- ‌خامسًا: ذكر صفات الباطل بدقة ثم التلبس ببعضها

- ‌سادسًا: الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة

- ‌سابعًا: الإبهار

- ‌ثامنًا: القواعد والأصول المخترعة

- ‌عاشرًا: الإكثار من الشبهات

- ‌الفصل الثانيرؤيته للعلاقة بين الإسلام والواقع

- ‌أولاًً: التحاكم إلى الشريعة

- ‌أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب:(البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)

- ‌ب- كلامه عن تطبيق الشريعة في مقالات التجربة المصرية

- ‌جـ- طعون الدكتور علي جمعة المتفرقة المتعلقة بتطبيق الشريعة

- ‌ثانيًا: الجهاد في سبيل الله

- ‌ثالثًا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم

- ‌رابعًا: المعاملات المالية

- ‌خامسًا: الشيعة

- ‌سادسًا: التصوف

- ‌سابعًا: الأدب مع الله عز وجل ومع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌ثامنًا: فتاوى المرأة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب:(البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)

يفهم معناه، من أمور تناقض الإسلام أيما مناقضة.

والدكتور علي جمعة أراد أن يخوض في مسألة الحكم بالشريعة، وأن يتحدث، وأن يكتب، وأن يجادل، فكان طرحه في قضية الحكم بما أنزل الله مذبذبًا متناقضًا، بل إن مفهوم كلامه ولازمه يعني محاولة هدم الإسلام من أساسه.

وتقوم دعوته المشوهة عن الحكم بما أنزل الله على ترديد بعض العبارات الموهمة، وإيراد الشبهات والدعاوى، التي لا يجمعها إلا كونها استسلامًا لضغط الواقع، ومحاولة للدفاع عن الأنظمة الباطلة، وإضفاء الشرعية عليها، مع سوء فهم للشريعة، وافتراء الأباطيل حول أحكامها.

وهذه أمثلة مما اقترفته يداه في حق الشريعة المطهرة:

‌أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب:

(البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)

من الكتابات التي كتبها د. علي جمعة عن تطبيق الشريعة، وحاول ترويجها ونشرها في الداخل والخارج بوسائل كثيرة، ما كتبه في كتابه (البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)، وقد حاول فيه أن يجمع ما يوهم القارئ بأي شيء سوى أن يبين له الحق، وهذا استعراض لما كتبه عن تطبيق الشريعة في هذا الكتاب المشحون بالأباطيل:

* بدأ كلامه بمقدمة قال فيها: "قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قصرها على تطبيق الحدود العقابية بإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم؛ حيث إن تطبيق الشريعة

ص: 75

له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نصف واقعًا ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيث إن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهم بدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين: إن هذه البلاد قد خرجت عن ربقة الإسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمة تطبيق الشريعة كلمة حادثة".

لو فرضنا أن الخلل الموجود عند غالب الحكومات هو انسلاخ فقط عن إقامة الحدود الشرعية لكانت مصيبة من أعظم الموبقات، ولقلنا لهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (1) والواقع يؤكد أن الخلل الموجود عند غالب الحكومات هو انسلاخ عن كثير جدًّا جدًّا من أمور الشريعة في شتى مجالات الحياة؛ من: سياسة، واقتصاد، وقضاء، وإعلام، وتعليم، وتربية، وثقافة، وحسبة، وجهاد

.

وزعمه أن هذه المخالفات وقعت عبر التاريخ في كثير من البلدان لا ينفي كونها ضلالات باطلة، ولا زال العلماء الصادقون ينكرون المنكرات، ويعلنون وجوب التزام الشرع، وينكرون على من لا يطبق الشريعة حكمه بالطاغوت، ولاقوا من الطغاة والطواغيت صنوف الأذى، أسأل الله أن يتقبل جهادهم، وأن يرحم موتاهم، وأن يجزيهم خير الجزاء.

(1) سورة البقرة، الآيتان 85 - 86.

ص: 76

أما زعمه أن كلمة تطبيق الشريعة حادثة، فهذا حيدة في الكلام؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح كما هو معلوم، فماذا يقول عندما يقرأ قوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)، ولا نعلم عالمًا من العلماء المعاصرين الصادقين تحرج من استعمال هذه الكلمة، يضاف إلى ذلك أن د. علي جمعة من الغارقين في التوسع في المحدثات والبدع اصطلاحًا وتطبيقًا، ويضفي عليها الشرعية، ولا يرى أية غضاضة في كثير من البدع كما هو واضح في نتاجه، ثم يزعم أن كلمة تطبيق الشريعة حادثة!!!.

وحتى لا يلتفت ملتفت على القضية، ماذا يكون الحال إذا اكتفى البعض بمصطلح الحكم بما أنزل الله وترك كلمة تطبيق الشريعة؟ هل سيختلف الحال والواقع أم سيظل الحال والواقع كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (3).

* ثم قال د. علي جمعة: "الشرع قد وضع شروطًا لتطبيق هذه الحدود، كما أنه قد وضع أوصافًا وأحوالاً لتعليقها أو إيقافها، وعند عدم توفر تلك الشروط أو هذه الأوصاف والأحوال فإن تطبيق الحدود مع ذلك الفقد يعد

(1) سورة المائدة، الآية 49.

(2)

سورة المائدة، الآية 44.

(3)

سورة النساء، الآيتان 60 - 61.

ص: 77

خروجًا عن الشريعة".

وهذا من تكثير الكلام بغرض قلب الحقائق؛ فمن هذا الذي دعا إلى تطبيق الحدود على غير من وجبت إقامتها عليه؟!!! الكلام في أولئك الطغاة الذين أعرضوا عن حدود الشريعة، ووضعوا لأنفسهم طرقًا أخرى يستمدون منها أحكامهم، فهم أعرضوا عن الحدود الشرعية كلية، ولم ينظروا إلى شروط أو قواعد.

ثم هذا الكلام العام يراد منه التضليل؛ لأن شروط تطبيق الحدود معلومة في مظانها، أما د. علي جمعة فيضع كلامًا عامًا يزعم به أن الشروط لا تتوفر جملة وتفصيلاً، وبهذا يسوغ في تفكيره أن تطبق أحكام مختلف الأمم والملل من فرنسيين وألمانيين وبريطانيين ومن يهود ونصارى وبوذيين وملاحدة؛ لأن الشروط التي وضعوها توفرت!!! أما شروط الشريعة الإسلامية فلم تتوفر!!

