الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانوا يتدارسونه من المسائل والمواضيع المختلفة، فسررنا غاية السرور من نتيجة التعليم وآداب التلاميذ، وشكرنا ذلك الأستاذ الناظر الّذي يرجع إليه الفضل في بلوغ هؤلاء الأحداث إلى مثل هذه النتيجة المحمودة. ومن هناك قصدنا توّاً إلى زيارة ال
كلية الأمريكان
ية.
كلية الأمريكان
وكانت هذه الكليّة من ضخامة العمارة وسعة المساحة وجمال الموضع والبناء، بحيث تنطبق تمام الانطباق على شهرة الأمريكان، وما يعرف لهم من الغنى الواسع والثروة الطائلة. على أنّه قيل لنا إن تلك الكلية لم تقف حتّى الآن عند حدّ محدود، سواء من كثرة البساتين أو من الأقسام والعمائر، بل هي لا تزال تزداد
في كلّ سنة زيادة محسوسة بفضل ولاة الأمر فيها وتواصل عنايتهم بها. وعندما نزلنا من مركباتنا، وجدنا على مدخل المدرسة جناب رئيسها المحترم الّذي كان قد خرج إلى هذا المكان ليستقبلنا عنده، وقد اصطفّ بجانبه التلاميذ المصريّون فاستقبلونا جميعاً بالحفاوة والاحترام. ثمّ ما كدنا نخطو أوّل خطوة من الباب حتّى خاطبنا ذلك الرئيس بعبارات تدلّ على كرم أخلاقه ووداعة نفسه، فقال: إنّي أتشرّف كثيراً بزيارة دولتكم هذه كما يتشرّف تلاميذ المدرسة عموماً، وخصوصاً التلاميذ المصريّين. وقبل أن تتفضّلوا بزيارة المدرسة، أستميحكم العفو فيما أريد أن أتشرّف بإبلاغه إلى دولتكم وإنباهكم إليه. فقلنا له نحن مستعدّون أن نفهم من جنابك ما تريد. فقال أتشرّف بتفهيم دولتكم أنّه قد جرت العادة في زيارة هذه الكلية بأنّ الزائر لابدّ أن يبدأ قبل كلّ شيء بزيارة المعبد حيث تقام فيه الصلاة، كما أنّه من الضروري أنّ الزائر لا يبرح يشهد تلك الصلاة ويسمعها حتّى تنتهي. لذلك أرجو دولتكم أن تتفضّلوا بحضور الصلاة في المعبد وفاق العادة. فقلت له يا جناب الرئيس، إنّي وإن كنت امرءاً مسلماً محتفظاً بديني متمسكاً به دائماً ومحبّاً له جدّاً، غير أنّي مع هذا نشأت منذ صغري على حرية الضمير وإطلاق الفكر، ولست أذكر في كلّ عمري الّذي عشته أنّي خضعت لشيء حيث كان إلا بعد أن أتبيّن أنّه حقّ صحيح. هذا هو مبدئي ما
دام يوافق ديني. لذلك تراني لا أبالي أن أزور بيع النصارى وصوامعهم وأجتمع بقسسهم ورهبانهم، كما لا أخشى أيضاً أن أشاهد عبادتهم وصلاتهم، بل قد طالما دخلت المعابد والكنائس في بلاد أوروبا، عندما كانت تقام فيها الحفلات الكبيرة لتتويج القياصرة والملوك، وعند غير ذلك أيضاً. وقد زرت الفاتيكان في رومة ومواضع كثيرة من هذا القبيل، وأصحابي من النصارى وغير النصارى كثيرون جدّاً. وماذا عليّ لو أزور المعابد وأحضر الدعاء، وأنا معتقد ملء صدري أنّ ديني لا يخالفني على شيء من ذلك، بل إن
