الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جامع خالد بن الوليد
وبعدئذ ذهبنا من خارج البلد لنزور جامع خالد بن الوليد ذلك الّذي له الفضل الأكبر في فتوح الشام. وعندما أوشكنا أن نصل إليه، وقد كان على أقرب المسافات من المدينة، قال لنا سعادة عبد الحميد باشا الدروبي اقتضاباً: أمّا وقد لمحتم دولتكم هذا المسجد العجيب الإتقان البديع البنيان فإنكم لابد تذكرون في نفسكم ما يشبهه ويجانسه في مصر. (وقد كنت خالي الذهن إذ ذاك من كلّ شيء إلا فيما كنت رأيته من المدينة وما حولها) فقلت لسعادته إنّه لم يدر في خلدي شيء فأحدث نفسي بمثله في مصر اللهمّ إلا ما رأيته في طريقنا وذلك المسجد. فقال سعادته: ألم يكن شكل هذا الجامع ليلفت خاطركم إلى المسجد الكبير الّذي أسّسه في قلعة مصر جدّكم الأكبر، ساكن الجنان، محمّد علي باشا؟ فقلت له: بلى، لكأنّي به وهو جامع القلعة بعينه. وحقيقة، كان هذا المسجد العظيم لا يختلف عن جامع القلعة شيئاً في رسمه ونظره، سواء في ذلك شكله من الظاهر والباطن. وقال سعادة الباشا: إننا استصدرنا أمر جلالة مولانا السلطان بإصلاح هذا المسجد وتعميره، ورأينا حينئذ أن نشيده على طراز مسجد القلعة، وقد أعاننا الله تعالى على ما وفقنا إليه من تشييده وإتقانه، حتّى صار كما ترون. ثمّ دخلناه واطّلعنا على ما كان فيه، وقد سررنا كثيراً من زخرفه وزينته. واِتّجهنا بعد ذلك إلى زيارة ذلك البطل الكبير والفاتح الشهير خالد بن الوليد في ضريحه، وقرأنا على روحه الطاهرة ما تيسّر لنا من القرآن الكريم.
إلى بيت الباشا
ومن هناك ذهبنا قاصدين إلى دار سعادة المتصرّف لنردّ له زيارته، وكان طريقنا
إليه من داخل المدينة. وبعد أداء الزيارة، عدنا إلى بيت سعادة صاحبنا عبد الحميد باشا. وقد أعدنا إليه النظر، فأعجبنا جدّاً شكله وموضعه الّذي حاز مع جمال المنظر
كمال الأبّهة، حتّى إذا رآه الواحد على بعد لم يشك أنّه بيت مجد وإمارة. ومذ دخلناه رأينا فيه إشارة برقية أرسلها إلينا صاحب العطوفة فخري باشا والي حلب فاستلمناها وقرأنا فيها سؤال عطوفته عن وقت قيامنا من حمص، وعن اليّوم الّذي نصل فيه إلى حلب. فأرسلنا إلى عطوفته إشارة من لدنّا أخبرناه فيها بما كنّا صمّمنا عليه من العدول عن زيارة هذه المدينة، معتذرين إليه بضيق الوقت، مظهرين كبير أسفنا من عدم سنوح الفرصة برؤية حلب الشهباء. وأنه لقد كان في نفسي من أوّل الأمر أن أزور مدينة حلب وأن أقيم فيها يومين، عندما كنت متردداً بينها وبين حماة. ولكنّي، على الرغم من ذلك، جاريت الظروف وقتئذ ونسخت ما كنت رسمته في خطّتي الأولى من مشارفة هذا البلد، مستعيضاً منه مدينة حماة. وعندما جاء وقت الظهر، وكان قد حضر حضرة القائمقام، دعينا إلى المائدة فتناولنا عليها طعام الغداء الشهي. وما لبثنا بعد ذلك إلا قليلاً، ثمّ قدّمت إلينا إشارة برقية أخرى من لدن عطوفة فخري باشا، يذكر فيها أنّ جميع أعيان حلب ووجهائها قد كلّفوا عطوفته أن يرجونا بالنيابة عنهم أن نجيب طلبهم إلى زيارة بلدهم، إلى أن قال: وإن لهم وطيد الأمل وكبير الرجاء في أن لا يحرموا من تلك الزيارة الجليلة، وأنهم منتظرون بفروغ الصبر إجابة تسرّهم، وإلا فإنّهم مستعدّون جميعاً للحضور بأنفسهم إلى مدينة حمص لكي ينالوا رغبتهم ويحصلوا على غرضهم. وإذ ذاك لم يسعني حيال هذا الكرم الكبير سوى أن أعدل خطّتي مرّة ثانية وأستردّ عزيمتي على زيارة مدينتهم، فأرسلنا إلى عطوفة الباشا الوالي رسالة برقية نشعره بما صار إليه عزمنا من قبول ملتمسه بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن حضرات من كلفوه ذلك، مع إبداء مزيد الشكر والامتنان لمعروفه ومعروف
أبناء حكومته المخلصين.
