الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عزمي على اِرتيادها. وكان يجيء في غضون حديث القوم عن وصف تلك البلاد ذكر الخيل المحكّمة الخلقة الكريمة الأصل وأنّها في تلك الجهات تمتاز كثيراً عن غيرها بسرعة العدو واِعتدال الصورة وكبر القامة، فكان ذلك يزيد في تنشيطي ويقوّي من عزيمتي سيما وأنّي مولعٌ بالخيل ولي غرام عظيم باقتنائها. كما أنّي أميل كلّ الميل إلى الشجاعة والشجعان وأحبّ ملء قلبي الفروسيّة والفرسان. وكان فيما سمعته من غير واحد أنّ بعض الطوائف في تلك البقاع يحسنون اِختيار الخيل ويجيدون ركوبها على أتمّ ضروب الفروسيّة وأكمل خواصّها، وأنّ أخصّهم في هذا المعنى وأشهرهم به فوارس الدنادشة وأبطال العكاكرة.
الدنادشة والعكاكرة
هما قبيلتان يقال إنّ الأولى منهما أصل جدّها من اليمن ونزل حوران منذ ثلاثة قرون، ثمّ هاجروا من حوران وسكنوا برج الدنادشة فوق تل كلخ مقرّهم الحالي. وكان زعيمهم إذ ذاك يسمى الشيخ إسماعيل، ولقّبه التركمان جيرانه باسم دندشلي، لأنّه كان يزين خيله بعذبات مرسلة تسمّى دنادش. ثمّ رحل شقيقه مع بعض قبيلته إلى حوران وهم الفُحيليون إلى الآن، وزعيمهم مقيم في تل كلخ، ثمّ هم مسلمون سنيّون ولهم ولعٌ غريبٌ بالفروسيّة، ولهم أيضاً عقارات واسعة في سهل البقيعة. وهناك طائفة من المتاولة تسمّى الدنادشة أو بني دندش ويقيمون في عكّار وما يجاور الهرمل وحمص. ولعلّ العكاكرة قبيلة من هؤلاء تنسب إلى عكّار البلد المذكور هذا. وكم كنت أشعر باِرتياح نفسي واِنشراح صدري حينما كنت أذكر مروري بين آثار المتقدّمين، وما عساه أن يكون قد غفلت عنه عين الدهر وأخطأته يد الدّمار من مخلّفات الحروب الّتي تعاقبت على تلك البلاد زمناً طويلاً، خصوصاً من يوم أن فتحها المسلمون إلى أن صارت في أيدي العثمانيّين. نعم، ولعلّي أستطيف حول مواقع الحروب الصليبيّة لأنظر تلك القلاع المتينة، والحصون المكينة الّتي لا تزال تنم على فضل مؤسّسيها نمّ الزجاجة على ما فيها. وهناك تتجلّى مدينة الشرق أوّل أمرها في ما لا يزال يناطح الدّهر إلى اليوم بل حتّى آخر الزمان من آثار العمالقة الأولى
ومخلّفات الرومان. وما بقي يحكي قوّة الأشوريّين، ويذكّر بسلطان الفينيقيّين، وعظمة البيزانطيّين، وتبدو حضارة الإسلام فيما جدّده بعد ذلك غزاته الفاتحون وملوكه السالفون، وهو ما به يسطع نور الحجّة على عظم صولتهم وكبر دولتهم وهمّتهم وسعة علمهم وغزارة حكمتهم.
تلكَ آثارنا تَدلُّ عَلينا
…
فانظروا بَعدَنا إلى الآثارِ
وعندئذ ما كان أدعانا أن نحمد الله إلى هؤلاء القوم ونشكر لهم سعيهم الجميل بل نحمد الله الّذي هدانا لهذا ووفّقنا له وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ونعود بجميل الثناء وجزيل الشكر لسموّ الجناب العالي الخديوي الّذي ما كدت أعرض على سموّه الأمر، وألتمس إذنه الكريم بالسّفر حتّى تفضّل - حفظه الله - فزاد على إذنه بذلك أن أتحفني بمرافقة حضرة الفاضل أحمد بك العريس، لمناسبة أن حضرته من أهل الشام، وله مكانة كبيرة من صدور الشاميّين، فضلاً عن كونه من أصحاب البيوت العتيقة في المجد والشرف وعلى علم تام من أخلاق القوم وعوائدها. وكذلك تفضّل الجناب العالي - حفظه الله - فأرسل معنا حضرة محمود خيري أفندي، أحد ضباط الحرس الخديوي، ياورا خاصاً لنا مدّة هذه السياحة. ثمّ إنّي قبل السفر ببضعة أيّام كنت طلبت إلى شركة كوك أن تبعث إلينا رسولاً من قبلها لنستعلمه عن كيفية السفر، وبالأخص عن كيفية السير إلى بغداد من طريق حلب، فأخبرنا بأن الطريق من حلب إلى بغداد من الطرق التي لم تمسّها يد الحضارة إلى الآن، وأنه بلغ من الطول بحيث أن المسافر فيه يظلّ خمسة عشر يوماً راكباً على متون الدواب، لأنّه لا مركب ثمت إلا الخيل أو عربات البريد. وهذا مركب صعب شاق، خصوصاً إذا كان المسافر ممّن لم يتعوّدوا السفر غير في طريق السكّة الحديديّة. وعند ذلك لم يسعني غير أن عدلت خطتي الأولى وتركت زيارة عاصمة العراق إلى أن يذلّل الله المصاعب ويسهّل للمسافر الطريق.