استكناه الأشياء والوقوف على حقائق الأمور وماهياتها ممّا يحثّ الدين الإسلامي عليه بلا نزاع. فلا تظنّ، إذاً يا جناب الرئيس، أنّي إذا لم أوافقك على ذلك الطلب أكون متعصّباً دينياً أو أنّي أخشى شيئاً آخر، معاذ الله. ولكن إذا أردت أن تفهم منّي علّة امتناعي من دخول المعبد وحضور الصلاة فيه، فأنا أقول لجنابك بما اعتدته من الصراحة أنّني اليوم في بلاد شرقيّة، ثمّ أنا أمير مسلم شرقي أيضاً، ولا يتّفق أن أكون كذلك وأن أجري على العوائد والتقاليد الغربية. وإنّه إذا صحّ أنّ الإنسان يصبغ نفسه في بعض الأحيان صبغة غير صبغته، ويجري على مبدئه وعادته، فذلك إنّما يكون عندما تحيط به ظروف مخصوصة، وتقتضيه إلى ذلك دواعٍ قوية لا يجد له منها مفرّاً دون أن يفعل. أمّا والإنسان له من الشيء مندوحة وسعة، وسواء عنده أن يكون ذلك الشيء وأن لا يكون، فإنّه بالطبع في حلّ من أن يختار لنفسه ما يلائم فطرته ويتّفق ومصلحته. فقال: إنّي أوافق دولتكم على فكرتكم هذه، وهي عندي سديدة صحيحة، لو أنّه كان هناك عبادة وصلاة حقيقة. أمّا وليس ثمّت إلا مجرّد مقالة عادية تتلى على مسمع من دولتكم في ذلك المعبد، فإنّي لا أرى في تفضّل دولتكم بإجابتي إلى ملتمسي ما لعلّه يؤخذ عليكم أمام ضميركم أو أمام المسلمين، ولا ما عساكم تنفرون منه وتكرهون حضوره. فقلت له يا جناب الرئيس إنّي قلت وما زلت أقول لجنابك: لم يكن من عادتي أن أتكلّف فعل ما لا أريده، وإن إقامة الصلاة على هيئتها الحقيقية لم يكن هو المانع لي من تلبية مطلبك، فإنّه سواء عندي أن تكون الصلاة حقيقية أو صورية، أو أن لا تكون صلاة أصلاً. وإنّما يمنعني من ذلك أوّلاً أنّه ليس لي فائدة من زيارة معبد قد زرت كثيراً مثله في أوروبا وغيرها، كما أنّه لا معنى لأن أحضر حفلة صلاة كثيراً ما شهدتها
ورأيتها، وثانياً ما أنبّهك إليه من أنّه لا معنى لأن أميراً مسلماً شرقياً في بلاد إسلامية شرقية، وفي ضيافة وحماية المسلمين الشرقيين، وهو
منهم بالنظر الّذي لا يستوي فيه كل ّالناس، ثمّ هو ينسلخ عن تقاليده وعوائده وربّما تساهل بعض الشيء في دينه. كلّ ذلك، هو يفعله لغير سبب إلا مجرد الخضوع للعادة في زيارة كلية. أمّا أنا فلست ممّن يقدّس العادة أو يخضع لحكمها، كائنة ما كانت. فلتكن هذه عادتكم في مدرستكم، أمّا أنا فمخيّر في أنّي لا أزور إلا ما أشاء، فانظر يا جناب الرئيس بعد ذلك ماذا أنت صانع. أمّا هو، فلمّا يئس ولم يجد بعد الجهد والاحتيال إلا إباءً شديداً، رجع عن فكرته مقتنعاً بما قلناه. ثمّ ذهب إلى المعبد، وترك معنا أربعة من التلاميذ المصريّين ليرشدونا إلى مكتبة المدرسة، ريثما يؤدّي رئيس الكليّة صلاته. فذهبنا ومعنا أولئك الطلبة إلى دار الكتب الخصيصة بتلك الكلية، فاطّلعنا عليها. وكان التلاميذ يرشدوننا إلى ما كانت تحويه تلك المكتبة النفيسة. ومنها ذهبنا إلى المتحف الّذي توجد فيه