الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس ما هو أكبر منها، نعم إن الميت في قبره لا ينتفع بسعة المكان كما لا يهمّه شيء من زخارف الحياة، وإنما أسفي كان من أنّ الشرقيّين وهم أعرف الناس بقدر هذا الفاتح المظفر لم يحفلوا به كما يحفل الغربيّون بعظماء
رجالهم مع أنّ الغربيّين أنفسهم قد قدروا قدر هذا الرجل وليس هناك أدلّ على ذلك من إهداء إمبراطور ألمانيا إلى قبره إكليلاً زهرياً يسر الإنسان أن يرى منه برهاناًَ على شعور جلالة الإمبراطور وأضرابه بقدر ما يحزنه أن لا يرى شيئاً مطلقاً من جانب الشرقيّين عموماً والمسلمين خصوصاً على قبره.
الصالحية
هي إحدى القرى والأحياء الّتي تنقسم إليها مدينة دمشق، وقد كنّا عوّلنا على اِرتيادها في هذا اليوم. فبعد أن فرغنا من مشاهدة الأسواق واِنتهى أربنا من زيارة الأعيان وبعض الجوامع ومن كلّ ما كان يهمّنا أن نطّلع عليه بالقصد أو كان يصادفنا أيضاً على غير نيّة وحساب عندما كنّا نسير في الشوارع والطرقات، توجّهنا تحوطنا رعاية الله إلى الصالحية وكان الوقت عصراً فسرنا في طريق كان من أجمل الطرق وأحسن المنتزهات في تلك البقاع حيث لا يلتفت فيه الإنسان عن ذات يمينه أو عن ذات يساره حتّى يرى الأرض من الجانبين خضراء زاهية بالبساتين والمزارع الّتي يميل إليها الطبع ويفرح منها القلب، ولا يزال المسافر في ذلك الطريق يمرّ بين مناظر طبيعية تختلف في الحسن وتتفاوت في الجمال وينتقل من منظر شهي إلى أشهى ومن شكل بهيّ إلى أبهى، ولا يودّع فيه نهر الطرة حتّى يستقبل بعده نهر البريد وهكذا إلى أن يصير في الصالحية. وهي قائمة على هضبة جهة الغرب من المدينة، وعدد سكّانها يبلغ نحو عشرة آلاف نسمة، ويمرّ منها نهر البريد وفيها من الأشياء المشهورة جامع الصوفي الشهير محيي الدين ابن العربي، وقبر عبد القادر الجزائري.
وقد سرّني جدّاً منظر هذه القرية الّتي جمعت على طيب المناخ ونضارة البقعة واعتدال الجو من ضروب الحسن والبهاء ما لا يمكن الإعراب عن نعته بأكثر من أنّه جنّة عالية تجري من تحتها الأنهار، كما قال بعض الشعراء:
الصالِحيّة جنّةٌ
…
وَالصّالِحونَ بِها أَقاموا
وهذا قليل في وصف بلد مثل هذه. وإنك تكاد تطير فرحاً وسروراً عندما تشرف منها على دمشق وما يتخلّلها من الماء والخضرة ويحيط بها من البساتين النضرة، فترى من هذه المجموعة البديعة منظراً يخدع النفس حسنه ويسترقّ الفؤاد جماله، مررنا هناك في جملة شوارع ورأينا فيما كنّا نراه بيوتاً وأكواخاً صغيرة تدلّ بظاهر هيئتها على أنّ سكّانها من الفقراء البائسين وقد كنت أحسب أنهم من العرب ولكنّي عندما تأمّلت شكلهم عرفت أنّهم من أهل كريد المسلمين توطّنوا تلك الجهة واِستعمروها. وقد رأينا في نفس البلد أيضاً بيوتاً كبيرة وقصوراً مشيدة وهي من أملاك أكابر الدماشقة وأعيانهم. ثمّ صادفنا ونحن خارجون من تلك القرية مصطبة الإمبراطور. وقد اِستغربت هذه الإضافة فسألت من بعض القوم عن سببها فقالوا: إن إمبراطور ألمانيا لمّا زار تلك الجهة نصبت له خيمة فيها ووقف على تلك المصطبة ليرى منظر المدينة وما حولها، ومن هذا الحين نسبت إليه ودعيت باسمه. ثمّ إنّه لم يكن وراء الصالحية من الجهة الغربية إلا جبل قسيون، وأمّا من ناحية الشرق فلست أجدني مبالغاً إذا قلت إن الطبيعة لم تتجلّ للعيون فتملأها حسناً ولا للقلوب فتنهبها طرباً إلا في تلك البقعة عندما يشرف الإنسان منها على المدينة وما يحيط بها فيرى من الحسن والإبداع وجمال التكوين والاختراع ما لم يعثر النظر على مثله ولم تنسج الطبيعة على منواله. وكم كنت آسفا من أنّي لست بالشاعر الخيالي ولا بالرسام الماهر حتّى كان يمكنني أن أصوّر للقارئ كيف كان يفعل بالعقول ذلك المنظر الساحر، حينما كنت أشرف تارة على ناحية الشرق فأرى السفح مفروشاً من النبات البهي
بمثل البساط السندسيّ، وأرسل النظر تارة أخرى إلى الجنوب فأشاهد مآذن دمشق الشاهقة بين مبانيها ومعالمها الفائقة، وقد أحاط بها سياج من الحدائق الفيحاء إحاطة النطاق
بخصر المشبوبة الهيفاء، فما أدرى وقتئذٍ إذا كنت أردّد البصر بين نضارة المزارع وجمال المدينة أم كنت أغازل عروساً بديعة الحسن في ثياب البهاء وشعار الزينة. ولكن ماذا كان يفيدني أن أكون أبلغ المتكلّمين فأصف ما كوّنته يد القدرة في هذا المقام الكريم بأفصح مقال وأوضح تبيين، أو أكون أحذق المصوّرين فيتحرك قلمي في رسم ذلك المنظر الفخيم بأبدع نقش وأبهر تلوين وأنه شتّان بين ما يقع في القلب من روعة المشاهدة والعيان وبين ما يصل إلى السمع من حديث التعريف والبيان.