* ثم قال د. علي جمعة: "المتأمل في النصوص الشرعية يجد أن الشرع لم يجعل الحدود لغرض الانتقام، بل لردع الجريمة قبل وقوعها، ويرى أيضًا أن الشرع لا يتشوف لإقامتها بقدر ما يتشوف للعفو والصفح والستر عليها، والنصوص في هذا كثيرة".

الله جل وعلا شرع الحدود لحكم عظيمة لا يحصيها إلا هو جل وعلا، وزعم أن الحدود ليست انتقامًا من المجرم تلاعب بالألفاظ، وقد بوب البخاري رحمه الله بابًا بعنوان:(باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله)، وفي صحيح مسلم بوب النووي بابًا بعنوان:(باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته)، وذكر البخاري ومسلم في بابيهما هذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم

ص: 78

لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) (1) وذكر الله جل وعلا قطع يد السارق نكالاً له؛ فقال جل وعلا:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2).

وهب أن الحدود للردع فقط، أهذا يعني إلغاء الحدود، فيزعم الزاعمون أن الحدود للردع، وأن الطغاة استطاعوا ردع الناس بغير الحدود، فلا حاجة لنا إلى الحدود!!!

وأما ما ذكره من تشوف الشريعة للستر، فإن الشريعة التي تشوفت للستر هي هي الشريعة التي أمرت بإقامة الحدود، وهي هي الشريعة التي بها أقام الحكام المسلمون الحدود عبر الزمان والمكان.

* ثم افترى د. علي جمعة افتراء عظيمًا على الأمة الإسلامية فقال: "لمدة نحو ألف سنة لم تقم الحدود في بلد مثل مصر، وذلك لعدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقًا معينة للإثبات، والتي نصت على إمكانية العودة في الإقرار، والتي شملت ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) (4) ".

وقد فسر د. علي جمعة هذه الفرية في كتاب آخر فقال: "عندنا في مصر منذ

(1) رواه البخاري في كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، ورواه مسلم في كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته.

(2)

سورة المائدة، الآية 38.

(3)

رواه الحصكفي، في مسند أبي حنيفة، كتاب الحدود.

(4)

رواه الترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود.

ص: 79

أكثر من ألف سنة وتزيد (1200) سنة لم يرجم الزاني، ولكن في القرآن يوجد حد الزاني، وفي السنة يوجد حد الزاني، وبالرغم من ذلك لا يعمل به؛ لأن الله قد وضع أشياء كثيرة جدًا حول هذه القضية، بحيث إنها تكون كأنها صعبة التنفيذ لكونها نكالا، ولأنها تبين للناس أن هذا خطأ وعيب وحرام وفاحشة ولا يجوز، كذلك قطع السارق؛ فقطع السارق لم يطبق في مصر منذ أكثر من 1000 سنة وإلى يومنا هذا، لكننا لا نستطيع أن نرفعه من القرآن.

هناك فرق بين مثل هذه القضية التي ينبغي علينا أن تكون في كتابنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من الأمور التي ينبغي علينا أن نعتبرها أساسًا ودستورًا، وبين أن تطبق في الواقع الفعلي أو وجوب هذا الواقع الفعلي، هناك فرق كبير جدًا" (1).

وهذا الكلام كذب وافتراء؛ وذلك لأمور منها:

أولاً: من أين أتى د. علي جمعة بأن الحدود لم تقم في مصر ألف عام؟ هل ذكر المؤرخون ذلك؟ قد يكون الدافع لهذه الفرية أنه لم يقرأ تفاصيل وقائع إقامة الحدود في كتب التاريخ، أفيكون الجهل بالشيء دليلاً على عدمه؟؟!!! وهذه طريقة ملتوية يستخدمها د. علي جمعة في الاستدلال أحيانًا، فيستدل بعدم العلم بالشيء على عدم الشيء، بمعنى أن عدم علمه بحدوث الشيء دليل عنده على عدم الحدوث أصلاً، وهذا من العجب.

ثانيًا: بل أقيمت كل الحدود في مصر عبر تاريخها -عدا الفترة التي يفتخر بها د. علي

(1) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 200.

ص: 80

جمعة ويسميها بالدولة الحديثة- وهذا لا يحتاج لإثبات؛ لأنه الأصل في المسلمين، وعلى المخالف الدليل.

ثالثًا: بقليل من البحث نجد أن كتب التراث ذكرت كثيرًا من الجرائم التي أقيمت فيها الحدود، والأصل أنهم لا يتتبعون الحدود التي أقيمت إلا لمزيد فائدة في الحادثة؛ لأن أصل البيعة للحاكم تتضمن إقامة الحدود، فلا حاجة لذكرها، فمثلاً جاء في ذكر بيعة الظاهر بيبرس للخليفة العباسي:(أقبل الملك الظاهر إليه، وبايعه على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وأخذ أموال الله بحقها، وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود، وإقامة الحدود، وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين وحراسة المسلمين)(1).

يضاف إلى ذلك أن إقامة الحدود كانت تناط في كثير من الأحيان بأصحاب الشرط، والغالب أن كتب التاريخ تعنى بأحوال الحاكم نفسه لا أتباعه من الشرط والوزراء، حتى إن المؤرخين كانوا يمتدحون بعض الحكام بأن الحدود كانت تقام بين أيديهم، فمثلاً يقول ابن الأثير:(وكان ناصر الدولة ينظر في قصص الناس، وتقام الحدود بين يديه، ويفعل ما يفعل صاحب الشرطة)(2).

وكان الحاكم يُمتدح أحيانًا بحرصه الشديد على إقامة الحدود، وألا تأخذه في الله لومة لائم، كما وصفوا أيبك بن عبد الله الصالحي فقالوا:(وكان عنده كفاية، وخبرة تامة، وصرامة شديدة، ومهابة عظيمة، يقيم الحدود على ما يجب، لا يحابي في ذلك)(3). وكما وصفوا الشريف السيد سرور فقالوا: (يجلس للنظر في الأحكام، ولا تأخذه في الله لومة

(1) كتاب ذيل مرآة الزمان، ج2، ص178، ط دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة، الطبعة الثانية.

(2)

كتاب الكامل في التاريخ، ج7، ص121، ط دار الكتاب العربي- بيروت.

(3)

كتاب ذيل مرآة الزمان، ج3، ص132.

ص: 81

لائم، ويقيم الحدود ولو على أقرب الناس إليه) (1).

