الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنا عدّة مرّات. كما أنّنا كتبنا كلّ ذلك مفصّلاً في رحلتنا هذه ليبقى معروفهم مسطّراً على صفحات الكتاب مثلما كان مطبوعاً من قبل في طويّات الألباب. وقد كان بودّي لو أنّه يسطّر بمداد من نور على صفحات خدود الحور. وإذا رأى القارئ في ما رأى أنّي لم أنس ذلك لأحدٍ منهم حتّى ولا لأصغر القوم سنّاً وأقلّهم شأناً واحتراماً، عرف من مبدئي في الأمور الإعلان بالصدق والصراحة في الحقّ كائناً ما كان وبالغاً ما بلغ.
زيارة في الفندق
عدنا إلى الفندق وبعد قليل من الزمن حضر إلينا صاحب الجريدة الّذي كان قابلنا في دار الولاية، وقد اِرتحت كثيراً لمجلس هذا الرجل الظريف لما سبق لي من مروءته ومعروفه على غير معرفة سابقة. وكان حديثنا معه قاصراً على وصف بلاد الشام وذكر مواهب الله فيها من خصوبة الأرض وجودة الهواء وعذوبة الماء وصفاء الجوّ إلى غير ذلك، وما كدنا نتمّم حديثنا معه في ما كان يقتضي سرورنا من مناظر تلك البلاد وأشكالها الطبيعية الساحرة حتّى جاءنا عدّة رجال من أعيان المدينة مظهرين لنا شدّة استيائهم من أنّنا لم نخبرهم بوقت حضورنا إلى دمشق، إذ كان ذلك سبباً في فوات أكبر فرصة كانوا ينتهزونها لتأدية الواجب نحونا من الاحتفاء بنا والاِحتفال باِستقبالنا لدى المحطّة، فشكرنا لهم جميعاً هذا الشعور العالي والإحساس الجميل. ثمّ جاء بعدئذ الأمير علي بن الأمير عبد القادر الجزائري، فقابلناه بما يليق بمقامه الكريم من الحفاوة والتعظيم. أمّا حضرته فكان وقوراً بشوشاً سمح الوجه ظريف المحادثة، لا يشكّ من يراه أنّه من بيروت المجد والإمارة. وقد أظهر لنا في فاتحة حديثه ما اِنطوت عليه نفسه الطاهرة من الميل والإخلاص للأسرة العلويّة. ثمّ أخذنا نتبادل أطراف الحديث، وكان أكثر ما يدور عليه كلامه هو اِمتداح المغفور له جدّنا الأكبر محمّد علي باشا وبيان مآثره النافعة
في بلاد الشرق. وكان يسرّني ما كنت أسمعه من ذلك الحديث الحسن الصحيح سروراً جمّاً، ليس ذلك لأن الأمير كان يطري جدّنا ويذكر من أعماله وآثاره ما كان يذكر، فإن الآثار والأعمال نفسها تعرب عن
قدر صاحبها واِستحقاقه شكر الناس له إعراباً صحيحاً لا شكّ فيه ولا خلاف عليه، ولكن ذلك لأنّي رأيت مثل هذا الاِعتراف الجميل يصدر عن إنسان آخر على خلاف المألوف في طبائع أغلب الناس، خصوصاً في هذا الزمان، فإنّه قلّما يعترف واحد لغيره بفضل أو ميزة اللهم إلا إذا كان نفاقاً أو رياء. وقد يدفع الحقد ببعض الناس إلى أن يزيدوا، على نكران المعروف ونسيان الجميل والمروءة، أن يتلمّسوا لصاحبهم مواضع العيب والنقص من أعماله، وينشروها ليشهّروا به في المحافل والمجالس تشهيراً. وإنّ أعجب ما في الإنسان أن تراه شديد العداوة والبغضاء لأخيه، عظيم النفور منه. ومع ذلك فإنّه شديد الحاجة إليه عظيم الرغبة فيه. فبينما تجده يكره منه أن يزاحمه على خير أو يشاركه في فضل أو يستأثر دونه بعلم أو عمل، ويمقته ويزدريه ويودّ لو أنّه يستأصل من هذا الوجود فلا يبقى له أثر فيه، إذا هو لا يستطيع أن يعيش بدونه ولا أن ينهض بغيره، لا يرى معونته إلا منه ولا سلطانه إلا به ولا عزّه إلا في بقائه. فقضية الإنسان في تلك الحياة متناقضة معكوسة، وقل مع هذا أن يملك الواحد نفسه وينصف صاحبه، ويعطيه قسطه من المدح وحقّه من الثناء والشكر. وحينئذٍ لا بدع إذا كان يسرّني جدّاً أن أرى إنساناً مثل هذا نظيف القلب مغسول الصدر من أدران الحقد والحسد. وإنّي بعد أن شكرته جزيل الشكر وأثنيت عليه جميل الثناء، قلت له: إذا كان للمرحوم جدّنا محمّد علي باشا في الشرق من تلك الآثار الواضحة والأعمال الخطيرة النافعة ما يستوجب شكر الناس له، فإنّنا معشر الشرقيّين لا ننسى أن لأبيكم في الغرب من الإصلاحات الكثيرة والمنافع الجمّة الجليلة ما ليس يقلّ عن ذلك شيئاً، وعلى هذا
اِنتهى حديثنا.
وكان من ضمن الزائرين لنا في مساء هذا اليوم حضرة عبد الحميد بك غالب، نجل المرحوم عثمان غالب باشا. وقد اِستغربت إذ ذاك وجوده في دمشق، فسألته ماذا جاء بك إلى هنا؟ فقال: إنّ لي عمّاً في هذه المدينة، وقد كان المرحوم والدنا اِشترى بيتاً كبيراً حوله حديقة في ضواحي دمشق. ثمّ إنه ما زال جالساً معنا حتّى وقت الغروب، فاِستأذننا مودّعاً بالحفاوة مشكوراً على تلك الزيارة.