يا اِبنَ الكِرامِ أَلا تَدنو فَتُبصر ما
…
قَد حدّثوك فَما راءٍ كَمن سَمِعا
وعلى ذلك تمّت الرحلة على الصالحيّة.
ثمّ عدنا إلى الفندق وقد مررنا في أثناء الطريق بمدرسة الملك الظاهر بيبرس ومكتبة الحكومة الّتي جمعت عند قبره واِشتهرت في تلك الدائرة بادّخار نفائس الأسفار العربية وغرائب الكتب الفنيّة، ويقولون إنه قبل أن تتكون هذه المكتبة كانت الكتب متفرقة في عدّة أماكن متنائية، فكان يصعب على عشّاق العلم أن يصلوا إلى غايتهم من البحث والمراجعة في تلك الكتب. على أن تباعد مواضعها كان من أهمّ الأسباب لتدشينها ونقص بعضها بل ضياع عدد كثير منها. ولولا أن أتاح الله لها مدحت باشا فعني بجمعها وترتيبها لكانت اليوم في حيّز العدم، وكانت تكون دمشق كبيروت خالية من المكتبات العامّة الّتي لا تقل فائدتها في المجتمع عن المدارس. ثمّ إنّي كنت عجبت من أنّه كيف تكون بيروت خالية من الكتبخانات العامة وهي البلد الوحيدة التي اختصّت من بين سائر بلاد الشام بكثرة المدارس وانتشار العلوم والمعارف. ولا شك أن تأسيس مثل هذه المكتبة الجميلة المشتملة على الكتب القديمة في مدينة كبيرة يعدّ نهضة شريفة تبقى لمدحت باشا في تاريخه إلى
آخر الزمان. وقد كان أمام هذه المكتبة جامع ابن بيبرس وقد منعنا أن
نزور غيره أيضاً من جوامع دمشق الكثيرة الّتي منها أيضاً جامع السنانية أنّنا كنّا قريبين من وقت الظهر. وبعد أن تناولنا طعام الغداء في الفندق أخبرنا بحضور جملة من الخيل فاطّلعنا عليها. وكنّا نحسب أنّ فيها ما يجتلب رغبتنا ويجتذب اِستحساننا ولكنّا، مع مزيد الأسف، وجدناها كسائر الخيل المعتادة لا تمتاز حتّى ولا بأنّها من تلك الجياد الأصيلة. ولذلك صرفنا عنها النظر، وذهبنا في عربة إلى زيارة تكيّة المولوية، تلك الّتي ذكرنا أنّها كانت في طريقنا من المحطّة إلى الفندق. دخلنا هذه التكيّة، وهي من البناء المزخرف الجميل قائمة في وسط حديقة غنّاء. وقد اِستقبلنا عند مدخلها شيخها، وهو رجل كامل ظريف، وبعد أن رحّب بنا ناولنا من سعوطه الّذي أخبرنا أنّه من عمله وصنعة يده، فشكرت له أدبه ومعروفه. ثمّ طفنا على قاعات التكيّة ورأينا أنّ أهلها من أوّلهم إلى آخرهم ممتلئون جذلاً وسروراً بسبب أن جلالة السلطان محمّد الخامس مولوي الطريقة، فهم من أجل ذلك يطمعون في رعايته وعطفه بنوع خاص، ويؤملون أملاً كبيراً في أن يكون لجميع التكايا من وراء ذلك ما يرقيها ويوسّع نطاقها، حقّق الله آمالهم. ثمّ قصدنا إلى زيارة شيخ النقشبندية. ومن هناك مررنا ثانياً من داخل المدينة في عدّة أسواق يتّصل بعضها ببعض وتتمايز بالأسماء، وكان منها سوق الأروام وسوق باب البريد وسوق الحرير وسوق الخياطين. وإذ ذاك صادفنا دار أسعد باشا، وهي تعدّ من ضمن الأمكنة الّتي يقصد إليها المسافرون ويرتادها السائحون. ولهذا الباشا خان من ضمن خانات المدينة، كما أن لمدحت باشا سوقاً طويلاً يعرف باِسمه هناك. ومن الأسواق الّتي مررنا فيها من هذا الطريق سوق يسمّى سوق القطن لأنّ القطن يباع فيه، ومنه مررنا بجامع السنانية حيث قصدنا إلى الفندق. وكان سبيل سيرنا من ناحية المرج، وهو طريق طويل من المنتزهات البديعة المنسّقة مارّ بجوار نهر بردى وعليه من جهة اليمين واليسار مزارع
وأغراس بهيجة والمتفسحون من أهل دمشق يستحسنون هذه الطريق كثيراً وأكثرهم استحساناً له وفسحة فيه المغرمون بركوب الخيل، فإنهم يروحون ويغدون على خيولهم يرتعون ويلعبون في هذا الطريق الجميل. بذلك ختمنا رحلة هذا اليوم، وما كاد يجيء صبح اليوم الثاني حتّى حضر إلينا في الفندق جمّ غفير من ذوات المدينة