الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فشربنا القهوة. وبعد ذلك شكرنا لدولة المتصرّف وجناب قرينته المصونة ومن كان معهما في هذه الحفلة الشائقة ما أظهروه من العناية في إكرامنا والاحتياط بجميع الوسائل لراحتنا، ممّا جعلنا لا ننسى لهم جميعاً هذا اللّطف والمعروف أبداً. وقد خرجنا من عندهم مودّعين بغاية الحفاوة والاحترام.
زيارة المجلس البلدي
ومن هنالك ذهبنا حيث كانت الساعة أربعة بعد الظهر قاصدين على رأس النبا إجابة لدعوة رئيسَي البلدية في مدينة بيروت. وقد كانا أعدّا لنا مأدبة شاي جميلة في حديقة الحريّة، وهي في باب سراي الحكومة، وكانت تسمّى بالحديقة الحميديّة منذ عشرين سنة. ثمّ هي حديقة عامّة واقعة في وسط المدينة، وتشبه حديقة الأزبكيّة من حيث يقصد النّاس إليها للتروض والفسحة. وقد زخرفها المجلس وزيّنها من أجل الاحتفال بنا زينة بديعة، وأقام في وسطها كشكاً فسيحاً لجلوس المدعوين، وسرادقاً جميلاً جعل فيه خواناً عليه من ألوان الطعام وأنواع الشراب ما لذّ وطاب. وحينما وصلنا إلى هذه الحديقة، وجدنا جمّاً غفيراً من أهالي البلد مجتمعين حول الروض من الخارج وفي طرقاته من الداخل. وما كاد يقع علينا
نظرهم حتّى طفقوا عن بكرة أبيهم يحيّوننا تحيّة فائقة ويصفّقون لقدومنا تصفيقاً. وقد كان في أوّل المستقبلين لنا حضرتا رئيسَي البلدية. وذهبا بنا توّاً إلى ذلك البهو بين تصدية المحتشدين وهتافهم الشديد. وقد وجدنا في اِنتظارنا هناك عدداً كبيراً من رجال الحكومة وثراة المدينة وأعيانها، يتقدّم الجميع صاحبا الدولة ناظم باشا الوالي، ويوسف باشا المتصرّف. فحيّيناهم جميعاً وما لبثنا نجلس إلا قليلاً، ثمّ قام جناب الرئيس الأوّل الحاجّ منيح أفندي رمضان وارتجل في وسط هذا المجتمع الحافل خطابة، كانت على طولها غاية في الرقّة والرشاقة. افتتحها بعبارات الشكر لنا والثناء علينا، ثمّ اِنتقل إلى شرح السرور البليغ الّذي كان يخامر أفئدة أهل الشام عموماً،
وأهل بيروت خصوصاً، من زيارتنا لبلادهم. ثمّ أخذ يُطيل ما شاء الله في وصف الإعجاب بوجود أمير من أمراء الشرق، ومن ذريّة المرحوم محمد علي باشا الكبير، في تلك البلاد الّتي طالما عطشت إلى وجوده واِشتاقت للتمتّع بطلعته بينما، تكرّرت فيها زيارة الأجانب من الأمراء الغربيّين وغيرهم. وشرع بعد ذلك يذكر مآثر المغفور له مؤسّس الأسرة الخديوية وأصل الدوحة العلويّة قائلاً: إنّ التاريخ لم يسجّل عليه محاربته للدولة العليّة حتّى ملأ صفحاته البيضاء بذكر ما كان له رحمة الله عليه من الإصلاحات الكبيرة والخيرات الكثيرة في جميع البلاد الّتي تمتّعت بعدله وسعدت بحكمه أعواماً طوالاً. وأشار في أثناء ذلك إلى تلك الغابة الّتي أسلفنا أنّها غرست بأمر المرحوم إبراهيم باشا الكبير. وهنا أطنب إطناباً في بيان ما لهذه الغابة الصنوبرية من الفوائد الجمّة والمزايا المهمّة، مفيضاً في شرح منافعها المحسوسة من الوجهة الصحيّة، وكيف أنّها كانت حجازاً مكيناً وحصناً حصيناً بين سكان المدينة وبين ذلك الأسد المغتال والمرض القتّال الّذي طالما كانت تكثر زيارته وتثقل ضيافته فيعبث بالمهج العالية والأرواح الغالية، وهكذا حتّى إذا اِنتهى ذلك الخطيب المصقّّع من خطابته البليغة، أخذ جميع
الحاضرين يصفّقون تصفيقاً حادّاً إظهاراً لمكان الخطبة من نفوسهم، بينما كانت الموسيقى تعزف بألحانها الشجيّة ونغماتها المطربة، فكان لها مع تصفيق القوم وضوضائهم مجموعة رنّات، اخترق تأثيرها الشديد أعماق القلوب. ثمّ قام حضرة الفاضل الشيخ أحمد طبارة، وألقى كذلك خطبة أخذت بمجامع القلوب. وكان اِبتداء الكلام فيها بإطراء الأسرة الخديوية، وبيان مآثرهم في البلاد المصرية والشاميّة. ثمّ أخذ يذكر روابط الوداد وعلائق الاتّحاد بين الشعبين المصري والشامي. وأفاض في بيان الأسباب الكثيرة لاتّفاقهما وتآخيهما الّتي ذكر منها أنّهما متّحدان في اللّغة الأصيلة، وأنّهما متجاوران، وأنّ تجارة الشام في مصر من أكثر التجارات وأعظمها رواجاً، وأنّ كثيراً من أبناء الشام هاجروا إلى مصر واستفادوا منها ماديّاً وأدبياً فوائد جمّة. فمنهم من اشتغل بالتجارة، ومنهم من استخدم في وظائف الحكومة ومصالحها وغير الحكومة أيضاً ممّا لا يسعنا معه سوى الاعتراف بفضل مصر على الشاميّين، حيث رحّبت بهم وفتحت أبوابها في وجوههم، فما زالوا يمرحون في بحبوحة كرمها ونعمتها إلى غير ذلك مما كان صريحاً في إقرارهم بمعروف مصر وفضلها