فإذا انضم للحادثة أن بها غرابة أو حيلة أو ما شابه ذلك، ذكروها، لا لسرد وتتبع الحدود، بل للغرابة التي ذُكرت في الحادثة؛ مثل ما ذكروه من أنه:(رُفع إلى محمد بن النعمان أن نصرانيًّا أسلم ثُمَّ ارتد وَقَدْ جاوز الثمانين، فاستتيب، فأبى، فأنهى أمره إلى العزيز، فسلَّمه لوالي الشرطة، وأرسل إلى القاضي أن يرسل أربعة من الشهود؛ ليستتيبوه، فإن تاب ضَمِنَ له عنه مائة دينار، وإن أصر فليقتل، فعرض عليه الإسلام، فأبى، فقُتل، ثُمَّ أمر بتغريقه في النيل)(2).

ومثل ما ذكروه أنه: (أُحضر بعض مسالمة النصارى، من الكتاب الأقباط، إلى باب القلعة من قلعة الجبل، وقد ارتد عن الإسلام، وعرف في إسلامه ببرهان الدين إبراهيم بن بُرَيْنيَّه مستوفي المارستان المنصوري، فعرض عليه الإسلام مرارًا، ورغب في العود إليه، فلم يقبل، وأصر على ردته إلى النصرانية، فسأل عن سبب ردته، فلم يبد شيئًا، فلما أيس منه ضربت رقبته بحضرة الأمير الطواشي شاهين الحسني، أحد خاصكية السلطان)(3).

ومثل ما ذكروه عن سرقة بعض المجاورين في الأزهر وأنه أقيم عليهم الحد وقطعت أياديهم، مع أن الأصل في المجاورين في الأزهر أنهم طلبة علم حسنة أخلاقهم مستقيمة سلوكهم فقالوا:(إن كتخدا بك أمر بقطع أيدي الثلاثة؛ وهم محمد بن أبي القاسم الدرقاوي، ورفيقه الصرماني، والصباغ الذي ثبتت عليه السرقة في الحادثة الأخرى، فقطعوا أيدي الثلاثة في بيت القبطان)(4).

(1) كتاب عجائب الآثار، ج2، ص69، ط دار الجيل- بيروت.

(2)

كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر، ج1، ص424، ط مكتبة الخافجي- القاهرة.

(3)

كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ج5، ص428، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

(4)

كتاب عجائب الآثار، ج3، ص349.

ص: 82

ومثل ما ذكروه من رجم رجل زنا بامرأة ولكنها ليست كأي امرأة، إنها امرأة علوية، فقالوا:(وفي ولايته رجم رجلاً خبازًا أصاب امرأة علوية من زناء، وكان رجمه بسوق الدواب بقرب الجامع الطولوني)(1).

رابعًا: أما ادعاؤه عدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقًا معينة للإثبات، فهذا باطل ومحال شرعًا وعقلاً وحسًا؛ فالله جل وعلا شرع الشريعة وأحكمها بما يصلح الناس ويطهرهم، ولا يتصور خلو مجتمع ما في جميع حوادثه من بينات ودلائل؛ فهذا ما يشهد الواقع ببطلانه، أضف لذلك أن كثيرًا من الجرائم تظهر وتبدو ويسهل الشهادة عليها، كما في كثير من حوادث شرب الخمر والقذف والقتل والحرابة، زد على ذلك كثرة الجناة الذين يرغبون في تطهير أنفسهم بالحد، فيُقرون بجرمهم، ويصرون على إقرارهم، ويجودون بأنفسهم لله جل وعلا، حتى يقام عليهم الحد، لعل الله أن يشملهم بعفوه ومغفرته.

خامسًا: هب أن الحدود لم تقم في مصر طيلة هذه المدة التي يذكرها، فماذا كان؟ هل هذا يرفع الإثم والعدوان عن الطغاة الذين أهملوا إقامتها؟ وكم من أمم في الأرض كفرت بالله طيلة تلك المدة ودانت بغير الإسلام، فكان ماذا؟ أكان هذا طعنًا في دين الإسلام؟ وكم من بلد نشأت أجيالها على الغلو والبدعة فكان ماذا؟ هل تحولت البدعة إلى سنة.

* وليستدل د. علي جمعة على دعواه الباطلة بأن الحدود لم تقم منذ ألف سنة، قصد إلى كتب التاريخ فانتزع منها إحدى القصص، ونسج بها عددًا من الأوهام والزيادات التي لم تقع، فقال: "لم نرجم زانيًا منذ ألف سنة، ومنذ ألف سنة لم يقم حد الزنا في مصر هذه من قبل عصر المماليك، حتى جاء قنصوه الغوري في القرن العاشر الهجري

(1) كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر، ج1، ص425.

ص: 83

وتعجب: لم لا نقيم الرجم هنا؟ وأراد أن يحيي مآثر الأولين في إقامة حدود الله، ونبه على القضاة أنكم إذا أمسكتم بزان فأخبروني حتى أقيم عليه حد الرجم، فأمسكوا بزان غير محصن، وغير المحصن عليه الضرب والجلد فقط، وليس عليه الرجم، فقال: على كل حال ارجموه، قالوا: هذا بخلاف شرع الله! فعزل القاضي وأتى بقاض آخر فرفض، فذهب إلى محبس الرجل وأخذه فرجمه ظلمًا وعدوانًا وطغيانًا، حتى دخلت عليه العثمانية، وقالوا: إن ملكه قد ذهب لأنه خالف شرع الله" (1) والدكتور علي جمعة حرف حكاية قنصوه الغوري تحريفًا شديدًا، فليس فيها من قريب أو بعيد أن الحدود لم تكن تقام، ولا أن من اتهم بالزنا لم يكن محصنًا، والإشكال في القصة أنه اعترف بالزنا ثم أنكر، والذي يدل على تدليس د. علي جمعة أن من اتهم بالزنا لم يرجم أصلاً، بل شنق وصلب، والصلب حد الحرابة لا الزنا!! والغوري حاكم ظالم قتل من العلماء من قتل ظلمًا وعدوانًا، والقصة كما وردت في كتب التاريخ هي:(حصل منه أذية بالغة للبرهان بن أبي شريف عالم مصر يومئذ، ومفيدها بسبب الرجل الذي رمي بالزنا، فأقر بالتهديد والضرب، ثم أنكر، فأفتى ابن أبي شريف بعصمة دمه، وعدم رجمه، فغضب عليه الغوري بسبب ذلك، وعزله من مدرسته التي جددها بالقاهرة، وصلب الرجل على باب شيخ الإسلام ابن أبي شريف حتى جزع الناس له)(2) وفي تفصيل أكثر قالوا: (إن رجلاً اتهم أنه زنا بامرأة، فرفع أمرهما إلى حاجب الحجاب بالديار المصرية الأمير أنسبائي، فضربهما فاعترفا بالزنا، ثم بعد ذلك رفع أمرهما إلى السلطان الغوري، فأحضرا

(1) كتاب الوحي - القرآن الكريم، ص 149.

