المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم - الدكتور علي جمعة إلى أين

[طلحة محمد المسير]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌الفصل الأولبعض أساليب الدكتور علي جمعة في الإقناع

- ‌أولا: التطاول على المخالفين

- ‌ثانيًا: التناقضات

- ‌ثالثًا: تحريف النقول

- ‌رابعًا: الكلام المحتمل والمصطلحات الفضفاضة

- ‌خامسًا: ذكر صفات الباطل بدقة ثم التلبس ببعضها

- ‌سادسًا: الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة

- ‌سابعًا: الإبهار

- ‌ثامنًا: القواعد والأصول المخترعة

- ‌عاشرًا: الإكثار من الشبهات

- ‌الفصل الثانيرؤيته للعلاقة بين الإسلام والواقع

- ‌أولاًً: التحاكم إلى الشريعة

- ‌أ- كلامه عن تطبيق الشريعة في كتاب:(البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل)

- ‌ب- كلامه عن تطبيق الشريعة في مقالات التجربة المصرية

- ‌جـ- طعون الدكتور علي جمعة المتفرقة المتعلقة بتطبيق الشريعة

- ‌ثانيًا: الجهاد في سبيل الله

- ‌ثالثًا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم

- ‌رابعًا: المعاملات المالية

- ‌خامسًا: الشيعة

- ‌سادسًا: التصوف

- ‌سابعًا: الأدب مع الله عز وجل ومع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌ثامنًا: فتاوى المرأة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ثالثا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم

‌ثالثًا: التعامل مع الكفار والعيش في بلادهم

وضع الإسلام الضوابط التي تحدد سلوك المسلم وتحكم تصرفاته، سواء عاش هنا أو هناك، وسواء تعامل مع مسلمين أو كافرين؛ فلكل حالة أطرها، ولكل أمر متعلقاته.

وتزخر كتب الإسلام بتفصيل أحكام معاملة الكافرين؛ والتفريق بين أهل الذمة، والمعاهدين، والمستأمنين، وأهل الحرب، والصلح، والأمان، والهدنة

أما عند د. علي جمعة فتختلط كثير من الأمور وتتداخل وتلتبس، مما يؤدي لنتائج مشوهة مستهجنة.

* قال د. علي جمعة: "ومن الملاحظ أن استعمال الفقهاء المسلمين لكلمة دار الكفر وكلمة دار الحرب كان استعمالاً زمنيًا؛ حيث إن تلك البلاد كانت تناصب المسلمين العداء، وتغزو بلادهم، أو تشردهم من أوطانهم، كما حدث في الحروب الصليبية، وكما حدث في الأندلس من إبادة المسلمين، وإكراههم على الارتداد، وطردهم من أوطانهم التي استقروا فيها مئات السنين، وسميت بعض الديار بدار الكفر؛ لأنهم كانوا يمنعون من الدعوة إلى الإسلام ومن إقامة المسلمين فيها، أما وقد تغير الحال فإننا نرى العالم لا يأبى إقامة المسلمين فيه، ولا يرفض دعوة الإسلام، والتعبير بحرية عن معتقداتهم، وإقامة شعائرهم، وليست هناك حرب معلنة بين بلد معين وبلاد المسلمين. ومن هنا استحسنا إطلاق كلمة بلاد غير المسلمين على هذه الحالة، تأكيدًا على أن هذا التقسيم ليس تقسيمًا شرعيًا، بل هو تقسيم زمني، ويجب مراعاة ذلك عند قراءة تلك النصوص المنقولة من كتب

ص: 124

السابقين، وعدم استنباط أحكام منها تؤدي إلى الصدام، أو تلقي بظلالها على الدعوة الإسلامية، أو على دين المسلمين، بأنه دين صدام؛ لأنهم ما لجأوا إلى ذلك إلا عند مصادمة الآخرين لهم وعدوانهم عليهم" (1) وهذا فهم عجيب من د. علي جمعة، فالمسلمون أطلقوا مصطلح بلاد الكفر والحرب في عهود كانت الغلبة فيها للمسلمين، وكانت الفتوحات الإسلامية المباركة تتسع شرقًا وغربًا بل وشمالاً في قلب أوربا، ثم يدعي د. علي جمعة أن هذا كان عندما ناصبت تلك الدول المسلمين العداء، أما اليوم فالصداقة هي شعار المرحلة!! ولا داعي لهذا المصطلح والأحكام المتعلقة به؛ لأنها تلقي بظلالها على الدعوة الإسلامية!! وكأنه لم يسمع عن الفلبين، والشيشان، وكشمير، وتركستان، وأفغانستان، والعراق، وفلسطين، وجنوب السودان، والصومال، والبوسنة والهرسك

