الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ركابنا في حفلة حافلة، تشخص إليها أبصار المحتشدين على طول الطريق وعرضه. أمّا الموكب فكان رسميّاً منتظما، ً حيث كان يسير خلفنا وأمامنا بعض الجند السواري على الهيئة الّتي وصفناها حال حضورنا من الميناء حتّى الفندق. وكان طريق مرورنا من وسط شوارع المدينة الّتي كانت غاصّة من الجانبين بالأهالي على اِختلاف أعمارهم وتفاوت أقدارهم. وكان سروري يتجدّد كلّما كنت أرى أولئك النّاس متشبثين بالعوائد الشرقيّة ومتمسّكين بالملابس القديمة والأزياء الفطريّة. ثمّ كنت أشاهد كثيراً من العامّة يتّخذون مجالسهم من المحال العمومية كالقهاوي والحوانيت التجاريّة ويتعاطون من المكيّفات المباحة ما جرت به عوائد
معظم الناس في جميع الجهات تقريباً. فمنهم من كان يدخن بالأنابيب الّتي تصنع عادة من أغصان الياسمين وتتحلّى مباسمها غالباً بالكارم الأصفر الجميل، وهي عين ما كان يستعمله المصريّون للتدخين من عهد غير بعيد، ويسمّى في متعارف أصحاب الكيوف بالشبك. ومنهم من كان يدخّن بالنارجيل على نحو ما يشاهد في القهاوي في مصر غير أنّ اِستعمال هذا النوع في بلاد الشام أكثر منه في البلاد المصريّة. وبعضهم كان يتعاطى القهوة وآخر يشرب الشاي إلى غير ذلك ممّا يشبه أن يكون نسخة طبق الأصل من عوائد المصريين في بلادهم. ولهذه المناسبة نذكر هنا كلمة عن الأخلاق ممّا تعرّفناه في تلك الرحلة، لعلّ القارئ يدرك منها نسبة ما بين العناصر الشرقية بعضها إلى بعض على ما بينها من تباعد المواطن وشتات الأماكن وتباين الأسباب والعلل واِختلاف الملل والنّحل، ثمّ نعود فنذهب في طريقنا إن شاء الله.
استطراد في الطريق إلى بحث أخلاقي
إن ما صادفناه من عوائد أولئك الشاميّين في محافلهم ومجالسهم ليس في الغالب ممّا يختص بالشاميّين دون سواهم، بل هو يكاد يكون عامّاً يشاهده الإنسان في جهات كثيرة ويعرفه في عوائد أكثر الآدميّين الشهيرة. غير أنّ الناقد الّذي يتبيّن فاضل الأشياء من مفضولها، ويميّز أجناسها من فصولها ويرجع بفروعها إلى أصولها، عندما يعنى بالتنسيب ويقايس بين أخلاق أهل الشام وبين أخلاق أهل مصر لا يجد
من مسافة الفرق بينهما بعد ما يجده من غيرهما. ولا نستغرب أن نجد أنّ مجموعة العوائد والأخلاق في الشام تشبه من معظم الوجوه مجموعتها في مصر، إذ كان الشرق أبا القبيلتين ومربّيهما معاً، على أنّ علّة اِكتساب الأخلاق والصّفات لا بدّ أن ترجع إلى اِختلاط الناس وامتزاجهم بعضهم ببعض مهما اختلفت مطالع الشموس وتباينت منازع النفوس، وأنه كما قد تتقوّى العلائق
وتتوثّق الروابط بين الناس وتتضاءل وتضعف على نسبة ما يكون من المعاشرة، ويقع من الاختلاط قوّة وضعفاً وكثرة وقلّة، كذلك يكون الحال في تشابه أخلاق الناس وعاداتهم سواء في ذلك ما كان من التشابه بين الآحادِ والأفراد وما كان منه بين الأمم والجماعات. ومن أجل هذا نشاهد أنّ كثيراً من الغربيّين قد أكسبهم طول العشرة لأهل الشرق خلقاً غير خلقهم وعادة خلاف عادتهم حتّى تراهم فلا تكاد تفرّق بينهم وبين الشرقيّين إلا في قليل ممّا قويت فيه ملكاتهم وفطرت عليه غرائزهم. كما أنّا نرى مثل ذلك في كثير من أبناء الشرق وما كان يكون هذا أصلاً لولا شدّة الاختلاط وطول المعاشرة، وإن كنّا لا ننسى أيضاً أنّ من المراجع القويّة والأسباب المهمّة في ذلك عشق العادة والميل إلى تقليدها في الغير كما يشاهد في كثير من المقلّدين الّذين بالغوا في تقليد الأجنبي إلى حدّ أنّهم عادَوا عوائدهم وكرهوا تقاليدهم. على أنّه كثيراً ما ينطبع في بعض الناس خلق غيره ويقوى فيه إلى درجة أن يصير منه بمنزلة طبعه وسجيّته وعدوى الطبائع معروفة، كعدوى الأدواء سريعة الانتقال صعبة الزوال. ومن ثمّ كان ينبغي أن يحتاط الإنسان ما أمكنه من مجالسة ذوي النفوس الخبيثة والأخلاق الرديئة وأن يتخيّر أصحابه وذوي مجلسه دائماً من الحكماء والأدباء وأرباب النظر البعيد والرأي السديد، فإنه ما أخلق صاحب هؤلاء أن يستفيد دون أن يخسر، وأجدر جليس الجهّال والسفهاء أن يخسر دون أن يستفيد، وفي هذا المعنى يقول الشاعر العربي:
مجالسةُ السفيهِ سفاهُ رأيٍ
…
وَمِن عقلٍ مُجالسةُ الحَكيمِ
فَإنّكَ وَالقرين معاً سَواء
…
كَما قُدّ الأديمُ منَ الأديمِ