(2)

كتاب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، ج1، ص296، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

ص: 84

بين يديه، وذكرا أنهما رجعا عما أقرا به من الزنا قبل ذلك، فعقد السلطان لهما مجلسًا جمع فيه العلماء والقضاة الأربعة، فأفتى شيخ الإسلام برهان الدين صاحب الترجمة بصحة الرجوع، فغضب السلطان لذلك، وكان المستفتي القاضي شمس الدين الزنكلوني الحنفي، وولده، فأمر السلطان بهما، فضربا في المجلس حتى ماتا تحت الضرب، وأمر بشنق المتهمين بالزنا على باب صاحب الترجمة، فشنقا، وعزل صاحب الترجمة من مشيخة القبة الغورية والقضاة الأربعة الكمال الطويل الشافعي، والسري بن الشحنة الحنفي، والشرف الدميري المالكي، والشهاب الشبشتي الحنبلي، وكانت هذه الواقعة سبباً لتكدر دولة الغورية، وتبادي انحلال ملكه حتى قتل بعد سنتين بمرج دابق) (1) فلا شبهة دليل في القصة على أن الحدود لم تكن تقام، ولكن هذه الزيادة من تأليف د. علي جمعة.

* ثم أكمل د. علي جمعة تفلسفه فقال: "قد يوصف العصر بصفات تجعل الاستثناء مطبقًا بصورة عامة، في حين أن الاستثناء بطبيعته يجب أن يطبق بصورة مقصورة عليه، من ذلك وصف العصر بأنه عصر ضرورة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شبهة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر فتنة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر جهالة، وهذه الأوصاف تؤثر في الحكم الشرعي".

ودعواه أن العصر قد يوصف بصفات تجعل الاستثناء مطبقًا بصورة عامة تلاعب بالألفاظ، فكيف نصف عصورنا الحالية بهذه الصفات، مع استحالة اتفاق جميع الأفراد والأمصار في أحوالهم، إن هذه محاولة لنسف أصول الشريعة بمثل هذه الكلمات الجوفاء.

ما معنى عصر الضرورة؟ وما الضرورة؟ وما ضوابطها؟ وما تطبيقاتها؟

(1) كتاب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، ج1، ص103.

ص: 85

ما معنى عصر الشبهة؟ ما معنى عصر الفتنة؟ ما معنى عصر الجهالة؟

إن ديدن المبتدعة هو التكلم بالكلام المجمل، سعيًا في إبطال المفصل، وانقضاضًا على دين الله جملة وتفصيلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* ثم أكمل د. علي جمعة فقال: "فالضرورة تبيح المحظور، حتى لو عمت واستمرت، ولذلك أجازوا الدفن في الفساقي المصرية مع مخالفتها الشريعة".

هل الضرورة هي التي جعلت كثيرًا من الحكومات تعلم الأطفال مذاهب الكفر والإلحاد في المدارس؟

هل الضرورة هي التي جعلت كثيرًا من الحكومات تشجع الردة والمرتدين، وتكرم الزنادقة الطاعنين في دين الإسلام، وتعطيهم أرفع أوسمة الدولة؟

هل الضرورة هي التي اقتضت أن تنتشر محلات بيع الخمور في طول البلاد وعرضها؟

هل الضرورة هي التي تحارب الزواج المبكر، وفي المقابل تنشر الفاحشة وتيسرها إلى أبعد الحدود؟

إن المبدلين للشريعة بحجة الضرورة يستنون بمن قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1).

إن هذه الضرورة المُدَّعاة هي مثل إفك الكفار الذين عادَوا الإسلام بحجة الخوف على مصلحة أنفسهم وأهليهم من اعتداء إخوانهم الكفار عليهم إن هم أسلموا: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (2)، ومثل تخاذل الكافرين الذين أخبرنا الله

(1) سورة الأعراف، الآية 28.

(2)

سورة القصص، الآية 57.

ص: 86

جل وعلا عنهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1).

* وأكمل د. علي جمعة قائلاً: "والشبهة تجيز إيقاف الحد، كما صنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة؛ حيث عمت الشبهة بحيث فُقد الشرط الشرعي لإقامة الحد".

إن الشبهة التي تدرأ الحد هي الشبهة التي اعتبرها الشرع، وليست الشبهة تلاعبًا عقليًا يسوغ الاحتمالات ويوجد المبررات، بل هي أمور تلتبس فعلاً بالموقف، وتتداخل في تفاصيله، وتؤثر في مجريات الأمور.

ودرء الحد بالشبهة ليس تبديلاً للشرع كما هو حال الظلمة الفجرة، بل هو تحر وتبين وتقصي.

ثم إن الشبهات تلتبس بالوقائع لا التشريع، بمعنى أن الشبهة تمنع من استحقاق هذا المذنب لهذا الحد، لا أنها تمنع الحدود، وتسوغ الجرائم، وتشجع المنكر، كما هو حال القوانين الكفرية.

ثم ما تفاصيل الشبهات التي تنفي وجوب إقامة الحدود المتنوعة على عموم المجرمين؟ أم أن المراد استغلال كلمة الشبهات لتعطيل الحدود جملة وتفصيلاً.

أما محاولة التمسح بما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالمراد التغبيش به لا حقيقة الاستدلال؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يلغ حدًا ولم يوقفه، وإنما لم تتوفر شروط إقامة الحد فدرأ الحد بالشبهة لمن توفرت فيه الشبهة، لا أنه ألغى الحدود جملة وتفصيلاً، وفتح الباب للزنادقة يسخرون من الحدود، ويصفونها بأبشع الصفات، ويستهزئون من الدعاة إلى تطبيقها،

(1) سورة آل عمران، الآية 156.

ص: 87

ويتهمونهم في تفكيرهم وعقولهم، كما يفعل البعداء الذين لا خلاق لهم ولا دين من أدعياء الزعامة اليوم، ويأتي أحد أدعياء العلم ويذكر أن الشبهة لحقت بالبلاد والعباد!!

