الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلّ ذلك. فإن والداً يقسو على فلذة كبده إلى حدّ أن لا يفرض له وجوداً طول هذه المدّة، ليس مما ينبني على أسباب بسيطة أو يترتّب على حوادث هيّنة. ولهذا لم أجد لي جواباً سوى السكوت، وقد كنّا بحسن المصادفة مطلوبين لتناول الطعام.
السفر من حمص
وحين بزغت شمس اليّوم الثاني جهّز لأجلنا أربع مركبات، كان من ضمنها مركبة سعادة عبد الحميد باشا الدروبي الخاصّة وثلاث من مركبات الإيجار، فركبت العربة الأولى ومعي سعادة الباشا المذكور. وركب حضرة عزيزنا أحمد بك العريس ومعه محمود خيري أفندي عربة بعدنا، أمّا العربتان الباقيتان فقد ركبهما
اثنان من توابعنا، ومع كلّ واحد منهما بعض المتاع الخاص بنا. وقصدنا إلى طرابلس حيث إنّه لم يمد إلى الآن خط حديدي يربط بين حمص وبين طرابلس ولا يزال المسافرون من هذه إلى تلك يركبون إمّا العربات أو الدواب. وعلى كلّ حال فإنّ السفر في هذا الطريق سهل، بل هو في المعنى أشبه بالفسحة الرياضية لما يصادف المسافر فيه من الأغراس اليانعة والأحراش الجميلة. ثمّ إننا قبل أن نتحرّك ودّعنا سعادة متصرّف المدينة وحضرات الحكام وأكابر القوم الّذين كانوا قد حضروا إلى دار سعادة الباشا لهذا الغرض، وشكرناهم وذكرنا لهم معروفهم في غير مرّة بغير عبارة. وبعد ذلك ابتدأنا السير، وكان أمام عربتنا أربعة من عساكر الجندرمة، وأربعة آخرون مثلهم من خلفنا. وما برحنا نواصل السير في ذلك الطريق حتّى وصلنا إلى سرادق جميل كان قد أعدّه لأجلنا بالخصوص حضرة المفضال محمود بك أحد زعماء مشايخ الدنادشة. وكانت مسافة مسيرنا منذ خرجنا من حمص حتّى وصلنا إلى هذه النقطة لا تبلغ أكثر من نصف ساعة.
في الطريق
وهناك كان ينتظرنا حضرة البك المذكور مع لفيف من أسرته الكريمة، بينما كان
نحو مائة وخمسين فارساً مصطفّين على خيلهم أمام تلك الخيمة بغاية النظام. وقد كان بين ظهرانيهم فتاتان من بنات العرب مثقلتين بالحلي على لبوسهما العربي اللطيف، وفي إحدى يدي كلّ واحدة منهما سيف وفي الأخرى منديل، ثمّ هما كانتا تغنّيان بين هؤلاء الفرسان لأجل تشجيعهم وتهييج عاطفة الفروسية فيهم. وقد نزلنا من العربات ودخلنا ذلك الصيوان، وبعد أن أخذنا منه مجالسنا قدّمت لنا القهوة ثمّ الشراب. ولم نلبث بعد أن شربناهما إلا مسافة عشر دقائق، ثمّ قمنا فمررنا أمام أولئك الفرسان الّذين كان يركب أغلبهم أفراساً تتبعها أولادها المهارة. وإذ ذاك أخذ العرب الخيالة يتبارون في اللعب ويتغالبون على الخيل، وفي أيديهم بنادقهم
على نحو ما يرى في الملاعب والميادين، ممّا يسمّى في عرف العامّة بالبرجاس. وقد خفت حينئذ أن ينفلت رصاصهم على غير عمد فيصيب أحداً، لأنّ بنادقهم كانت من الطراز الحديث، وهي من النوع الّذي لابدّ لإطلاق عبوته الهوائية من وجود الظروف الرصاص فيها أوّلاً. ولذلك طلبت إليهم أن يكفّوا عن الضرب في ذلك الملعب. وفي تلك الأثناء كانت البنتان تدوران حول الخيالة من هنا وهناك، وتترنّمان بأناشيد الحبّ ونغمات الطعن والضرب. فكانتا تنبّهان بذلك الغناء المؤثّر عواطف الفوارس، وتحرّكان فيهم غريزة الحميّة والشجاعة حتّى أخذت الحماسة من نفوسهم مأخذاً عظيماً. وما زالوا كذلك حتّى ركبنا العربات وركب حضرة محمود بك فرساً وسار بجانب عربتنا، وتبعه جميع الخيّالة من خلفنا وأمامنا وعلى جانبينا أيضاً، وهم بين أن يعدوا سراعاً ويعدوا بطاء ويتنوّعوا في ألاعيبهم الحماسية، جرياً ووقوفاً ودفاعاً وهجوماً إلى غير ذلك ممّا لا يدرك وصفه إلا بالرؤية والمعاينة. وقد كنت حين ذاك أعجب بشجاعة أولئك القوم ومهارتهم فوق ما كنت أعجب، وأعجب أيضاً من أبناء الأفراس الصغار الّتي كان عمرها في الغالب لا يزيد عن أسبوعين، ومع ذلك كنت أشاهدها تتبع أمّهاتها في تلك المسافات البعيدة على هذا السير الحثيث، وتتحمّل مشقّة السفر والجري. وقد أخذتني بها من أجل ذلك رأفة شديدة، فطلبت من أولئك الراكضين أن يخفّفوا السير ويتئدوا لكيلا يشقّوا على تلك المهرات المساكين، وهي في ذلك السن الصغير. ثمّ ما فتئوا يركضون على طول المسير ويلعبون بأعظم مهارة وأكبر حذق. وكان فيهم فارس كبير السن يلبس ملابس دندشية قديمة يسمى