الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلقة، فجاء إلى جانبنا وتبعه قومه، فالتقى الجمعان على هيئة الجيشين يلتقيان في ساحة الوغى وميدان النزال. ومن ذلك الحين، أخذ الاحتفال صورة جديدة ومظهراً رهيباً مهيباً. وقد استمرّ بنا السير على تلك الحال حتّى ترجّلنا عن مركباتنا عند بيت خارج المدينة، وهو منها على مسيرة بضع دقائق. إذ كان قد خرج عن البلد لاستقبالنا في ذلك البيت سعادة عاكف بك، متصرّف مدينة طرابلس في مقدّمة عدد كبير من رجال الحكومة وأعيان المدينة وعلمائها ووجهائها. وهناك مكثنا بعد أن تصافحنا وتبادلنا السلام والتحيّة، ريثما تناولنا القهوة والمرطّبات اللذيذة. وفي تلك الأثناء تقدّمت إلينا كريمة سعادة المتصرّف وأهدتنا باقة ورد جميلة، كانت تحملها بيدها اليمنى لذلك الغرض، فتقبلناها منها بقبول حسن وشكرنا لها هديّتها، كما شكرنا لوالدها وجميع الحاضرين إذ ذاك عنايتهم وكرمهم. ثمّ عمدنا إلى عربتنا وانتظم الموكب كما كان
أو أحسن، نسير من ذلك المكان بين صفوف الألوف من أهل المدينة والضواحي الّذين كانوا يختلفون بين رجال ونساء وكبار وصغار، وكلّهم كانوا يتزاحمون على رؤيتنا ويتسابقون إليها، على نحو ما يشاهد في الاحتفالات الكبيرة الّتي تشهدها الناس ويجتمعون لها من قريب وبعيد، حتّى كان يخيّل إلينا وقتئذ أنّنا نمرّ في حفلة المحمل المصري. وكذلك كان سيرنا طول المسافة حتّى وصلنا إلى بيت صاحب السعادة عمر باشا الّذي كان قد سبقنا إليه ليستقبلنا عنده هو وشقيقه وبقيّة أسرته الكريمة الّتي كانت كلّها من ذوات الرتب السامية والألقاب العالية. وقد وجدنا عند مدخل البيت من حفاوتهم وترحيبهم ما أنطق ألسنتنا بالثناء الجميل على أفراد هذه الأسرة الفخيمة من رأسها إلى ذنبها.
بيت عمر باشا
أمّا البيت فكان من أبدع البيوتات منظراً وأجملها موقعاً وأحسنها ترتيباً ونظاماً، وقد زاده بهاءً وحسناً ما كان عليه من الزخرف والزينة. وهو قائم في ناحية من المباني عن وسط ميدان واسع، يرى من ورائه هيكل البلد في أحد قسميه قائماً على تلّ مرتفع، وإنّه ما كان تمرّ لحظة وتأتي بعدها لحظة أخرى، حتّى كنّا نحسّ من أنفسنا
بفرح مزيد وسرور جديد وارتياح ونشاط. سبب هذا ما كنا نشاهده، آناً بعد آن، من حسن وفادة القوم وإخلاصهم الّذي كان يتجلّى مثل فلق الصبح في أقوالهم وأفعالهم. نعم، إنّي لا أزال أذكر معروف هؤلاء الأفاضل، زعماء العكاكرة وسادة قضائهم، فأشكرهم عليه دائماً أبداً. ثمّ ما كدنا نجلس في ردهة الاستقبال وتستقر بنا مواضعنا، حتّى توافد علينا جميع الأعيان والحكّام والعلماء والرؤساء الروحيّين، فسلّمنا عليهم وشكرنا لهم تكرر المقابلة، وتبادلنا بعض الأحاديث جرياً على العادة. ثمّ صعدنا إلى غرفتنا الّتي خصصنا بها في هذا البيت، وحينئذ أشرفنا من النافذة لنرى ما كان يحيط بنا من الزحام الهائل. وإذا
بذلك الميدان الفسيح، الّذي يبلغ بأقل تقدير ثلاثة أضعاف ساحة عابدين في مصر، كان مكتظّاً بالناس إلى حدّ أنّ أحدهم كان لا يجد في الأرض أكثر من موضع قدميه، ولا في الفضاء ما كان يسعه يحرك رأسه. بل لم أبالغ إذا أنا قلت كما تقول العامّة في أمثالهم المشهورة (ترش عليهم الملح ما ينزلشي). وبعد أن تناولنا الطعام الشهي على مائدة سعادة الباشا واسترحنا قليلاً، قصدنا إلى الحديقة العمومية في هذا البلد حيث كان دعانا سعادة المتصرّف لتناول الشاي فيها. ولقد رأيناها مزدانة مزخرفة، وكانت الطرق الّتي سلكناها إلى تلك الحديقة غاصّة بالأهالي إلى درجة لم تعهد إلا في الاحتفالات العظيمة، وما كان منهم من أحد إلا وكنت أشاهد السرور يتألّق على وجهه. وقد لبثنا هناك نتحدّث، نحن وأصحابنا، في شؤون عامة إلى أن شربنا الشاي وتناولنا ما لذّ وطاب ممّا كان أعدّ على تلك المائدة الشائقة. وأطلقت أمامنا الألعاب النارية الجميلة، وعزفت الموسيقى بالسلام، وتمّت الحفلة فوق ما يرام. ثمّ عدنا إلى بيت سعادة الباشا، وأقمنا فيه ليلتنا مستأنسين بحديثه وسمره، مسرورين مبتهجين بما رأيناه من سامي عناية القوم ولطفهم. وحين ظهرت شمس اليوم التالي وكان يوم جمعة، نمى إلينا ونحن في البيت أنّ خيلاً كثيرة وجمالاً عدّة آتية لأجلنا من ناحية الجبال، عليها فوارس عكار بمزاميرهم، وجمهور من بنات العرب غفير. وما لبثنا أن رأيناهم جاؤوا في الميدان، وكان يلتف بهم عدد كبير من أبناء البلاد. ثمّ شرعوا يزمرون ويلعبون أمام البيت في ذلك الميدان الرحيب الّذي غصّ بهم حتّى لم يبق فيه متّسع لغيرهم، بينما كان معظم أهل المدينة فوق التل يشرفون منه ومن البيوت على