مع أنه يقول في موضع آخر: "علامة استفهام كبيرة تفسرها هذه الحملة الشديدة الاحتلالية التي يتعرض لها العالم الإسلامي، هذه الحملة التبشيرية، هذه الحملة الصهيونية، هذا العداء الذي لا مبرر له"(2).

* وتكلم عن اندماج المسلم في بلاد الكفر وانضمامه لجيوش الكفار فقال: "قضية اندماج المسلم في مجتمعه، وعمله في المخابرات والجيش في تلك الدول، وموقفنا أن المسلم له هذا، وأن له طبقًا لقوانين البلاد الديمقراطية أن يعتذر عن كل ما لا يوافق عقائده مما يراه ظلمًا أو انحرافًا، وهذا منصوص عليه في القانون الأمريكي"(3) وبهذه الفتوى يعمل المسلم على رفعة جيوش الكفار

(1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 108.

(2)

كتاب فتاوى عصرية، الجزء الأول ص 201.

(3)

مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: كنت في لندن، بتاريخ 17 - 7 - 2004.

ص: 125

المحاربين كبريطانيا وأمريكا والارتقاء بقوتهم وجبروتهم، والله عز وجل يقول:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1).

* ولا يزال د. علي جمعة يعلق أملاً كبيرًا في أن نسترد حقوقنا عن طريق هيئة الأمم المتحدة وعن طريق أمريكا نفسها؛ فيقول: "نحن نريد فتح قنوات دائمة للحوار المتواصل العلمي والثقافي والاقتصادي والتكنولوجي بيننا وبين الولايات المتحدة، ولا يتم هذا إلا من خلال بيئة محيطة تحترم الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بمشكلة المسلمين المركزية وهي فلسطين، والعدوان الواقع على الشعب الفلسطيني، متمثلاً في الاحتلال، والحواجز، والمستوطنات، والحرمان من الحقوق الأساسية في المياه والعمل والتنقل والتعليم والحياة، والعدوان المادي الصارخ بالاعتقال والقتل، والذي نظن أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على التدخل الإيجابي لنصرة الحق وإيقاف الأصوات المتطرفة التي تدعو إلى الصدام الدائم، وإلى تكريس مفهوم الاحتلال والظلم وهضم حقوق الشعوب"(2).

* والدكتور علي جمعة لا يكتفي بهذا الطرح المرتمي في أحضان الغرب؛ بل هو يترجى الغرب أن يتدخل في قضايا المسلمين، عن طريق اعتماد اتجاه د. علي جمعة الذي يسميه الوسطية الإسلامية؛ لأنه الأقدر على تحقيق المصالح للمسلمين ولأمريكا كذلك؛ فهو في مقالته للترحيب برئيس أمريكا أوباما يقول: "من الحقائق التي ينبغي

(1) سورة النساء، الآية 76.

(2)

مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مرحبًا بالرئيس أوباما، بتاريخ 1 - 6 - 2009.

ص: 126

الالتفات إليها أن الإسلام قادر على أن يعيش في كل العصور، وأن يبني الجسور مع كل الحضارات، وهذا ما أكده التاريخ وأكدته المصادر الإسلامية على جميع مستوياتها، ويلزم من هذا التحاور مع الوسطية الإسلامية، واعتمادها مرجعية للتفاهم بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؛ من أجل غدٍ أكثر إشراقًا، ومن أجل تعاون متوازن يحقق فيه كل من العالم الإسلامي والولايات المتحدة المصالح لكل منهما بصورة عادلة دائمة" (1) ثم هو يحرض على السلفيين، ويشتكيهم للأعداء، وكأنه يتوسل لهم أن يخلصوه منهم؛ فيكتب تقريرًا عن السلفية، لكنه أشبه ما يكون بتقرير استخباراتي استعدائي، يُذكرنا بالتقارير الاستخباراتية التي احتجت بها أمريكا على غزو العراق؛ فيخاطب د. علي جمعة الغرب بالطريقة التي تروق لهم، وبالمصطلحات التي تثيرهم؛ فالسلفيون يكرهون الصهيونية والمبشرين والعلمانيين، ويعتقدون أن أعداء الإسلام يحاربونه سرًا وجهارًا، لذلك فالسلفيون يهتمون بإكثار النسل وكثرة الأولاد!! ويرون أن الحياة خطيئة يجب التكفير عنها!!، ويكرهون الفنون والآداب وأساليب اللياقة!!؛ وإليكم جزء من هذا التقرير التحريضي؛ يقول د. علي جمعة: "السلفية الصدامية؛ والفكر الصدامي الذي يتبناه هؤلاء الذين أساءوا فهمه يفترض أمورًا ثلاثة وهى:

أولاً: أن العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة: الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات، وأن هناك استنفارًا للقضاء علينا مللنا من

(1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: مرحبًا بالرئيس أوباما، بتاريخ 1 - 6 - 2009.

ص: 127

الوقوف أمامه دون فعل مناسب.

ثانيًا: وجوب الصدام مع ذلك العالم، حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجوب الصدام يأخذ صورتين: الأولى: قتل الكفار الملاعين. والثانية: قتل المرتدين الفاسقين.

أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين، وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم.

وهذه الصياغات كما نرى فيها شيء كثير من التلبيس والتدليس والجهالة، ولكنها سوف تجذب كثيرًا من الشباب

لقد أصبح التوجه السلفي عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين، ولتجديد خطابهم الديني، وللتنمية الشاملة التي يحتاجها العالم الإسلامي عامة، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه السلفي أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلاً للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس

النتائج السيئة للسلفية المعاصرة:

أقول: إن ذلك كله يؤدى إلى انتقاله من هذا الدور إلى دور يرى فيه وجوب الانتحار، وتفجير نفسه في الناس بالمتفجرات الحقيقية وبالقنابل، ويرى أنه ليس لحياته معنى؛ لأنه يسبح ضد التيار، ويرى أنه لا بد عليه أن يزيد من نسله، وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله، محاولاً بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث إنه يشعر بأنه وحيد، وبأنه قلة، وبأن الكثرة

ص: 128

الخبيثة من حوله سوف تقضي عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفر من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي.

ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة" (1).

* وتماشيًا مع منهج التعايش إلى ما لا نهاية؛ لا يرى د. علي جمعة مانعًا من الصلاة الجماعية التي تجمع المسلمين مع المشركين على إيقاع نغمات الموسيقى الهادئة؛ لأنه حتى لو سماها الكفار صلاة فهي ليست كصلاة المسلمين فتجوز!! يقول د. علي جمعة: "السؤال: هل يجوز المشاركة في نشاط مشترك مع أهل الكتاب من النصارى واليهود، يتمثل في إقامة ما يعرف بالصلاة الجماعية على حسب تسميتهم لها؟ ووصف هذه الصلاة: يقف شيخ من المسلمين، مع قسيس من النصارى، مع حاخام من اليهود، أمام جمع من الحاضرين، يقوم كل منهم بتلاوة بعض فقرات من الكتاب المقدس الخاص بأهل ديانته القرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة، تتعلق هذه الفقرات بموضوع له أهمية مشتركة، مثل قضية رفض الإرهاب والعدوان على الآخرين، أو الدعوة إلى السلام مع الآخرين .. إلخ.

(1) كتاب البيان لما يشغل الأذهان فتاوى شافية في قضايا عاجلة، ص 178 - 190.

ص: 129

يصاحب هذا الاجتماع جو من الموسيقى الهادئة، أو أضواء الشموع، وقد لا يوجد شيء، وقد تختم بالدعاء لتحقيق الأمر المنشود.

مكان هذه الصلاة: ليس لها مكان معين، فربما تتم في كنيسة، أو ملعب، أو مكان عام كقاعة مؤتمرات.

الغرض منها: التعبير عن الاتفاق واتحاد الرأي حول القضية ذات الشأن، والتي تم الاجتماع من أجلها.

ويسأل: فما حكم المشاركة في مثل هذه الصلاة؟

الجواب: إن الهيئة المسئول عنها هي عبارة عن اجتماع بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب للدعاء، ولا يصدق عليها أنها صلاة لا في لغة العرب ولا في المعنى الشرعي لا في الفقه الموروث ولا في المصادر الشرعية من القرآن والسنة.

