الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: الركون للمبتدعة والأقوال الضعيفة والباطلة
والنقل من مصادر غير معتمدة
ليس كل خلاف معتبرًا، وليس كل مخالف يعتد بقوله في الخلاف، وليس كل ما ذكر في مصدر من المصادر تصح نسبته، ولا بد من التحري عن المخالف هل هو من أهل العلم الثقات أم لا؟ وهل ثبت هذا النقل عنه أم لا؟ وهل مخالفته تستساغ أم أنها من أخطاء الكبار الذين يعرف قدرهم ولا يلتفت لمخالفتهم في هذه المسألة بعينها؛ لأنها شطط لا يقبل؟
والتأمل في هذه الأمور يساعد على تمحيص القضايا، دون ممارسة التخويف الفكري، بدعوى أنك ترد على فلان وتخطئ فلانًا.
وقد ينقل البعض ما يخالف ظاهر الشريعة، وينأى عن الصحيح المشهور من أقوال العلماء، ثم ينسب هذا القول الباطل لإمام من الأئمة، وعند التحقيق تجد أن النقل مشكوك فيه أصلاً، ولم يثبت يقينًا قول هذا العالم بذلك القول، ولو زعم أحد الناس رواية حديث نبوي بمثل هذا النقل لحكمنا على الرواية بالضعف الشديد، ومع ذلك يعتد هذا الناقل بهذا القول المنسوب للإمام، ويقدمه على أدلة الشريعة.
ومن أمثلة ذلك:
أ- ينقل عن محيي الدين بن عربي، الذي اشتهر بالمقولات الفظيعة، وله كتاب فصوص الحكم الذي قال عنه الذهبي:(ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله)(1)، أما د. علي جمعة فيعظمه وينقل عنه الغرائب؛ فيقول: "وسيدي محيي الدين عنده حكم غريب جدًا يقول فيه:
(1) سير أعلام النبلاء، ج23 ص 48.
التصديق بنا ولاية، يعني إذا صدقت بهذا الذي يقال وبكل هذا الذي لم تجربه أو لم تدخل فيه بعد أو كذا، إلى آخره، التصديق في ذاته ولاية" (1).
ب- وينقل عن البسطامي عبارة ظاهرها الضلالة ويحاول تفسيرها بمعنى صحيح، ولكن هيهات هيهات، قال:"قال أبو يزيد البسطامي وكان فيه جذبة: خضنا بحرًا وقف على شاطئه الأنبياء، فظنوا أنه يتعالى على الأنبياء، وهو كان رجلاً مجذوبًا يقول أشياء ظاهرها غير مقبول وحقيقتها لطيفة لا شيء فيها، خضنا بحرًا وقف الأنبياء بشاطئه، قالوا: أي بعدما ذهبوا ورجعوا، يعني هو ذهب وتاه في البحار يتمتع بها ويشاهد هنا وهناك، لكن الأنبياء لكمال حالهم مع الله ذهبوا ورجعوا، وهناك من لم يذهب ولم يعد وهم العوام"(2).
د- امتدح ابن الفارض وامتدح من ينشد قصائده، وقد قال الذهبي عن ابن الفارض:(فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله)(3) يقول د. علي جمعة: "هناك ظاهرة تحتاج إلى دراسة وإلى تعامل حضاري معها، هذه الظاهرة اسمها (يس التهامي) أحد المغنين بالمدائح النبوية، والذي بدأ في تخصص الغناء بقصائد ابن الفارض، وإذ به يشيع عند عمال التراحيل وبسطاء القرى في الصعيد، وبدأ الناس يزدادون يومًا بعد يوم لسماع صوته الرخيم، وهو يؤدي قصائد الحب الإلهي
(1) كتاب الطريق إلى الله، ص81.
(2)
كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 78.
(3)
سير أعلام النبلاء، ج22 ص368.
والرؤية الكونية العاشقة لسلطان العاشقين ابن الفارض، أليس هذا غريبًا يحتاج إلى دراسة؟ كيف انصرف المثقفون إلى الهراء السمعي والكلامي، والذي أضيف إليه الهراء المنظور في Video Clip وانصرف البسطاء إلى (يس التهامي) في قصائد ابن الفارض
…
كان الناس يتلقون قصائده ويترنمون بها، وقد جرى فيها على طريقة الحب والغرام، والتصوف في حقيقته حب وحنين إلى الذات الإلهية من ذلك قوله:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا
…
سر أرق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها
…
فغدوت معروفًا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله
…
وغدا لسان الحال مني مجهرا
ولقد اهتم بديوانه كثير من الأدباء العرب والمستشرقين، ومن هؤلاء المستشرقين الإيطالي جوزيبي سكاتوليني، والذي ربط بينه وبين ديوان ابن الفارض علاقة قوية تزيد عن أربعين عامًا، حيث إنه فرغ نفسه وعكف على دراسة هذا الديوان العظيم طيلة هذه الفترة، حتى أنتج ثمرة جهده من تحقيق لهذا الديوان في نهاية شهر يونيو عام 2004، حيث أقام المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة حفلاً بمناسبة صدور الديوان عنه" (1).
هـ- ومن أمثلة ذلك ما يورده من مواقف دون نسبتها إلى مصدر من المصادر، ويبني مسائل وقضايا على هذه المواقف التي هي في أغلب الظن من تأليف أصحاب الخيال الواسع؛ مثل قوله: "يذكر في الآثار أنهم ذكروا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد
(1) مقال في جريدة الأهرام، بعنوان: ظاهرة ثقافية، بتاريخ 14 - 5 - 2005م.