والذي فهمه العلماء أن عمر درأ الحد عندما كثرت الحاجة عمن يظن لحوق الشبهة به، كما قال الإمام أحمد لمن سأله عن هذا الأثر الذي روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لا أقطعه، إذا حملته الحاجة، والناس في شدة ومجاعة)(1)، وقال الماوردي الشافعي:

(إذا سرق السارق في عام المجاعة والقحط، فعلى ضربين؛ أحدهما: أن يكون لغلاء السعر مع وجود الأقوات، فالقطع واجب على السارق، ولا تكون زيادة الأسعار مبيحة للسرقة، ولا مسقطة للقطع. والضرب الثاني: أن يكون لتعذر الأقوات وعدمها، فإن سرق ما ليس بقوت قطع، وإن سرق قوتًا لا يقدر على مثله لم يقطع، وكانت الضرورة شبهة في سقوط القطع، كما كانت شبهة في استباحة الأخذ، روي عن ابن عمر أنه قال: لا قطع في عام المجاعة، ولا قطع في عام سنة)(2) وقال ابن القيم: (ومقتضى قواعد الشرع إذا كانت السنة سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانًا على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانًا؛ لوجوب المواساة، وإحياء النفوس، مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل، مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج

وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به، وهو مستغن عن السرقة، قطع) (3). فهذا فهم العلماء لما يروى عن عمر أنه درأ الحد عمن يظن

(1) كتاب المغني لابن قدامة، ج9، ص118، ط دار إحياء التراث العربي.

(2)

كتاب الحاوي الكبير للماوردي، ج13، ص313.

(3)

كتاب إعلام الموقعين لابن القيم، ج3، ص17 - 18، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

ص: 88

لحوق الشبهة به، وعدم توفر شروط قطع يده.

ثم هل درأ عمر رضي الله عنه حد السرقة عام الرمادة أصلاً؟؟ إن مثل هذه الروايات لم ترد في أكثر الكتب المعتمدة، ولم تشتهر عند كثير من أهل العلم، حتى قال ابن الملقن:(عن عمر رضي الله عنه أنه لا قطع في عام المجاعة، وهذا الأثر لم أره في كتب السنن المسانيد، ورأيت من عزاه إلى السعدي والراوي عن الإمام أحمد؛ فقال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حسان بن زاهر، أن ابن حدير حدثه، عن عمر، قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة)(1).

ورواية عدم القطع في عام السنة وردت في مصنف عبد الرزاق، وفي مصنف ابن أبي شيبة، وفي جامع الجوزجاني، من طرق فيها انقطاع وفيها من يحتاج إلى توثيق؛ لأنه لا يكاد يعرف، والدكتور علي جمعة ممن يردون أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في قمة الصحة؛ لأنها تخالف في زعمه القرآن أو العقل .. فما باله يقبل مثل هذا الإسناد المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويريد أن يفهمه بطريقة تهدم جانبًا عظيمًا من جوانب الشريعة المطهرة؟!.

ثم ما علاقة حد السرقة وعام الرمادة بحد الزنا والقتل والحرابة والقذف!!! ألحقت الشبهة مرتكبي هذه الجرائم كذلك؟!

ثم هل أي غلاء يسمى مجاعة وعام الرمادة؟! إن معظم اللصوص اليوم لا يدخلون تحت مفهوم شبهة المجاعة لا من قريب ولا من بعيد، وأكثرهم يسرق استكثارًا أو لتلبية أغراضه الخاصة، أو للإنفاق على نزواته الشخصية.

لقد كان عام الرمادة عام مجاعة لا كأية مجاعة، حيث إن الجوع كان قبل عام الرمادة

(1) كتاب البدر المنير، ج8 ص679.

ص: 89

يصيب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يربطون الحجر على بطونهم، أما في عام الرمادة فقد هلك كثير من الناس، بل وهلكت كثير من الماشية والأنعام؛ فأين نحن من هذا؟

* ثم تابع د. علي جمعة قائلا: "والإمام جعفر الصادق والكرخي من الحنفية وغيرهما أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهر؛ لإطباقهن على عدم الحجاب، حتى صار غض البصر متعذرًا إن لم يكن مستحيلاً".

وهذا كذلك كذب في كذب، فكيف يسقطون حرمة النظر للنساء العاريات في تلك البلاد!! ومن أين أتى بهذا النقل عن الإمام جعفر الصادق؟ أمن كتب السنة أم من أكاذيب الروافض؟ وأين هو النقل عن الكرخي؟.

إن سبري لأغوار كتابات د. علي جمعة يجعلني مطمئنًا إلى أن هذا الكلام فيه افتراء عليهم، وتحريف للنصوص.

لقد فتح المسلمون كثيرًا من بلاد الكفر، وظل كثير من أهلها في مصر والشام والعراق والمغرب على الكفر، ولم تظهر في هذه البلاد مشكلة النساء التي يدعي أنها ظهرت في بلاد ما وراء النهر.

وستأتي إن شاء الله مناقشة فتواه في جواز نظر الرجل الصالح في بلادنا للنساء المتبرجات!!!

* ثم قال د. علي جمعة: "ونص الإمام الجويني في كتابه الغياثي على أحوال عصر الجهالة، وفصل الأمر تفصيلاً عند فقد المجتهد، ثم العالم الشرعي، ثم المصادر الشرعية .. فماذا يفعل الناس؟ ".

نعم تكلم الجويني عن ذلك، ولكنه لم يقل بتعطيل الشريعة، ولم يقل بالحكم بأحكام الطواغيت؛ بل الجويني يؤكد على التزام كل ما علم من أحكام الشريعة، بلا تفريط في

ص: 90

أية جزئية منها، حتى لو ظن متفيقه أن المصلحة في غير الشريعة، يقول الجويني:(لا يخفى على من شدا طرفًا من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة، وقواعدها معدودة محدودة، فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والآي المشتملة على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية، ونحن نعلم أنه لم يفوض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون، فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع وارد بتحريمه، فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب، ثم نعلم مع ذلك أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين)(1).

فأين هذا الكلام من ذاك التشويش؟!

ثم هل نحن الآن في عصر خلا من المجتهد، ثم العالم الشرعي، ثم المصادر الشرعية؟!! لو كان د. علي جمعة يرى ذلك فليرحنا من أطروحاته، فقد اعترف بأنه ليس عالما شرعيًا ولا توجد لديه مصادر شرعية، وإن لم يكن الأمر كذلك فلماذا ذكر هذا الكلام؟؟!.

* ثم قال د. علي جمعة: "ويتصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم كالرازي في المحصول بالنسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحل في الحكم، وهو تعبير أدق؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكام المستقرة وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله؛ فالأمر بالوضوء جعل غسل اليد إلى المرفقين من أركانه، فإذا قطعت اليد تعذر التطبيق أو استحال، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة

(1) كتاب غياث الأمم، ص269 - 270، ط دار الدعوة- الإسكندرية، الطبعة الثالثة.

ص: 91

الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النقدين بمفهومهما الشرعية من ذهب أو فضة وغير ذلك كثير".