ثمّ توجّهنا إلى زيارة المدرسة الإسرائيلية لمناسبة أنّ مؤسّسيها كانوا قد طلبوا إلينا زيارتها. وقد وجدنا في اِستقبالنا عدداً كبيراً من تجّار الحمصيّين في مدينة طنطا. وعندما دخلنا أخذ جميع الحاضرين يهتفون لنا بالدعوات تارةً وبالتحيّة والترحيب تارة أخرى. وبعد أن جلسنا في قاعة الاستقبال بين المحتشدين، قام بعضهم يذكر بين أيدينا قصائد ومقالات بليغة كانت كلّ عباراتها تدور حول الترحيب بنا والثناء علينا. وإنّا نقتطف منها ما نراه يناسب رحلتنا مبتدئين بالمقالة الّتي قدّمها إلينا
مطبوعة حضرة الكاتب البليغ الدكتور كامل لوقا، قال حضرته:
يا دولة الأمير العظيم، أتشرّف الآن بالوقوف أمام دولتكم عن مفوّض المسيحيين الحمصيين، نزلاء الديار المصرية، الّذين طالما تمتّعوا بالراحة والعدالة والحقوق التجارية تحت كنف العائلة الشريفة المحمّدية العلويّة. أتشرّف بالنيابة عن أولئك العثمانيين لأحيي أميراً عثمانياً مصرياً، فأحيّيكم مرحباً بسلامة قدومكم الميمون من ديار عربية عثمانية مصرية إلى ديار عربية عثمانية سورية. أحيّيكم وأقدّم لكم عواطف الامتنان والشكر بلسان أولئك الّذين يستثمرون أموالهم وأتعابهم في تلك الديار السعيدة منذ خمسين عاماً، وهم في بحبوحة من السعة ورغد العيش. نعم أحيّيكم وأحيي بكم مصر وساكنيها بلسان بضعة آلاف من الأهالي الحمصيين الّذين ينتفعون ويشتغلون ويقدّمون منسوجاتهم الوطنية إلى قطركم المصري. أجل، إقراراً بالفضل ومعرفة الجميل، نحيي باِسمكم الكريم أيّها البرنس الفخيم ونحني الهام أمام تلك الروح الطاهرة الشريفة الّتي أحيت العدل والمعارف في القطر المصري السعيد، روح أحد أبطال الشرق العظام، جدّ العائلة الخديوية الشريفة المرحوم محمد علي باشا الكبير. فأهلاً وسهلاً بأمير أحيا لنا ذلك الاسم المحبوب، فنحيّيكم باسم أولئك النزلاء الحمصيين في كافة القطر المصري عموماً، وفي
طنطا خصوصاً، كأمير زائر شريف يقصد النزهة في بلاد ترحّب بزيارته. أمير متنوّر فاضل عرف أن البلاد السورية شقيقة البلاد المصرية، فأحبّ إلى زيارتها على الرحب والسعة. فأهلاً بالفضل ومرحباً بالنبل، وأكرم بهذا الضيف العظيم وبمضيفه الكريم من يفتخر به الوطن مولاي سعادة الهمام عبد الحميد باشا الدروبي. وفي الختام، تنازلوا يا دولة الأمير لقبول عواطفنا القلبية وسرورنا بتشريفهم، مجاهرين بقولنا ليعش جلالة مولانا السلطان محمد رشاد وليعش سموّ الخديوي عباس المعظم وليحي دولة البرنس محمد علي باشا، والسلام.
وممّا كان ذكر في هذه الحفلة أيضاً بعض أبيات قدّمها لنا مطبوعة لفيف من الحمصيين المسيحيين الّذين يتّجرون في القطر المصري وهي:
لا غَرو إِن شمت حمصاً تَزدهي طرباً
…
وَفي مَرابِعها تَزدادُ أنوارُ
فإنّها بَلغت من دَهرها أرباً
…
غَنّت لِبهجتهِ في الروضِ أطيارُ
قَد زارَها اليومَ مِفضالٌ منَ الأمرا
…
تَشرّفت وَاِنثَنت تيهاً بِملقاهُ
وَزينت بِشقيق باتَ مُزدهراً
…
وَزنبقٍ فاحَ طيباً عرفُ ريّاهُ
شَرّفتنا يا سَليلَ المجدِ عَن كثب
…
شَرّفتنا فَعلى الترحيبِ والسعةِ
فَاِقبَل تشكّرنا يا أيّها العربي
…
يا ربّ كلّ ندىً سام وَمكرمةِ
أَهلاً وسهلاً بِمَولى زارَ بَلدَتنا
…
بِموكبٍ قادمٍ مِن بقعةِ النيلِ
أَولت زيارتهُ أَفرادنا مِنناً
…
فَلَنبدينّ لهُ شكراً كإكليلِ
تجّار حمص بِطنطا حاصِلون عَلى
…
عَطفِ الحكومةِ مَع أَقصى عِنايتها
وَمع بَني مصر عاشوا إخوة فإِلى
…
مصر تحيّتنا الجلّى بِغايَتها
مِن حمصَ في مصركم بيت وعائلة
…
حلّت بِجملتِها والأنسُ موجودُ
إنّا على ثقةٍ إنّا على ثقةٍ
…
بِما اِنطويتم علَيه أيّها الصيدُ
لَذا أَتيناك يا مَولى الكرامةِ يا
…
رُكنَ الفخامةِ نَتلو آيَ شكرانِ
بلّغ عَواطِفنا لا زلتَ مُرتقياً
…
حُكومةً قَد حَبَتنا كلَّ إِحسانِ