الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 -
فصل فِيمَا احْتج بِهِ لِلْقَائِلين بِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب
وَذَلِكَ وُجُوه
أَحدهَا
مَا تقدم من الْآيَات الَّتِي وَقع التَّرْتِيب على مُقْتَضى مَا فِيهَا من تَقْدِيم وَتَأْخِير كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَمَا ذكر مَعَه
وَجَوَابه مَا تقدم أَن التَّرْتِيب لَيْسَ مستفادا من هَذِه الْآيَات بل بِدَلِيل من خَارج مثل فعله صلى الله عليه وسلم الرُّكُوع قبل السُّجُود وَقَوله (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) فالترتيب وَقع مَعَ اللَّفْظ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيهِ
وَثَانِيها
قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الْآيَة وَثَبت فِي حَدِيث جَابر رضي الله عنه الَّذِي سَاقه فِي صفه الْحَج بقوله إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لما خرج إِلَى السَّعْي قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَقَالَ (نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) هَكَذَا فِي صَحِيح مُسلم بِصفة الْخَبَر وَهُوَ عِنْد النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَة بِصِيغَة الْأَمر (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) وَسَنَد ذَلِك جيد صَحِيح يحْتَج بِهِ وَجَوَابه أَن الْوَاو لَو اقْتَضَت التَّرْتِيب لما احْتِيجَ إِلَى ذَلِك ولكان التَّعْلِيل وَقع بمدلول الْوَاو لابتداء الله تَعَالَى بالصفا
وَأما مَا يُوجد فِي كتب أَئِمَّة الْأُصُول أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمَ نبدأ فَقَالَ ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجد هَكَذَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث وَالْجَوَاب على تَقْدِير صِحَة هَذِه الرِّوَايَة ظَاهر فَإِنَّهُ لَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لفهم الصَّحَابَة مدلولها وَمَا احتاجوا إِلَى سُؤال
وَثَالِثهَا
مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم أَن خَطِيبًا قَامَ بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فقد غوى) وَالدّلَالَة من هَذَا ظَاهِرَة فَإِنَّهَا لَو كَانَت لمُطلق الْجمع لم يكن بَين الْكَلَامَيْنِ فرق
وَأجَاب عَنهُ جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَغَيرهم بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ لإتيانه بالضمير الْمُقْتَضِي للتسوية فَأمره بالْعَطْف وإفراد اسْم الله تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهُ بِتَقْدِيم اسْمه بِدَلِيل أَن مَعْصِيّة الله مَعْصِيّة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ الْعَكْس فَلَا تَرْتِيب بَينهمَا بل كل مِنْهُمَا مستلزمة لِلْأُخْرَى
وَهَذَا الْجَواب يرد عَلَيْهِم شَيْئَانِ
أَحدهمَا قَوْلهم إِن معصيتهما لَا تَرْتِيب فِيهَا فَإِن كَانَ المُرَاد التَّرْتِيب الزماني فَمُسلم وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم التَّرْتِيب مُطلقًا فَإِن التَّرْتِيب تَارَة يكون بِالزَّمَانِ وَتارَة يكون بالرتبة
وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ عدم التَّرْتِيب مُطلقًا فَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح لِأَن فِيهَا التَّرْتِيب بالرتبة إِذْ لَا شكّ أَن مَعْصِيّة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مرتبَة على مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَلْزم الْأُخْرَى
الثَّانِي مَا روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ (علمنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خطْبَة الْحَاجة) فَذكرهَا وفيهَا (من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه وَلَا يضر الله شَيْئا) وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أنس رضي الله عنه أَيْضا (وَمن يعصهما فقد غوى) من قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم
وَقيل فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث وُجُوه
أَحدهَا أَن هَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يُعْطي مقَام الربوبية حَقه وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ تسويته لَهُ بِمَا عداهُ أصلا بِخِلَاف غَيره من الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ مَظَنَّة التَّسْوِيَة عِنْد الْإِطْلَاق وَالْجمع فِي الضمائر بَين مَا يعود إِلَى اسْم الله تَعَالَى وَغَيره فَلهَذَا جَاءَ بالإتيان بِالْجمعِ بَين الاسمين بضمير وَاحِد من كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثين الْمشَار إِلَيْهِمَا وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم أَيْضا (من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا) وَغير ذَلِك
وَأمر صلى الله عليه وسلم ذَلِك الْخَطِيب بِالْإِفْرَادِ لِئَلَّا يُوهم كَلَامه التَّسْوِيَة وَهُوَ مثل الحَدِيث الْمُتَقَدّم من قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وشئت قُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شِئْت)
وَهَذَا يرد عَلَيْهِ أَن حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم فِيهِ تَعْلِيم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمته تِلْكَ الْخطْبَة ليقولوها عِنْد الْحَاجة وَفِيه (وَمن يعصهما) فَيدل على عدم الخصوصية بِهِ إِلَّا أَن يُقَال يُؤْخَذ من مَجْمُوع الْحَدِيثين أَن يَقُولُوا فِي خطْبَة الْحَاجة (وَمن يعْص الله وَرَسُوله) كم علم النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك الْخَطِيب وَيكون حَدِيث ابْن مَسْعُود فِيهِ تَعْلِيم أصل خطْبَة الْحَاجة لَا بِجَمِيعِ ألفاظها وَفِيه نظر
وَثَانِيها أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أنكر على ذَلِك الْخَطِيب كَانَ هُنَاكَ من يتَوَهَّم مِنْهُ التَّسْوِيَة بَين المقامين عِنْد الْجمع بَين الاسمين بضمير وَاحِد فَمنع من ذَلِك وَحَيْثُ لم يكن هُنَاكَ من يلبس عَلَيْهِ أَتَى بضمير الْجمع وَهَذَا لَعَلَّه أقرب من الَّذِي قبله
وَثَالِثهَا أَن ذَلِك الْمَنْع لم يكن على وَجه التحتم بِدَلِيل الْأَحَادِيث الآخر بل على وَجه النّدب والإرشاد إِلَى الْأَوْلَوِيَّة فِي إِفْرَاد اسْم الله تَعَالَى بِالذكر من التَّعْظِيم اللَّائِق بجلاله
وَهَذَا يرجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَا قَالَه أَئِمَّة الْأُصُول أَولا لَكِن بِزِيَادَة أَن ذَلِك لَيْسَ حتما وَحِينَئِذٍ فَلَا تكون الْوَاو مقتضية للتَّرْتِيب
وَرَابِعهَا أَن ذَلِك الْإِنْكَار كَانَ مُخْتَصًّا بذلك الْخَطِيب وَكَأن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فهم عَنهُ أَنه لم يجمع بَينهمَا فِي الضَّمِير إِلَّا لتسويته بَينهمَا فِي الْمقَام فَقَالَ لَهُ (بئس الْخَطِيب أَنْت) فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن حَاله كَذَلِك
وَلَعَلَّ هَذَا الْجَواب هُوَ الْأَقْوَى لِأَن هَذِه الْقِصَّة وَاقعَة عين وَمَا ذَكرْنَاهُ مُحْتَمل ويؤثر هَذَا الِاحْتِمَال فِيهَا أَن يحمل على الْعُمُوم فِي حق كل أحد
فَإِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي علم فِيهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمته كَيْفيَّة خطْبَة الْحَاجة وفيهَا {وَمن يعصهما} بضمير التَّثْنِيَة قوي ذَلِك الِاحْتِمَال
وَهَذَا مثل مَا قيل فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تفضلُونِي على مُوسَى) مَعَ قَوْله (أَنا سيد ولد آدم) فَقيل فِي الْجمع بَينهمَا وُجُوه مِنْهَا أَن الَّذِي مَنعه من التَّفْضِيل فهم مِنْهُ غضا من منصب مُوسَى عليه السلام عِنْد التَّفْضِيل عَلَيْهِ فَمَنعه مِنْهُ فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن هُوَ مثل حَاله وَالْعلم عِنْد الله
وَرَابِعهَا
مَا رُوِيَ أَن عمر رضي الله عنه أنكر على سحيم عبد بني الحسحاس قَوْله
(كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا)
وَقَالَ لَو قدمت الْإِسْلَام على الشيب
وَأَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَنْكَرُوا على عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما أمره بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} فلولا أَنهم فَهموا من الْآيَة التَّرْتِيب لما أَنْكَرُوا ذَلِك عَلَيْهِ وَفهم الصَّحَابَة رضي الله عنهم حجَّة فِي مثل ذَلِك لأَنهم أهل اللِّسَان وَهَذَا الْأَثر ذكره جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من كتب الحَدِيث بعد كَثْرَة الْبَحْث عَنهُ
وَكَذَلِكَ أَيْضا لم أجد لإنكار عمر رضي الله عنه على سحيم سندا وَلكنه مَشْهُور فِي كثير من الْكتب وَقد أُجِيب عَنهُ بِأَن ذَلِك الْإِنْكَار على وَجه الْأَدَب فِي تَقْدِيم الأهم فِي الذّكر وَإِن كَانَت الْوَاو لَا تَقْتَضِي ترتيبا فَإِن التَّرْتِيب لَهُ سَبَب إِرَادَة لفظية كالفاء وَثمّ وطبيعة زمانية فالنطق الْوَاقِع فِي الزَّمَان الأول مُتَقَدم بالطبع على النُّطْق الْوَاقِع فِي الزَّمَان الَّذِي بعده وَهُوَ السِّرّ فِيمَا حكى سِيبَوَيْهٍ عَن الْعَرَب أَنهم يبدأون بِمَا هُوَ الأهم عِنْدهم وَكَانَت الْعِنَايَة بِهِ أَشد فَكل مَا قدم بِالزَّمَانِ دلّ على أَن الْمُتَكَلّم قصد الاهتمام بِهِ أَكثر مِمَّا بعده وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْضِيلًا فإنكار عمر رضي الله عنه لهَذَا الْمَعْنى
وَأما إِنْكَار الصَّحَابَة رضي الله عنهم على ابْن عَبَّاس فَأجَاب عَنهُ فَخر
الدّين بِأَن فهمهم معَارض لفهم ابْن عَبَّاس وَفِيه نظر لِأَن الْكَثْرَة مقتضية للترجيح
وَأجَاب عَنهُ الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ لم يكن مُسْتَند إنكارهم أمره بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج كَون الْآيَة مقتضية للتَّرْتِيب حَتَّى تتأخر الْعمرَة على الْحَج بل لِأَنَّهَا مقتضية للْجمع الْمُطلق وَأمره بالترتيب مُخَالف لمقْتَضى الْآيَة
وَأجَاب غَيره بِمَا تقدم من الاهتمام بِذكر الأول فَإِنَّهُم فَهموا من الْآيَة الاهتمام بِأَمْر الْحَج فتقديم الْعمرَة عَلَيْهِ فِي الْفِعْل يُنَاقض ذَلِك الاهتمام وَإِن لم تكن الْوَاو مقتضية للتَّرْتِيب
وخامسها
أَن التَّرْتِيب على سَبِيل التعقيب وضعُوا لَهُ الْفَاء وعَلى سَبِيل التَّرَاخِي وضعُوا لَهُ ثمَّ وَمُطلق التَّرْتِيب وَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الخاصتين معنى مَعْقُول أَيْضا فَلَا بُد لَهُ من لفظ يدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لِأَن الْمُقْتَضِي لذَلِك قَائِم وَالْمَانِع
مُنْتَفٍ وَيلْزم من ذَلِك أَن تكون الْوَاو هِيَ الْمَوْضُوعَة لَهُ إِذْ لَا غَيرهَا مَوضِع لَهُ بالِاتِّفَاقِ
وَجَوَابه الْمُعَارضَة بِمثلِهِ كَمَا تقدم فِي الْجمع الْمُطلق وَالْحَاجة إِلَيْهِ أَعم فَيكون أَكثر فَائِدَة فَكَانَ أولى بِالْوَضْعِ
وَاعْترض على هَذَا بِأَنا إِذا جعلنَا الْوَاو حَقِيقَة فِي التَّرْتِيب كَانَ الْجمع الْمُطلق جُزْءا من الْمُسَمّى ولازما لَهُ فَيجوز جعله مجَازًا فِيهِ لما بَينهمَا من الْمُلَازمَة بِخِلَاف الْعَكْس فَإنَّا إِذا قُلْنَا إِنَّهَا حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق لَازِما لَهُ فَلَا يتجوز بهَا فِيهِ لعدم الْمُلَازمَة
وَبِعِبَارَة أُخْرَى أَنه تعَارض احْتِمَالَانِ أَحدهمَا كَون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْأَخَص مجَازًا فِي الْأَعَمّ وَالْآخر كَونه حَقِيقَة فِي الْأَعَمّ مجَازًا فِي الْأَخَص وَالْأول أولى لِأَن الْأَخَص يسْتَلْزم الْأَعَمّ وَلَا ينعكس
وَجَوَابه هَذَا يمْتَنع أَنه لَا يَصح التَّجَوُّز بهَا فِي التَّرْتِيب إِذا كَانَت حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق بل هَذَا هُوَ الْأَقْوَى لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ الْأَعَمّ وَإِرَادَة الْأَخَص كثير سَائِغ وَلَيْسَت وُجُوه العلاقة الْمُقْتَضِيَة للتجوز منحصرة فِي التلازم حَتَّى يلْزم مَا ذَكرُوهُ بل لَهَا وُجُوه كَثِيرَة غير ذَلِك
وَالله تَعَالَى أعلم