وهو يقول في نفس المعنى ولكن في كتاب آخر: "الخطاب الموجه إلى خليفة المسلمين بعد انهيار الخلافة قد فقد محله؛ حيث لا خليفة بالمعنى المعروف عند المسلمين"(1) ويقول: "انهارت الخلافة الإسلامية في صورة انهيار الخلافة في الدولة العثمانية في 6 مارس سنة 1924م على يد كمال أتاتورك، ولم يعد للمسلمين خليفة، مع فشل كل الأنظمة المقترحة البديلة في القيام بمهام وظيفة الخلافة"(2) ثم قال: "ومثال العام الذي قد حدث، حال المسلم المار أو المقيم ببلاد القطب الشمالي حيث لا تغيب الشمس، أو تختل علامات الأوقات، فلا يوجد وقت لصلاة معينة، فيكون قد فقد المفعول فيه، أو فقد الأمة للخليفة المأمورة بطاعته والجهاد تحت رايته"(3). ويقول: "إن تعذر إيقاع الحكم في الخارج لذهاب محله يشتبه عند بعضهم بتعذر إقامة الشريعة لظروف طارئة تكتنف المسلمين في بعض البلاد، والفرق بينهما واضح، فذهاب المحل يحيل عقلاً إيقاع الحكم، في حين أن تعطيل إقامة الشريعة لعدم تمكن فعلها يرجع إلى العادة لا إلى العقل، حيث يمكن تطبيقها حينئذ مع شدة أو حرج أو حتى بطريقة يترتب معها الهلاك، وهذا مختلف تمامًا عما نحن فيه. ومن الممكن ارتكابًا لأخف الضررين، أو لفقد الشروط، أو قيام الموانع، أو العمل على

(1) كتاب الحكم الشرعي، ص 150.

(2)

نفس المصدر.

(3)

نفس المصدر.

ص: 92

تحقيق مقاصد الشريعة العليا، الوقوع مؤقتًا تحت مسألة تعطيل الشريعة من باب إيقاف العمل بالحكم" (1)

إن د. علي جمعة يسير في حلقة مفرغة؛ فإذا تكلم العلماء الثقات عن أن كثيرًا من الحكام المعاصرين ليسوا ولاة أمر شرعيين؛ لأنهم لم يقوموا على سياسة الدنيا بالدين، وجدنا د. علي جمعة يقول بوجوب طاعة الحكام المعاصرين؛ لأنهم ولاة الأمر، ولأن الولاية منعقدة لهم، وآثارها مترتبة على حكمهم، وكتب مقالة يعيب فيها من يمدحون مجرد مدح من يخالفون القوانين (2)، ثم إذا قلنا بوجوب الرجوع لأحكام الشريعة واتخاذها منهاجًا للحياة لتصح إماراتهم، أتى بدعوى عجيبة مفادها أن هؤلاء لا يجب عليهم ما يجب على الخلفاء المسلمين؛ لأن الخلافة سقطت منذ أمد، وكأن خطاب الشرع موجه لفئة محددة فقط، وكأن الدول الإسلامية التي انشقت عن دول الخلافة بدءًا من الدول والدويلات الكثيرة التي انشقت عن الخلافة العباسية لم تكن تحكم بالشرع وإنما كانت تحكم بعادات قريش وأهوائها!!!

ولا أدري هل كلامه يعني عدم وجوب الجهاد لعدم وجود الخليفة كما هو صريح كلامه؟

إن هذا الكلام تقر به أعين الزنادقة والملحدين والحكام الظالمين؛ لأنه يصحح حكمهم ويخلي عنهم المسئولية التي تناط بهم من إقامة الدين والجهاد في سبيله وإقامة الحدود ووو.

ونص كلامه واضح في أن الهدف هو الوقوع تحت تعطيل الشريعة تحت أية دعوى؛ سواء كانت هذه الدعوى ذهاب المحل ويعني بذلك فقد الخليفة، أم كانت هذه الدعوى ارتكاب أخف الضررين أو فقد الشروط أو قيام الموانع أو تحقيق مقاصد الشريعة

أو

(1) كتاب الحكم الشرعي، ص 154.

(2)

مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مدح مخالفة القانون، بتاريخ 12 - 11 - 2007م ..

ص: 93

أية ذريعة، المهم هو تعطيل الشريعة؟! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

* ثم قال د. علي جمعة: "من أجل الوصول إلى تنفيذ حكم الشرع، ومراد الله سبحانه منه، والوصول إلى طاعة الله ورسوله، يجب علينا أن ندرك الواقع، ورد في شعب الإيمان من موعظة آل داود عليه السلام عن وهب بن منبه يقول: وعلى العاقل أن يكون عالمًا بزمانه ممسكًا لسانه مقبلاً على شأنه".

وهذا كذلك يراد منه التلبيس والتدليس، فكلمة إدراك الواقع كلمة عامة، ومن مصلحة المتكلم بها أن تكون عامة فضفاضة تحتمل أي معنى؛ لأن التفصيل يكشف حقيقة الأقوال ويسبر أحوالها، فماذا يريد بإدراك الواقع؟؟ ومعلوم أن الإسلام أتى للوقائع المتجددة عبر الزمان والمكان، وأن الله جل وعلا تكفل بحفظ دينه وتكفل ببعث المجددين والأئمة المهديين، لا كما يقول الزنادقة: إن الإسلام شريعة كانت صالحة لزمانها لكنها لا تتلاءم مع الواقع المعاصر، وإن على المسلمين أن يواروا الشريعة في هذا العصر، وأن يفسحوا المجال للحضارة الأوربية بمناهجها المختلفة إدراكًا للواقع!!

* ثم قال د. علي جمعة: "ومن هنا فإن الفقهاء نصوا على أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على العرف (نص المادة 90 من مجلة الأحكام العدلية)، وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين، فتغيرت الأحكام بتغير المكان، وقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، المأخوذة من قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) تجعل الشأن يتغير بتغير الأحوال، وكذلك تتغير هذه

(1) سورة الأنعام، الآية 145.

ص: 94

الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباري حيث لا نفس له ناطقة، وهذه الجهات الأربع وهي: الزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال، هي التي نص عليها القرافي كجهات للتغير يجب مراعاتها عند إيقاع الأحكام على الواقع".

هل أصول أحكام الشريعة وأوامره ونواهيه، المتعلقة بالحكم الإسلامي مبنية على العرف؟!!!

وهل تمت تنحية الشريعة من أجل تغير العرف؟

وهل الضرورة مهرب تعلق عليه كل المظالم؟!!

