الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهدانا، ونحن خارجون، كتاباً مطبوعاً في تاريخ بعلبك من تأليفه. وهو كتاب جليل حوى في موضوعه أحسن المسائل التاريخية الحاضرة والأثرية لهذه المدينة العتيقة، فتقبلنا منه هديّته بالشكر والثناء.
كلمة عن القلعة
يخرج السائح من قلعة بعلبك، بعد أن يتطوّف على دوائرها، ويتعرّف بواطنها بعد ظواهرها ويتفقّدها من أوّلها إلى آخرها، وإنه لقد حار في الأمر فكره وضاق بالعجب صدره. وبعد أن كانت المسألة عنده قاصرة على فخامة القواعد وضخامة المباني، تحوّلت إلى بحث واسع في موضوع علمي حافل بجليل المقاصد وجميل المعاني. وبعد أن كان ذلك الزائر يحصر نظره كلّه في دائرة لا تزيد عن أطوال وأعراض ومهارة عمّال وشطارة مهندسين، صار يجول في محيط عظيم من أطوار وأغراض السريانيين والكلدانيين، وممّا كان أصاب الناس من ضروب المذلّة والمهانة في العصر الماضية، عصر الأوثان والكهانة، تلك الّتي كان للكهنة فيها تأثير في سياسة الممالك مثل تأثير القياصرة والملوك أو هو فوق ذلك. وقد كان هذا التأثير نفسه هو الأصل الّذي عليه ترتكن الحكومة، عندما كانت تعمد إلى تشييد تلك المباني الضخمة، مثل قلعة بعلبك وحلب في الشام والأهرامات ومعبد الكرنك ومدينة هبو في مصر، وغير ذلك من الحصون والمعابد والمقابر التي نراها فيفزعنا منظرها ويهولنا شأنها والّتي لا تزال تتجلّى فيها فكرة مؤسّسيها وواضعيها يمرّ بعض الناس بهذه الآثار المدهشة مرّ الكرام على اللغو من الكلام
وغاية ما في الأمر أنّهم يعجبون من مناظر هذه الأشياء وظواهرها لأنّهم لم يعرفوها في عادتهم ولم يألفوها في قدرتهم، مثل إتقان البنيان وإحكامه إلى حدّ أنّ سنّ الإبرة لا يمكن أن ينفذ بين مداميكه وسافاته، أو قدرة البنائين والفعلة إلى درجة أنّهم يرفعون تلك الحجارة الثقيلة الهائلة إلى مسافة عظيمة حين لم يكن لديهم آلات لجرّ الأثقال ورفعها وما أشبه ذلك، ولكن الوقوف عند هذا الحدّ من مثل هذه الأعمال الخطيرة المفزعة قصر في النظر ثمّ هو عن الضالة المنشودة والغاية المطلوبة بمراحل طويلة، بل هو في نظري لا يزيد عن حدّ الوقوف عند
العاديات إلّا بمقدار ما يسافر الفكر إلى اِرتياد العلل وطلب الأسباب، أمّا من عني بالبحث والتدقيق واستنتاج الحقائق بالتحقيق فإنه لا يكتفي بتلك المناظر ولا يهمّه الالتفات إلى مجرد الظواهر، ولا يدع مثل قلعة بعلبك تفلت من يده حتّى يدور نظره حولها مراراً ويعتصر فيها فكره اعتصاراً فينتفع من أجزائها وجملتها وعمدتها وفضلتها بمعرفة ما لا يمكن أن يعرف إلّا من طريقها، ومن ثمّ نورد هنا كلمة فيلسوف بحاث في حصن بعلبك وهياكله لا بقصد أن نفيد أن هذا هو منتهى ما وصلت إليه الأفكار وآخر ما استقرّ عليه الرأي أو أن نشير إلى القطع بشيء مخصوص في موضوع لا يزال إلى اليوم مطروحاً على بساط البحث والنظر أمام المفكرين من علماء الآثار والأخبار وغيرهم، وإنّما ذلك لأن هذه الكلمة الطيّبة في حدّ ذاتها خلاصة بحث واسع ونتيجة فكر سليم، قال ذلك الفيلسوف أن هذه الهياكل القائمة في معابد القدماء وحصونهم سواء الموجود منها في صعيد مصر وفي بلاد الشام تشير إلى ما كان عليه السريانيون والكلدانيون قبل الطوفان وبعده من غلوّهم في الوثنية وعبادة الأصنام وهي مع هذا تشير أيضاً إلى قوّة هؤلاء الناس وبأسهم في غابر الزمان واستعصائهم على الأنبياء والرسل بعد أن أرشدوهم إلى الحقّ وأوضحوا لهم سبل السعادة، ومن هؤلاء الرسل الكرام النبي إلياس عليه
