الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إهداء عالم
فرغنا من زيارة المسجد الأموي وعندما كنت مسرعاً في الخروج منه تقدّم نحوي شيخ يناولني كتاباً على غير معرفة، وقد حسبت أنّه من فقراء المساجد جاء يلتمس منّا صدقة، فأمرت له بجنيه وأخذت منه الكتاب، وأنا لا أزال مسرع السير حيث كان مقصدي زيارة قبر المرحوم
صلاح الدين الأيوبي
، قبل أن ندخل في وقت الظهر. ولكنّي عرفت أخيراً أنّ ذلك الشيخ الّذي أهدى إليّ كتابه هو شيخ الجامع
الأموي نفسه. وعندئذٍ أسفت كثيراً لأنّي لم أقابله بما كان يستحقّه من الاحترام لشخصه ويقتضيه من الشكر لهديّته، لا سيّما والكتاب مخطوط قديم التاريخ نبيل الموضوع، إذ فيه ذكر فضائل مصر وعجائبها من القرآن والحديث وآثار السلف، وفيه أيضاً مسائل كثيرة في جغرافيتها الاقتصادية. وإنّما عرفت وظيفة هذا الأستاذ حينما تصفّحت الكتاب فرأيت عنوانه مكتوباً بخطّ يده على أوّل صحيفة منه، تحت ما كتبه من عبارات الإهداء الّتي تدلّ على أدب ذلك الرجل وتواضعه. وأنه وإن فاتنا أن نشكر له ذلك في وجهه فإنّه لم يفتنا أن نسطّره في رحلتنا، وذلك أبلغ في معنى الشكر والثناء.
صلاح الدين الأيوبي
من هو صلاح الدين الّذي قصدنا إلى زيارة قبره، إنّي أعتقد قطعاً أنّه ليس على وجه الأرض أحد إلا وهو يفهم قدر هذا البطل الكبير والفاتح الشهير كما يفهم وجود نفسه. كيف لا وهو الّذي طبق صيته الخافقين، وبلغت شهرته الّتي لم يسمح في غابر التاريخ ولا حاضره بمثلها لأحد من الملوك والسلاطين ولا غيرهم من العالمين. ولولا أنّي لا أحكم على الغيب ولا أتنبأ بالمستقبل لقطعت بأن الزمان لم يعد يسمح بنظيره.
حَلَفَ الزّمانُ ليأتينّ بِمثلهِ
…
إنّ الزّمانَ بِمثلهِ لَبخيلُ
وليس لنا أن نفيض في وصفه ولا أن نطيل بذكر تاريخه بعد أن امتلأت بطون التواريخ بقصصه الطويلة وشرح أعماله الجليلة الّتي شهدت بها الناس جميعاً حتّى أعداؤه ومبغضوه.
ومَليحة شَهدت لَها ضرّاتُها
…
وَالفضلُ ما شَهدت بِه الأعداءُ
ولكن لا بأس أن نورد في رحلتنا نبذة من تاريخه العطري تبركاً بذكره الفخيم وتيمّناً باِسمه الكريم.
هو السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيّوب. ولد رحمه الله في تكريت سنة 532 من الهجرة، وقدم به أبوه إلى دمشق وهو رضيع فنشأ في حجره، وكان أبوه إذ ذاك مستعملاً على بعلبك. ولمّا ترعرع صلاح الدين، أرسله المرحوم السلطان نور الدين الشهيد مع أمراء جيشه للحرب في مصر فأبلى فيها بلاءً حسناً وأظهر من الشجاعة والبراعة ما أكبره وسما في أعين الناس، ثمّ عاد إلى دمشق وأقام إلى أن أغار الصليبيون على مصر وكادوا يستولون عليها وكانت وقتئذٍ بيد الفاطميين فطلب نور الدين إليه أن يذهب إلى مصر مع عمّه شيركوه فأجاب عن اِرتياح ونكل بالفاطميين وقطع خطبتهم وصار من هذا الحين نائباً في مصر إلى أن مات السلطان نور الدين فاِستقل هو بحكمها ومن ذلك العهد أخذ يفتح البلاد فتوحاته الكثيرة حتّى مات في مدينة دمشق في يوم 27 صفر سنة 588 وكان عمره لا يتجاوز 57 سنة وكان رحمه الله غاية في الجود والكرم حتّى قيل أنه لم يترك بعد وفاته سوى 47 درهماً وهي ثروة ربّما ترك السائل لأولاده أضعاف أضعافها ولكنّه البذل والسخاء والحنان والشفقة على المساكين والفقراء تستنفد المال ولو كان مثل الجبال.
دخلنا قبّة هذا الملك وهي بجانب الجامع الأموي من جهة الشمال ورأينا حال دخولنا حديقة لا تزيد عن خمسة أمتار طولاً في مثلها عرضاً، وهنا أخذتني هزّة عندما رأيت صلاح الدين صاحب الحروب الصليبية والّذي أخضع الجبابرة وأسر القياصرة والّذي كان يضيق بهمّته الشمّاء فضاء ما بين الأرض والسماء ينتهي أمره بسكنى هذا المكان الضيق وتكون حديقته أمتاراً معدودة يوجد في مقابر البسطاء من