مجموعة كبيرة من حيوانات محنّطة مختلفة أنواعها فاطّلعنا عليها وقضينا منها مأربنا. ثمّ توجهنا إلى معمل الكيمياء والطبيعة، وإلى جملة معامل أخرى فزرناها، وكنّا في غاية السرور بما كنّا نجده من أدب التلاميذ ولطفهم. وبينما نحن نسير بين تلك المعامل، إذ حضر إلينا جناب الرئيس وراودنا إلى زيارة المدرسة، فمررنا من الطريق المؤدّي إليها أوّلاً بحديقة متّسقة فسيحة، وشاهدنا في خلال ذلك الطريق دوائر كثيرة وغرفاً للتلاميذ حتّى انتهينا إلى قاعة واسعة كانت هي الّتي أعدّت لاستقبالنا. وكان فيما تشتمل عليه تلك القاعة صورة سمو الجناب العالي الخديوي، مكبّرة محفوفة بإطار كبير جميل، وكراسي متعدّدة. وهناك كان ينتظرنا جناب قنصل أمريكا وعدد عديد من أساتذة الكلية ومعهم نساؤهم، فرحّبوا جميعاً بمقدمنا واستقبلونا بكلّ حفاوة واحترام. وبعد أن تبادلنا التحيّة واستقرّت بنا مجالسنا، قام جناب ناظر المدرسة وتلا على مسامع الموجودين خطاباً رشيق العبارة، استهلّه بالكلام على فضل مصر والمصريين، ثمّ امتدح الأسرة الخديوية بأعمالها الجليلة في تاريخها
الغابر والحاضر. وبعد ذلك رحّب بنا وأهّل، شاكراً لنا زيارتنا لمدرستهم. وما أوشك أن يفرغ من مقالته، حتّى قام أحد التلاميذ المصريّين، بالنيابة عن جميع إخوانه في تلك الكلية، وخطب أيضاً خطبة جميلة كانت لا تخرج عن
نفس الموضوع، وقد أعقبها بقصيدة ظريفة وهي:
في مثلِ ذا اليومِ العظيم
…
تهتزُّ بالفخرِ النفوس
وَلِمثلِ ذا الضيفِ الكريم
…
بِتجلّة تُحنى الرّؤوس
بِك يا محمّدُ قَد زَها
…
صَرحٌ بِهِ تُجنى العُلوم
بِلُقاك نِلنا المُشتهى
…
يا حبَّذا شرف القُدوم
يا فَرعَ عائلةٍ سَمت
…
في المجدِ بينَ العائِلات
وَبِعَهدها مصر نَمت
…
فَتجدّدت فيها الحَياة
ما الزّهرُ في فَصلِ الرّبيع
…
أَذكى وَأَعطر مِن شَذاك
ما لَونُه الزاهي البديع
…
أَبهى رواءً مِن سَناك
لِسموّ عبّاس الأمير
…
بِقلوبِنا أَسمى مَكان
نَدعو إِلى المَولى القدير
…
بِدوامِهِ طولَ الزّمان
نَحنُ الّذين عَلى الوَطن
…
وَقَفوا النّفوسَ الغالِية
وَلأجلهِ مِن كلّ فَن
…
نَجني الدّروسَ العالية
قَد كانَ في ماضي العُصور
…
نَبع التمدّن وَالفُنون
وَبِفَضلِ عبّاس الغَيور
…
اليوم يوشكُ أَن يَكون
وَطنٌ لَنا أبداً يَسود
…
بِقوى المعارِفِ لا القِراع
عنهُ إذا قُمنا نَذود
…
فَسلاحنا هذا اليَراع
يا مَن أَتانا زائراً
…
متفقّد منّا الشؤون
سَيظلّ كلّ ذاكراً
…
لِلفَضل ما انقضتِ السّنون
أَولَيتنا نعماً عَلى
…
نعمٍ بِتَشريفِ المقام
فَجَميعُنا نُهدي إلى
…
عَلياك شكراً والسّلام