السلام كان قد طلب إلى قومه أن يتركوا عبادة الصنم بعل وأن يعبدوا الله عز وجل فعصوه واستمروا عاكفين على عبادة الصنم المذكور، قال تعالى:(أَتدعونَ بعلاً وَتَذرونَ أَحسنَ الخالقين الله ربّكم وربّ آبائِكم الأوّلين) وخوف أن يصيروا سدّاً بين نور الله والناس أغرقهم الله بالطوفان وأرسل عليهم العذاب الأليم في أزمان مختلفة، وتقادم عهد الزمان وآثارهم العظيمة لا تزال باقية تنادي عليهم بالويل والثبور وأنهم مع ما أوتوا من القوّة والبطش لم يعصموا أنفسهم من بأس الله إذ جاءهم فلئن كانوا أولي بأس وقوّة فالله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلا، ولمّا كانوا ظاهرين في الأرض بالقوّة لاستحواذهم على ضعاف العقول وكان في ذلك من ضرر النوع الإنساني ما فيه أشار الله في كتابه على ذمّ صنمهم القائم في أرض الشام إبّان ظهور الدين الإسلامي فقال: أتدعون بعلاً. . (الآية). فالقرآن يشير إلى أن
الوثنية كانت قائمة هناك، وغير القرآن من الكتب يشير أيضاً إلى ذلك. إذاً فالهياكل وطيدة الأركان قائمة الدعائم ضخمة البنيان هنالك من أزمان متوغلة في القدم، ولا يناطح الزمان إلا مثله في القوّة والبأس. ولقد اكتشف الألمان في هذا الزمان الآثار الموجودة في بعلبك وأمكنهم أن يصلوا إلى السرّ الّذي عجز عنه الأوّلون، ولو كان انكشف لهم في سالف الزمان ما كانوا قضوا أجيالاً كثيرة وأحقاباً طويلة وهم ملازمون للوثنية عاكفون على الأصنام، وما كانوا نازعوا رسل الله نزاعاً شديداً ولا جحدوا رسالة ربّهم وكفروا به، وما كان تأخّر العمران واِنتشار الحضارة في الأرض. لقد علم الألمانيون بالبحث الدقيق أن جوف الصنم بعل أجوف، وفيه فتحتان فتحة من أمام وفتحة من وراء وأن رئيس الكهنة كان يسيطر على الأمّة كلّها، ملكها ومملوكها، وكانت له الكلمة النافذة التي لا يستطاع ردّها ولا يمكن معارضتها. وذلك أنّه كان إذا استشير في أمر خطير يهمّ الملك والمملكة قال حتّى نتقرّب إلى الصنم وندعوه ويأذن لنا في هذا، فإن لم يأذن فلا
يكون هذا الأمر. ثمّ يذهب بعد ذلك إلى خادم خاص بالصنم، منعزل عن الناس، عاكف على الصنم واقف في خدمته، ويقول في غد آتي إلى هنا مع الملك وأشياعه ونقرّب القربان إلى الصنم وندعوه أن يبيّن لنا ما نحن بصدده، أنمضي في الأمر أم لا نمضي فيه. فإذا نحن جئنا وخشعنا أمام الصنم ودعوناه، فهنالك تكون قد وضعت البوق الطويل في الفتحة التي من خلفه قائلاً كذا وكذا. فما يكون من ذلك الخادم إلا أن يصدع بأمره، ويقوم بما أوحى إليه رئيس الكهنة، ولا يقول إلا ما أذن له في قوله، حين وقوفهم بين يدي الصنم واستشارتهم إيّاه، فلا يحصل أمر الملك والمملكة إلا كما يسمعون من الصنم. وعلى هذا النمط كانت أمور الكهنة مع الأمم في سائر الأرض الوثنية. ومن هنا تعلم أنّ الوثنية كانت جرثومة الفساد في الأرض وأصل الظلم العظيم، ولذلك حاربها الله تعالى محاربة شديدة حتّى يرجع الناس إلى الاعتماد على عقولهم التي ركبت فيهم وعلى أنفسهم، وحتى لا يخدعهم خادع ولا يصرفهم عن مصالحهم الّتي بين أيديهم صارف، فينتظم الكون وينتشر العمران في الوجود. ولقد بالغ محمد، صلى الله عليه وسلم، في التنفير من الكهانة والابتعاد عنها كثيراً، وما حكمة ذلك إلا أن تجري الناس على سنن الطبيعة وِفاق الفطرة والمصلحة. تلك سنّة الله في خلقه فهو يردّهم