الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل
الحمد لله الّذي لا برّ إلاّ برّه ولا جود إلاّ من جوده، الموجود الأوّل الّذي لا أوّل لوجوده والمشهود الآخر الّذي لا آخر لشهوده، والصلاة والسلام على أفضل رسله الكرام سيّدنا ومولانا محمّد المرسل رحمة لجميع الأنام وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ومصابيح الظلام، (وبعد) فهذه رحلتي الشامية أقدّمها لقراء العربية تحفة مرضية مستعيناً بالله وهو حسبي ونعم الوكيل.
قضيت نحو ثلاثين صيفاً في جو البلاد الأوربية حيث تربّيت في مدارسها صغيراً، ثمّ تجوّلت في سياحتها كبيراً، فطوّفت حول حواضرها وقراها كثيراً حتّى إنّي بمعونة الله لم أدع شيئاً من آثارها التاريخية، ومعاهدها العلمية، ومعاملها الصناعية إلى غير ذلك ممّا يهمّ السائح أن يتعرّفه في تلك البلاد إلا زرته وأخذت منه بالقدر الأوفى والنصيب الأوفر، ثمّ ما من مرّة كنت أزور فيها هذه البلاد إلا وكنت أجتمع بملوكها وأمرائها وأعيانها ووجهائها، وإلا كنت أردّد النظر حول رياضها المنتسقة ومناظرها البديعة، ولقد ساعدني حسن الحظّ أخيراً على زيارة بلاد اليابان والصين، وهناك وضعت رحلتي اليابانية الّتي فصّلت فيها سياحتي لقراء العربية تفصيلاً، وقد كنت إبّان هذه الرحلات العديدة والأسفار المفيدة أذكر بعض البلاد الإسلامية الّتي لا تزال حتّى اليوم مستقلّة في أيدي المسلمين وتحت سيطرتهم، فكنت أحنّ إليها حنين الشارف على ولدها، وأودّ من صميم قلبي لو أن يجعل الله لي نصيباً من زيارتها، بل كثيراً ما هممت بمشارفتها ونهضت لذلك نهوضاً لولا أن صعوبة المواصلات، وما لعلّه يكون من بعد الشقّة وعدم توفر وسائل الراحة ووسائط
الرفاغة، كانت يومئذ عقبة كؤوداً في طريقي، ولولاها ما كان أحوج مسلماً يحبّ المسلمين ويصبو إلى بلادهم أَن يشدّ رحاله إلى بغداد مدينة السلام، ودمشق عاصمة الشام، كيلا يحرم من مشاهدة مدينتين فخيمتين كانتا أكبر عواصم الإسلام وأعظمها حضارة، وناهيك بهما في عهدي الدولة الأموية والعباسية، وعلى الخصوص في عهد المأمون عهد الحضارة الشرقية والنور، يوم كانت بغداد هذه محطّ رحال العرب ومنبعث أشعّة الحكمة والأدب. على أني ما لبثت قليلاً حتّى قيّض الله لي نفراً من أصدقائي الكرام وعلية القوم في بلاد الشام فطلبوا إليّ أن أزور بلادهم، وقد كنت لا أزال أخشى من حصول ما عساه يعترض المسافر ممّا ربّما مسّ بالصحّة أو أساء إلى الكرامة، فكاشفت هؤلاء الصحب بما كان يجيش به صدري من ذلك وغيره لعلّي كنت أبلغ من لدنهم عذرا
أو أستطيع إلى السفر سبيلا، فما زالوا يجهدون أنفسهم في إقناعي بضدّ ما كنت أظن حتّى لقد حبّبوا إليّ الرحلة وأوقعوها من نفسي بحيث صارت عزيمتي إليها أشدّ منها إلى سواها خصوصاً بعد ما أنّهم تكفّلوا براحتي فيما كنت أتوقّع التعب من ناحيته أكثر من المعتاد في أسفاري، وما كان ليخامرني ريب في صدقهم، إذ كنت أقرأ على صفحات وجوههم البيضاء آية الإخلاص والوفاء، وحينئذٍ طويت العزم على اِرتياد بلاد سورية وفلسطين والعراق فرحاً مسروراً بتحقيق رجائي القديم من زيارة بلادٍ طالما تاقت نفسي أن تراها وتشاهد فيها أهلها على الأزياء الفطريّة والعوائد الشرقيّة الّتي لا تزال إلى اليّوم حافظة ما كانت عليه منذ العصور المتقدّمة بفضل ما يعرف في أهلها من الغيرة عليها وحرصهم على أن لا تختلط بتقاليد الغربيّين وعوائدهم. وقد كنت كلّما سمعت النّاس يمتدحون طقس هذه البلاد وما وهبها الله من جمال المنظر ونضارة البقعة وبهاء الطبيعة، فضلاً عن اِتّساع مساحتها وخصوبة تربتها وعذوبة مياهها وغضارة رياضها يزداد شوقي نحوها ويتأكّد