هذا وقد قدّم لنا صورة هذه القصيدة مكتوبة بخطّ جميل، عليها إمضاؤه وإمضاء كاتبها فشكرناه. وكانت الموسيقى إذ ذاك تعزف بالسلام الخديوي. وحينئذ نهض حضرات المحتفلين عن آخرهم، يدعون لعزيز مصر بتأييد عرشه وحفظ ذاته الكريم. فما وسعني عند ذلك سوى أن قمت وابتدأت خطابي له بشكر من كان حاضراً من الأمريكان وغيرهم. وبعدئذ تكلّمت باِختصار على روابط المودّة الوثيقة بين الشعب الأمريكي والشعب المصري. وبيّنت ما كان للشعب الأوّل من الثبات والإخلاص في أعماله. وذكرت على الخصوص نفراً من الضبّاط الّذين كانوا قد اِنتظموا في سلك الجيش المصري. وأَبنت لهم صدق خدماتهم الّتي لا تزال حتّى اليوم تتردّد على ألسنة المصريّين، مشفوعة بالشكر العاطر والثناء الجميل. وما كدت أجلس حتّى دوّى المكان دوي النحل بعبارات الامتنان والاستحسان. وعلى أثر ذلك قدّمت لنا
صحاف الحلوى وفناجين الشاي، فتناولنا منها ما طاب لنا، وشكرناهم. ثمّ قمنا مودّعين من حضراتهم جميعاً بغاية الإجلال والتعظيم.
ومن هناك عدنا توّاً إلى الفندق. وبعد أن تناولنا طعام الغداء وركبنا سيّارة، ومعنا حضرة الأمثل سليم بك ثابت، حيث قصدنا إلى التنزّه في جهات الضواحي. وكان سيرنا في هذه المركبة السريعة على شاطئ البحر من شمال بيروت، بين المناظر الطبيعية الجميلة، حتّى وصلنا إلى بلدة تسمّى سوق مصباح، ومنها عدنا في نفس الطريق إلى الفندق، حين لم يبق من الوقت إلا ريثما يسعنا للعشاء والنوم. وعند الصباح توجّهنا إلى زيارة معمل الخواجه خوري السيوفي، وهو معمل كبير للمصنوعات الخشبية، وحركاته الصناعية تجري كلّها بواسطة الأدوات والآلات
الّتي تختلف على حسب اختلاف أدوار العمل وأجزائه. وهناك شاهدنا من العمّال مهارة فائقة ونشاطاً عجيباً، ولهم دقّة غريبة في الصناعة، خصوصاً صناعة الدواليب الّتي كانت لا تقلّ في نظرنا عن الدواليب الّتي تصنع في أهمّ فبريقات أوربا وأشهر معاملها. وبالجملة، فإن هذا المصنع كان حافلاً بالعدد المتينة والآلات المكينة الّتي تلزم لصناعة الخشب بجميع أنواعه، من المبدأ إلى المنتهى، على نحو ما يتصوّره زائر المصانع في البلاد الغربية. وقد طفنا في هذا المعمل على كلّ ما كان يدور فيه من العمل، وسررنا جدّاً من تلك النهضة العملية الشريفة الّتي تبشّر بحسن مستقبل الصناعة في بلاد الشام، وتعدّ خطوة واسعة في طريق الحضارة الشرقية. وإذ ذاك امتدحنا مؤسّس هذا العمل المفيد الّذي كان أكبر مشجّع لتلك الصناعة البديعة في بلاد الشرق، حتّى أصبحنا نرى في مثل بيروت مصنوعات مهمّة تضارع مصنوعات الغربيّين في أعظم مصانعهم. ولابدّ على طول الزمان أن تنشأ المعامل لمثل هذه الصناعة وغيرها في كثير من حواضر البلاد الشامية، وحينئذ يتوفّر للبلاد شيء كثير من ثروتها، يتبادل بين أهاليها ويصرف منها فيها، وذلك هو الأساس الأوّل الّذي عليه يبنى استقلال البلاد وترتكز سعادتها. وإنّه بقدر ما كان سرّني أن أرى تلك الحركة العظيمة والنهضة السامية من أبناء سورية، لقد ساءني أنّي لم أجد مثل ذلك