وهل الضرورة هي محاربة الإسلام وشرعته استمساكًا بمقاليد الحكم، والتضحية بكل القيم الشريفة، والمعاني النبيلة، من أجل الحكم؟!!

وإذا كان الفقهاء يشترطون في الإكراه شروطًا عديدة، وينصون على حرمة قتل المسلم بدعوى الضرورة والإكراه، فكيف بمن لا يبالي بالإسلام والمسلمين أهو مضطر؟؟

أما مسألة أن الأحناف يجيزون العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين فهذا افتراء على الأحناف كما سيتبين عند مناقشة فتواه في هذا الأمر.

وتغير الأحوال والظروف هل هو تلكؤ لطي صفحة التشريعات الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان جملة وتفصيلا.

وهل الحديث والجدال الدائر بين المسلمين والعلمانيين هو عن تفاصيل الأحكام وأقوال الفقهاء والترجيحات المذهبية، أم عن مبدأ تطبيق الشريعة والتزام أحكامها؟

إن القضية هي الالتزام بشرع الله جل وعلا؛ لأنه شرع الله، لا الحكم بالطاغوت ثم أمر بعض أدعياء الفقه -والفقه منهم براء- بأن يجدوا مخارج للأحكام التي اشتهاها الحاكم، وما لم يجدوا له مخرجا فليضعوه في دائرة الضرورة أو المصلحة وما شابه ذلك،

ص: 95

فإن لم يجدوا مخرجا وبقي عدد من الأحكام الطاغوتية، فليقولوا: هو خطأ بشري خرج من القائد الهمام، عظيم المقام، الذي سار بالأمة سلما وحربا، وأقام نهضتها برا وبحر وجوا، وحكَّم الشريعة بنسبة تسعين في المائة، وعلى الأمة أن تعرف له قدره وتتجاوز له عن هفوته وخطئه!!!

* ثم قال د. علي جمعة: "ومعلوم أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور، منها كم الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة، التي جعلت البشر يعيشون وكأنهم في قرية واحدة، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مطردة لا تنقص أبدًا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا، ومنها كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه أو باعتباره جزءًا من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائمًا في وسط هذه الحالة التي ذكرناها، وسمات العصر هذه ونحوها غيرت كثيرًا من المفاهيم، كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة، ومفهوم السياسة الشرعية؛ فلا بد من إدراك ذلك كله حتى لا تتفلت منا مقاصد الشريعة العليا".

هذا يشبه كلام كثير من أعداء الإسلام، الذين يسخرون من الماضي، ويهولون من الحاضر، ويحاولون إيجاد الفروق بين الماضي والحاضر؛ ليصلوا لنتيجة مفادها أن أحكام الشريعة تخالف مقاصد الشريعة، وأنهم يطبقون مقاصد الشريعة بترك الإسلام وراءهم ظهريا!!!

وهل القضية التي مايزت بين المسلمين والمنافقين، هي إدراك الواقع، أم هي رغبة المنافقين في الانفصال عن الشريعة؟

* ثم حاول د. علي جمعة استعراض بعض نظم الحكم المعاصرة، كنظام الحكم في

ص: 96

السعودية والسودان وإيران؛ ليصل منها إلى أنه لا يوجد تطبيق حقيقي للحدود في غالب دول العالم الإسلامي.

ونحن نردد قول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (1).

ومتى كانت كثرة الباطل مبررًا للعمل بالباطل؟

ومتى كانت جرائم البشر حجة على الشريعة وناقضًا لها؟!

* ثم قال د. علي جمعة: "كما أن الشهود المعتبرين شرعًا لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد قد فُقدوا من زمن بعيد؛ فيورد التنوخي في كتابه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة في معنى غياب العدول من الشهود فيقول: حدثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله المعروف بابن نصرويه، قال قبل التيمي القاضي كان قديمًا عندنا بالبصرة ستة وثلاثين ألف شاهد في مدة ولايته. ويقول في موضع آخر: سمعت قاضي القضاة أبا السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى يقول: الشاهد إذا لم تكن فيه ثلاث خلال .. إلى أن قال: ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف ناس، ليس فيهم إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم".

وهو بهذا الكلام يخبط خبط عشواء، وينقل أي شيء؛ لعل أحدًا يظن بكلامه خيرًا.

إن دعواه فقد الشهود المعتبرين شرعًا لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد من زمن بعيد،

(1) سورة الأنعام، الآية 116.

ص: 97

هو ضلال مبين، وهو يريد أن يقول بعدم وجود مسلم عدل، وأن صفة العدالة فقدت من أمة الإسلام!! ولعل هذا يفسر ما يقترفه في كتاباته من تلفيق وأباطيل.

أما ما نقله من كتاب نشوار المحاضرة، فما مضمون كتاب نشوار المحاضرة؟؟!! إنه كتاب من كتب الأدب، يحكي فيه مؤلفه ما سمعه من غرائب وعجائب وملح ونوادر، بهدف التسلية والترف العقلي والفكري، فمثلاً يحكي مؤلف نشوار المحاضرة عن طريف حيل اللصوص أن أحد اللصوص:(كان يدخل الدار الآهلة نهارًا، ويعتمد التي فيها النساء، ورجالهم خارجون، فإن تمت له الحيلة، وأخذ منها شيئًا انصرف، وإن فُطن له، وجاء صاحب الدار، أوهمه أنه صديق زوجته، وأنه بعض من غلمان القواد، ويقول له: استر علي هذا عند صاحبي، وعلى نفسك، ويتزيا بالأقبية، يوهم الرجل أنه لا يمكنه رفعه إلى السلطان في الزنا، إن اختار فضيحة نفسه، وكلما ادعى عليه اللصوصية، صاح بهذا الحديث، فيجتمع الجيران، فيشيرون على الرجل بالستر على نفسه، وكلما أنكر ذلك، قالوا: هذا محبةً بزوجته، ويُخَلِّصون اللص من يده، حتى ربما أجبروه على صرفه، وكلما جحدت المرأة، وحلفت، وبكت، وأقسمت أنه لص، كان ذلك أدعى لهم إلى تخليته، فيتخلص، ويعود الرجل، ويطلق زوجته، ويفارق أم ولده، فأخرب غير منزل، وأفقر آخرين بهذا، إلى أن دخل دارًا فيها عجوز، لها أكثر من تسعين سنة، ولم يعلم، وأدركه رب البيت، فأخذ يوهمه ذلك، فقال: يا كشخان ليس في الدار إلا أمي، ولها تسعون سنة، وهي منذ أكثر من خمسين سنة قائمة الليل صائمة النهار طول الدهر، أفتراها هي عشقتك، أم أنت عشقتها؟ وضرب فكيه، واجتمع الجيران، فقال اللص ذلك، فكذبوه، لما يعرفون به المرأة من الدين والصلاح، فضرب، وأقر الصورة، فحمل إلى السلطان)(1).