اليهود في المدينة قبل أن يجليهم عن الجزيرة، يخبر من وراء الكثيف وكأنه لطيف، يعني يعرف ما وراء الحائط، فأخذ سيدنا عمر رضي الله عنه السيف وذهب إليه، فلما ذهب وطرق الباب، قال اليهودي: علام جئت تقتلني يا عمر؟ من وراء الباب عرف أنه عمر، وعرف أيضًا أنه جاء يقتله، قال له: افتح ولك الأمان، فلما فتح قال له: كيف وصلت إلى هذا؟ قال: ما عرض علي شيء قط إلا عرضته على نفسي، فإن اشتهته أبيته، وإن أبته فعلته، قال له: هذا الذي وصلت إليه من مقاومة نفسك، لما قاوم نفسه منحه الله خوارق العادات وليس الكرامات، هناك فرق بين الكرامات وخوارق العادات، فالكرامات لا تطلق إلا على الأولياء والمؤمنين، خوارق العادات تكون لغير المسلمين، فهي ليست دليلاً على شيء، وإنما نعمة من نعم الله مثل الغنى والبصر .. إلخ. في الأديرة أناس يطيرون في الهواء، وفي التبت ينظر إليك، يقول لك فيم تفكر أو أين كنت بالأمس، هذه نعمة لكنه كفرها أو حصلها كنعم الله كلها، لكنه لم يقم بشكرها؛ لأن أول الشكر الإيمان، فقد يطير في الهواء ويمشي على الماء، لكنه قد يكون كافرًا أو عاصيًا؛ لئلا تخدع بمثل هذه الأمور الخوارق، فليس هذا دليلاً على الولاية، ولا هو لب الدين، ولا هو أصل طريق الله، وإنما طريق الله: الذكر والتربية والخلوة، في أثناء هذا يمكن أن تطير في الهواء، لا مانع، فنحن نطير بالطيارة، ماذا حدث؟ ويمكن أن تمشي على الماء برجليك، وماذا يعني هذا؟ لا شيء، فأنت تمشي بالسفينة، فلا داعي لهذا الخبل الذي يحدث في الدماغ، سيدنا المرسي أبو العباس سمع ضجة، فقال: ما هذا؟ قالوا: ضبطنا
أحد العباد يفعل الفاحشة ومع امرأة متزوجة، فلما أردنا أن نمسك به جرى، فأخرج منديلاً من جيبه وفرشه على الماء ومشى عليه بعيدًا، قال: هذا رجل فاسق، قالوا: أفهمنا ما هذا؟ قال: إن الكريم إذا وهب ما سلب، ربنا عرفه كيف يمشي على الماء، فلا يسلبها منه لأنه عصى وزنا، وأصبح فاسقًا، إذًا فالفاسق يصدر منه الخارقة، والكافر يصدر منه الخارقة أشد من الفاسق، فهذه الخوارق لا تساوي عند الله شيئًا، طريق الله ليس هذا، وإنما طريق الله الذكر والتربية والخلوة، ولذلك قال أهل الله: لو رأيت الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فاعرض أمره على الشرع، فإن وافقه فهو على جادة الطريق، ولكن ليس لأنه طار أو مشى، ولكن لأنه وافق الشرع، وإن خالفه فهو شيطان، شيطان طيره معه في الهواء، فيجب عليك أن تؤمن بالغيب في الشهود.
فسيدنا عمر قال له: أسلم فأنت رجل صالح، لو أسلمت ستكون في مرتبة عالية، ولذلك فإن ربنا وهو يتكلم عن هؤلاء في القرآن يقول:(ومن أهل الكتاب) وهذا إنصاف، ولم يقل كلهم، بل قال: ومنهم، وهذا منهم، هذا يدل على أن القرآن من عند الله؛ لأنه منصف إنصافًا لا يرد على خاطر البشر، فقال له اليهودي: أعطني ثلاثة أيام أفكر، ثلاثة أيام ثم جاء وقال له: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال له: ماذا حدث؟ قال له: عرضت الإسلام على نفسي فأبت إباء شديدًا، فأسلمت، إذًا صدقُ التربيةِ نجاه، وهذه هي الرياضة، هذا هو الصدق مع النفس، وكان سبب إسلامه أنه عرف المفتاح، فلما جاءت في هذه القضية كان منصفًا، فقد سأل
نفسه: لماذا أنت ضد الإسلام؟ العنجهية العرقية الحقد والحسد، كشف أمام نفسه، فقال: أنا أهرب من كل هذا، وإذ بي ملآن في قلبي منه؛ من الحقد، ومن الحسد، ومن التفاخر والتعالي إلخ، إذًا أنا رجل شرير، تبنا إلى الله، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأسلم فنجا" (1) أما قوله إن الكريم إذا وهب ما سلب فيراد منه التلبيس؛ لأن الله عز وجل يقول:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} (2).
وكثيرًا ما يغتر بمخالفات بعض المتأخرين، ويتتبع الشاذ والمهجور من الأقوال؛ محتجًا مثلًا بأن هذا قول السيوطي، أو ابن عابدين، أو عليش، أو محمد عبده، أو شلتوت، ظنًا أن ذكره لهم ينفي عن بعض هذه المخالفات الشذوذ والاضطراب.
(1) كتاب سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين، ص 183 - 186.
(2)
سورة هود، الآية 9.