الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحاب الحيثيات الكبيرة، فيها وقد كنّا تهيأنا للسفر فما زال هؤلاء الكرام معنا حتّى ذهبنا إلى المحطّة.
في محطة دمشق
جلسنا هناك في غرفة الاستراحة بين الذين كانوا جاؤوا إلى المحطّة للاحتفال بوداعنا مسافة نتبادل الحديث، وفي تلك الأثناء جاء إلينا أحد موظفي الحكومة يحمل معه سلام دولة الوالي واعتذاره إلينا عن عدم حضوره بذاته بأنّه مريض لا يستطيع السير إلى المحطّة، فشكرنا له هذه العناية الجليلة والأريحية الجميلة وقلنا لذلك المندوب على مسمع من كلّ الحاضرين: إن شاء الله سيزول مرض الوالي ويحصل له تمام الشفاء والنشاط، عندما نفارق هذا البلد ونسافر. ولمّا آذن القطار بالرحيل قمت فودّعت جميع الّذين كانوا قد حضروا لتوديعنا من علية القوم، وحينئذ كنت أسمع منهم عبارات الأسف الشديد ممّا كان حصل من الوالي أولاً وآخراً، فأجبتهم بأنّي ما جئت إلى بلاد الشام لزيارة الحكومة ولا رجالها، وأنه عندي يستوي أن أرى عناية الحكومة واحتفالها وأن لا أرى شيئاً أصلاً، لأنّ الحكومة كلّ الناس يعرفون أنّها كالأعراض دائماً متغيّرة لا تثبت على حال واحدة، وأنّها تتقلّب على مبادئ مختلفة تلتئم مع الظروف الحاضرة مثل السفينة الّتي تجري في البحر على حسب ما تقتضيه الرياح وتشتهيه الأهوية وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وإنّما جئت بلاد الشام لا أقصد إلا زيارة أهلها واكتساب معرفتهم ومحبّتهم. وحسبي أنّي، والحمد لله، اجتمعت في هذه الرحلة
السعيدة بأمثال حضراتكم، فسأعود الآن من سفري هذا إلى بلادي بأكبر غنيمة وأربح صفقة. قلت لهم ذلك، وأنا لا أقدّر ما كان يختلج في صدري من السرور ولا أستطيع أن أعرب عن اِمتناني ممّا لاقيته من عناية أولئك القوم الّتي كانت ألمع برهان على شدّة تعلّقهم بنا وإخلاصهم لنا ولأسرتنا، كيف وإنهم سادة البلاد وأصحاب الشأن والكلمة فيها. على أنّي ختمت مقالتي لهم بأنّه لا ينبغي للإنسان أن يمتعض من الحاكم ويغتاظ عليه لمثل هذا الأمر قبل أن يتبيّن سببه، لعلّ له عذراً وأنت تلوم، وما يدرينا إذا كان الوالي
فعل ما فعله من تلقاء نفسه أو كان مجبوراً ومرغماً عليه من قبل أصحاب الحلّ والربط في البلاد. وأنا عند ذلك الأخير أقول: إذا كانت الحكومة تريد من وراء عملها هذا كسر شوكة الأسرة الخديوية والحطّ من كرامتها في عيون الناس، فليس في وسعي حذاء ما تبتغي الحكومة سوى الصبر والسكوت، وهو أحسن ما يكون جواباً في تلك الحال. وإلا فماذا ينفع القيل والقال وقد أصبحت البلاد كما تعرفون؟ لا أقول إنّها بلاد فوضى أو خالية من العظماء والعقلاء والحكّام والأمراء. ولكن كلّنا لا نجهل أنّ الاختلاف على المبادئ والغايات كثيراً ما يوجد الاشتباه والالتباس ويوجب تفرّق الكلمة ويذهب بوحدتها بين الناس، خصوصاً إذا هم اختلفت شعوبهم واضطربت مضاربهم وآراؤهم، ومن ثمّ لا تجدي الشكاية من امرئ يزعم أن أكبر المبرّرات لعمله اِعتماده على جانب غيره واِطمئنانه على قوّته ونفوذ أمره. ولذلك أنا أفضل من الآن الرجوع إلى مصر، دون أن ألوي في طريقي على مكان آخر، على أن أتمّ رحلتي في بقيّة البلاد. فإنّي أحسب أنّ هذا أحفظ لكرامتي وخير لي ممّا عساني أصادفه في حكومات الشام. وعندئذٍ قالوا جميعاً خفّض على نفسك، فالأمر أهون ممّا تظنّ، وسافر على بركة الله على ما شئت من البلاد، فإنّك سترى إن شاء الله من الآن ما يسرّك ويرضيك حيث أقمت وحيث ارتحلت، فليس في
طريقك من هنا إلى بعلبك وحمص وما بعدهما إلا قومنا وأبناءنا الّذين منهم المتصرّفون والحكّام. وإنك ستجد من عنايتهم واِحتفائهم العظيم بمقامك الكريم ما أنت جدير به فشكرت لهم هذا المعروف الكبير والإخلاص المتناهي مرّة بعد أخرى. ثمّ قام القطار، وهنا كان آخر رحلتي في مدينة دمشق وعاصمة الشام الكبيرة. وقد كان بودّي لو أن تطول إقامتي فيها لأتجوّل في جميع ضواحيها ونواحيها، وأطوف أيضاً على مدارسها النظامية ومعاهدها الدينية ومعاملها الصناعية ومكاتبها ومطابعها، وأوافي القراء في رحلتي بتفصيل ذلك كلّه، غير أن الوقت كان مع الأسف ضيّقاً لا يسمح لي بأكثر ممّا كان. على أني كنت ألاحظ في أثناء مروري في طرقات البلد من داخلها وخارجها أنّ أغلب السكّان من الطوائف الإسلامية، وأنّ عدد المسيحيين بالنسبة إليهم قليل جدّاً كعدد المسلمين بالنسبة إلى سكّان لبنان أو هو أقل من ذلك أيضاً.