أما اجتماع المسلمين مع غيرهم من أجل الدعاء لله رب العالمين فهو أمر جائز شرعًا وأصله قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (1) حيث أمر الله بأن يقف المسلمون وغير المسلمين للدعاء والابتهال إليه

وعلى ذلك فاجتماع المسلمين مع غيرهم من اليهود والنصارى لدعاء رب العالمين بهذه الصفة لا مانع منه شرعًا.

(1) سورة آل عمران، الآية 61.

ص: 130

على أنه يحرم اجتماع المسلمين مع غيرهم لأداء نفس صلواتهم؛ لأن التعبد بصلاة ليست من شريعة الإسلام حرام، وأصله حديث أبي إسرائيل، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائمًا في الشمس، فقال:(ما له قائم في الشمس؟ قالوا: نذر أن يصوم وألا يجلس ولا يستظل، قال: مروه فليجلس وليستظل وليصم)(1).

وكذلك يحرم الاشتراك فيما فيه شرك بالله أو عبادة غيره؛ حيث أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من لبى في الحج فقال: إلا شريكًا هو لك، ولم يرض ذلك منه؛ لما فيه من الشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال:(كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد، فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.

وإذا حضر المسلم هذه الاجتماعات فعليه بالإعداد لها مسبقًا، والاتفاق على ما يتلى فيها مع الآخرين، وإذا رأى أثناء هذه الاجتماعات شيئًا فيه تجاوز يجب عليه أن يطلب منهم تركه، فإن استجابوا فبها ونعمت، وإلا غادر الاجتماع، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) " (3).

* وبما أن بلاد الغرب تموج بالمعاملات المحرمة، فقد خرج علينا د. علي جمعة بفتواه

(1) روى نحوه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك.

(2)

سورة الأنعام، الآية 68.

(3)

كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 35 - 37.

ص: 131

العجيبة عن العقود في ديار الكفار، وما فرعه عليها من فتاوى أعجب؛ ومن ذلك:

* قال د. علي جمعة: "تقرر أن الأحكام تتغير بين ديار المسلمين وغير المسلمين في مجال العقود؛ لأن المسلم الذي يقيم في بلاد غير المسلمين ينبغي عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية، وألا ينعزل في حارات من غير اندماج في مجتمعه، بل يجب عليه هذا الاندماج؛ لأنه أولاً وأخيرًا مأمور بالدعوة إلى الإسلام بمقاله أو بأفعاله أو بحاله.

وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه، ولا يتحقق له ذلك إلا إذا اختلفت أحكام العقود التي بينه وبين غير المسلمين في ديار غير المسلمين عن أحكام ذات العقود نفسها في ديار المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، قال: ما دام ذلك برضا أنفسهم، وقال: لأن هذه الديار ليست محلاً لإقامة الإسلام، وهي نظرة واقعية للحياة من ناحية، ولطبيعة الدين الإسلامي في دعوته بالأسوة الحسنة" (1) هذا الكلام لا علاقة له في مجمله بالشرع الإسلامي، ودعوى أن أحكام العقود تتغير في ديار غير المسلمين؛ لأن المسلم عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية ويجب عليه أن يندمج في هذا المجتمع دعوى لا قدم لها ولا ساق، وهي أشبه بكلام الصحفيين لا كلام الفقهاء.

وأما مذهب أبي حنيفة فلا علاقة له بهذا الاندماج، بل هو أبعد ما يكون عن هذا الاندماج المزعوم، وهو مبني على أمرين:

الأول: أن يكون العقد في دار الحرب، وللأحناف كلام كثير في أحكام دار الحرب، يعلم بعضها د. علي جمعة، ولكنه للأسف يريد أن يلغي في فتواه هذه مصطلح دار

(1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: النموذج المعرفي وتجديد الخطاب الديني3، بتاريخ 8/ 5/2004.