هذا هو كتاب نشوار المحاضرة الذي يستدل بحكاياته د. علي جمعة ليدعي ادعاءاته الـ

(1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص105 - 106، ط دار الكتب العلمية- بيروت.

ص: 98

وقد اقتص د. علي جمعة من هذا الكتاب جزءًا من الحكايتين اللتين ذكرهما حتى لا نرى النوادر والغرائب التي بهما، والحكاية الأولى كما وردت في نشوار المحاضرة هي:(حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله المعروف بابن نصرويه، قال: قبل التيمي القاضي كان قديمًا عندنا بالبصرة ستة وثلاثين ألف شاهد، قي مدة ولايته، فقلت له: هذا عظيم، فكيف كان ذلك؟ فقال لي: كان القضاة على مذهب أبي حنيفة وغيره من الفقهاء، في أن الناس كلهم عدول، على الشرائط التي تعرفها، وكان يشهد الناس عند التيمي بأسرهم، فإذا سمع شهاداتهم، سأل عنهم، فيزكون، فيقبلهم، وكان الناس يشهد بعضهم لبعض، من الجيران، وأهل السوق، ولا نعرف ترتيب قوم مخصوصين للشهادة، إلى أن ولي إسماعيل، قال: وكان مبلغ من قبله التيمي ستة وثلاثون ألف شاهد، منهم عشرون ألفاً لم يشهدوا عنده إلا شهادة واحدة)(1) والخبر الثاني الذي اقتطع بعضه ووضع نقاطًا في الموطن الذي يدل على التندر هو قول التنوخي: (سمعت قاضي القضاة أبا السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى يقول: الشاهد إذا لم تكن فيه ثلاث خلال من خلال أهل النار صار هو من أهل النار، فقلت له: ما هي؟ فقال: قلة الحياء؛ لأن الشاهد إذا كان مستحيًا أجاب إلى كل محال يسأله، فيذهب دينه، ويصير من أهل النار، والحياء في الأصل من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنة، كما روي في الخبر، فقلة الحياء من خصال أهل النار، فهذه واحدة. والثانية: أنه يحتاج أن يكون فيه سوء الظن؛ لأنه متى أحسن ظنه تمت عليه الحيلة والتزويرات، فيشهد بالمحال، فيدخل النار، وإذا كان سيئ الظن سلب، وسوء الظن في الأصل إثم، كما قال الله تعالى، والإثم من خصال أهل النار. وذكر الأخرى وقد أنسيتها أنا. ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف الناس، ليس فيهم

(1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص177.

ص: 99

شهود إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم) (1).أرأيتم كيف يدافع عن الحكم بالطاغوت بهذه النوادر!!!

لو كان هذا الكلام يروى على أنه حديث نبوي لحكم علماء الحديث عليه بالضعف، ولكن د. علي جمعة يستدل به، وعلى ماذا يستدل؟ إنه يستدل على خلو الأرض من رجل عدل!!

ثم هل قلة الشهود العدول تعني التحاكم إلى الطاغوت؟ وأين طرق الإثبات والبينات التي زخر بها تراثنا الإسلامي؟

وهل قلة الشهود تحول الزنا من أمر منكر إلى حرية شخصية لا عقاب فيها، شريطة ألا يكون مع الأطفال، وأن يكون برضا الطرفين في مسكن غير مسكن الزوجية، وألا يتخذ مهنة، كما ينص على ذلك القانون الطاغوتي؟!!!.

* ثم قال د. علي جمعة: "والتفتيش للوصول إلى الحقيقة التي تؤدي إلى إقامة الحد ليس من منهاج الشريعة، فإن ماعزًا أتى يقر على نفسه، فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه أربع مرات، ثم أحاله على أهله لعلهم يشهدون بقلة عقله أو جنونه، ثم أوجد له المخارج، ولما جزع وفر أثناء إقامة الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:(هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه)(2)، وأخذ العلماء من هذا جواز الرجوع عن الإقرار ما دام في حق من حقوق الله، وليس بشأن حق من حقوق البشر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن الطرف الآخر للجريمة وهي المرأة التي زنا بها، ولم يفتش عنها، حتى كنوع من

(1) كتاب نشوار المحاضرة، ج1، ص421.

(2)

رواه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك.

ص: 100

أعمال استكمال التحقيق. وروي عن أبي بكر وعمر وأبي الدرداء وأبي هريرة أن السارق كان يؤتى به إليهم فيقولون له: (أسرقت؟ .. قل: لا) ".

إن د. علي جمعة يتكلم في شروط إقامة الحدود ليطعن في إقامة الحدود، مع أن العلماء الذين ذكروا هذه الأمور هم هم الذين يتكلمون عن وجوب تطبيق الحدود على من توفرت فيه الشروط، فهم حريصون على أن تطبق الحدود على الوجه الأكمل بلا أدنى شائبة، وشتان بين هذه النية وتلك!! شتان بين من يريد أن يقيم شرع الله وحدوده على الوجه الأكمل، وبين من يريد التهجم على من يدعو لإقامة الحدود ويصول ويجول في ذكر الشبهات دون أن ينبس ببنت شفة في الدعوة إلى تصحيح القوانين القائمة.

* ثم قال د. علي جمعة: "فالنص على الحدود كما ذكرنا يفيد أساسًا تعظيم الإثم الذي جعل الحد بإزائه، وأنه من الكبائر والقبائح التي تستوجب هذا العقاب العظيم، ويؤدي ذلك إلى ردع الناس عن هذه الجرائم، على حد قوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (1)، ويكمل الحد في هذا الشأن الضبط الاجتماعي الذي يتولد من الثقافة السائدة لدى الكافة باستعظام هذه الآثام، ونبذ من اشتهر بها أو أعلنها أو تفاخر بفعلها، كما أن الشرع فتح باب التوبة، وأمر بالستر في نصوص عديدة من الكتاب السنة".

الحدود الشرعية فرضها الله ليلتزم المسلمون إقامتها، وأما الحِكم المترتبة على ذلك فلا يحصيها إلا الله جل وعلا، ومَن فتح باب التوبة وأمر بالستر هو سبحانه الذي شرع كذلك إقامة الحدود، فعلى المسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا.

(1) سورة الزمر، الآية 16.

ص: 101