ص: 132

الحرب ويبقي على ما يتعلق به من عقود؛ فيقول مثلاً: "ولقد سمى محمد وغيره دار غير المسلمين بدار الحرب؛ للتقسيم الذي كان شائعًا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين، فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، والتقسيم الحديث بين علماء الإسلام بعدما انتهت حالة الحرب التي شُنت على المسلمين، هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة"(1) وبهذه الفرية التي يرى فيها أن الحرب لم تعد قائمة!!! وأن لهذه الديار التي سماها بلاد غير المسلمين أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بالحرب! جمع بين النقيضين وخالف مذهب أبي حنيفة، وهو يعلم أن مذهب أبي حنيفة لا توجد فيه تجزئة لأحكام دار الحرب سواء كانت الحرب قائمة أم لا، فقد صرح د. علي جمعة بقوله:"ومما ينبغي أن يتنبه إليه أيضًا في هذا المقام أن مراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار الكفر مطلقًا؛ سواء أكانت الحرب قائمة أم لا؛ بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفرٍ لا حرب فيها وهي مكة قبل الهجرة"(2) فإذا كان الأحناف يريدون بدار الحرب دار الكفر، ومع ذلك لم يفرقوا في أحكامهم بين حالة اشتعال الحرب أو عدم اشتعالها فيما يتعلق بالدماء والأموال، فكيف يتسنى للدكتور علي جمعة أن يفرق بينهما ويزعم أنه يفتي برأي الأحناف.

الثاني: أن تكون الزيادة والربح للمسلم، لا للكافر، والعلة في ذلك كما ذكر

(1) كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209.

(2)

كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209.

ص: 133

الأحناف أن أموالهم حلال، فطالما دخل المسلم دار الحرب بأمان لم يجز له أن يغدر بهم، لكن طالما أنهم رضوا بذلك فلا حرج عليه؛ حيث عاد الحكم لأصله وهو حل أموالهم، قال الكاساني:(أخذ الربا في معنى إتلاف المال، وإتلاف مال الحربي مباح، وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي، فكان المسلم بسبيل من أخذه إلا بطريق الغدر والخيانة، فإذا رضي به انعدم معنى الغدر)(1)، أما د. علي جمعة فالمسألة المتكررة عنده هي اقتراض المسلم من الكفار في بلاد الغرب بالربا، وهو يترك نصوص الأحناف الصريحة؛ ليتمسك بما يمكن فهمه من عموم كلام بعض أئمتهم؛ فيقول: "وظاهر كلام السادة الحنفية أن الحكم عام في أخذ المسلم للربا في دار الحرب وإعطائه، ولكن الكمال بن الهمام ذكر أن أئمة الحنفية في دروسهم قيدوا حل الربا للمسلم في دار الحرب بأخذه من الحربي

ويمكن التمسك بظاهر المذهب إذا كانت المصلحة الأخيرة للمسلم حتى لو دفع الزيادة" (2).

وخلاصة فتواه أنه يبيح كثيرًا من العقود الفاسدة متكئًا على كلام الأحناف فيقول: "حاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار غير المسلمين بين المسلم وأهل تلك البلاد؛ سواء أكان العقد بيعًا لميتة، أم خنزير، أم خمر، أم مقامرة"(3) ثم هو لا يكتفي بهذا الذي يذكره عن الأحناف، بل يمضي على منهجه في الاندماج؛ ليفتي بجواز امتهان المهن التي تساعد على الفجور مثل تجهيز أماكن الباليه، فنجد له هذه الفتوى: "أنا أعمل في مدينة إعلامية كعامل يقوم بتجهيز المسرح من ديكور وأدوات المسرح، علمًا بأن الممثلين والممثلات

(1) كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج7، ص132، ط دار الكتب العلمية.

(2)

كتاب فتاوى عصرية ج2، ص 209.

(3)

كتاب البيان لما يشغل الأذهان مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج ولم شمل الداخل، ص 108.

ص: 134

أجانب، وهذا المسرح يقدم باليه، أوبرا، كونشيرت، سؤالي هو: هل هذا العمل حلال أم مكروه أم حرام؟ الجواب: إن العقود مع غير المسلمين في بلاد غير المسلمين جائزة، ما دامت برضا الطرفين ولا تؤدي إلى نوع فساد كالزنا ونحوه، على ما ذهب إليه السادة الأحناف في تصحيح تلك العقود، وعلى ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الدخل الذي يدخل إلى السائل من هذا العمل حلال شرعًا" (1).

ومن أجمل ما نرد به على هذا الفهم المعوج فتوى سابقة للدكتور علي جمعة!!! هذا نصها: "أنا إنسان ملتزم، أعرف فروض ربي، أصلي وأصوم، لكني أعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، وأعمل في محل تباع فيه الخمور، فهل ما أتقاضاه من مال حلال أم حرام؟ وهل إذا صليت داخل المحل تكون الصلاة صحيحة؟ الجواب: العمل في هذا المحل وبيعه الخمور لا يصلح ولا يجوز، فكل ذلك حرام لا شك فيه مطلقًا أبدًا، وإذا تعلل وقال: لا أجد لي عملاً وأجرًا أكثر منه، فأقول: إن رزق الله واسع، والمواضع التي فيها رزق الله كثيرة، والإنسان إن كان عنده قناعة برزق حلال قليل بارك الله فيه، وفتح عليه الخير من كل الأبواب، أما إذا أراد أن يعيش عيشة غير المسلمين، وهذه العيشة لا تكون إلا عن طريق شرب الخمر أو تقديم الخمر أو خدمة من يشربون الخمر، فكل ذلك حرام لا يعد سببًا أو مبررًا أبدًا لأن يمارس هذه المهنة المحرمة"(2).

(1) كتاب فتاوى عصرية، ج1 ص 266.

(2)

كتاب فتاوى البيت المسلم، ص 24.

ص: 135

* وأما طريقة فهمه لما يخالف فتواه من النصوص فنجد مثالها في هذه الفتوى: "أما السلام بين المرأة المسلمة وبين المسيحية فنقول: لا نرى بأسًا في السلام على الأديان المختلفة، آخذين هذا من معنى السلام، فالسلام هو أصل دين الإسلام، والسلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام نتقبله من الغير، يقول تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (1) فالسلام هنا الحقيقة أنه تحية نتقبلها من الغير، فلا بأس أن تشيع للناس، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) (2). فمن أين أتى هذا السؤال؟ أتى من بعض الروايات الموجودة، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق) (3) هذا عندما يكون هناك نزاع ظاهر وفتنة عمياء صماء، تستوجب الضغوط والسيطرة عليها، أما في الحالة المعتادة فنشر المسلمون الإسلام من الأندلس إلى الهند بتعايشهم مع الآخرين"(4) مع أن هذا الحديث الذي ادعى أنه لحالة الفتنة العمياء، رواه أبو داود في باب السلام على أهل الذمة.

(1) سورة النساء، الآية 94.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وأخرجه بنصه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة.

(4)

كتاب فتاوى عصرية، ج2، ص 346 - 347.

ص: 136

ولكن نُذَكِّر د. علي جمعة بما قرره من قبل من فتاوى شاذة، ولكنها تصب في الاتجاه المعاكس الذي يحرم حتى المباح من التعاملات مع الكفار!، فهو كان يرى حرمة الزواج من الكتابيات، وحرمة ذبائحهم، بحجة اختلاط أنسابهم!؛ فيقول:"قال الإمام الشربيني عند شرح قول الإمام النووي: (والكتابية اليهودية .. إلخ): (قضية كلام المصنف التحريم إذا شك هل دخلوا قبل التحريف أو بعده، وهو كذلك، وكذا تحرم ذبائحهم، ولكن يقرون بالجزية تغليبًا لحقن الدم، أما من دخل أول آبائها في ذلك الدين بعد نسخه؛ كمن تهود أو تنصر بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل، وكذا من تهود بعد بعثة عيسى عليه السلام، واحترز المصنف بقوله: (فإن لم تكن الكتابية إسرائيلية) مما إذا كانت إسرائيلية، نسبة إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فالشرط فيها ألا يعلم دخول أول آبائها في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه، وذلك بأن علم دخول أول آبائها في ذلك الدين قبل البعثة أو شك، وإن علم دخوله فيه بعد تحريفه أو بعد بعثة لا تنسخه كبعثة من بين موسى وعيسى فإنه يحل نكاحها لشرف نسبها) ثم قال: (وعلى هذا يتعذر أو يتعسر نكاح الكتابية اليوم) وبناء عليه فقد انسد النكاح من الكتابيات في عصرنا الآن؛ لضياع أنسابهم، وفقدنا للمحل الموصوف بتلك الصفات السابقة" فالشربيني يرى تعذر أو تعسر نكاح الكتابيات -وهذا خطأ بلا شك-، أما د. علي جمعة فيرى انسداد نكاحهن!!!.

ص: 137