الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 -
فصل إِضْمَار حرف الْعَطف
اخْتلفُوا فِي إِضْمَار حرف الْعَطف فالأكثرون على أَنه لَا يضمر لِأَن الْحُرُوف أَدِلَّة على معَان فِي نفس الْمُتَكَلّم فَلَو أضمرت لم يكن شَيْء يدل عَلَيْهَا فَلَا يهتدى إِلَى مُرَاد الْمُتَكَلّم وكما أَن حُرُوف النَّفْي والتوكيد وَالتَّمَنِّي والترجي وَنَحْوهَا لَا تضمر فَكَذَلِك حُرُوف الْعَطف وَإِمَّا إِضْمَار حُرُوف الِاسْتِفْهَام فِي بعض الْمَوَاضِع فَلِأَن للمستفهم هَيْئَة تخَالف هَيْئَة الْمخبر فَفِي الْكَلَام مَا يدل عَلَيْهِ
وَذهب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَجَمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين كَابْن مَالك وَابْن عُصْفُور وَنَحْوهمَا إِلَى جَوَاز ذَلِك وَقَيده الْمُحَقِّقُونَ عِنْد فهم الْمَعْنى وَاسْتدلَّ
الْفَارِسِي لَهُ بقوله تَعَالَى {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا} الْآيَة قَالَ تَقْدِيره وَقلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ كَانَ جَوَاب {إِذا} قَوْله {توَلّوا}
وَذكر أَبُو الْقَاسِم اللورقي أَن الإِمَام الشَّافِعِي حمل على هَذَا مَا اخْتَارَهُ من التَّشَهُّد (التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله) بِغَيْر وَاو على مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه
وروى أَبُو زيد أَن الْعَرَب تَقول أكلت لَحْمًا لَبَنًا تَمرا وَجعل ابْن مَالك من هَذَا قَوْله تَعَالَى {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} بعد قَوْله {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} وَمِنْه أَيْضا قَول الشَّاعِر
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا
…
يزرع الود فِي فؤاد السقيم)
وَقَول الآخر
(مَا لي لَا أبْكِي على علاتي
…
صبائحي غبائقي قيلاتي)
وَقَول الآخر
(ضربا طلخفا فِي الطلى شخيتا)
يُرِيد ضربا طلخفا وشخيتا والطلخف الشَّديد والشخيت دونه فِي الشدَّة والطلى جمع طلية وَهِي صفحات الْأَعْنَاق
وأنشدوا أَيْضا قَول الآخر
(فَأَصْبَحْنَ ينشرن آذانهن فِي
…
الطرح طرفا شمالا يَمِينا)
(وأمت بِنَا مشرقا مغربا
…
غبارا وحبسا صحارى حزونا)
تَقْدِيره شمالا ويمينا ومشرقا ومغربا
وَمنع السُّهيْلي ذَلِك فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة وَجعل جَوَاب {إِذا} فِي قَوْله تَعَالَى {قلت لَا أجد} وَقَوله {توَلّوا وأعينهم} إِخْبَارًا عَنْهُم وثناء عَلَيْهِم لِأَنَّهَا نزلت فِي قوم مخصوصين عرفُوا بأعيانهم قَالَ وَالْكَلَام غير مُحْتَاج إِلَى الْعَطف بِالْوَاو لِأَنَّهُ مُرْتَبِط بِمَا قبله كالتفسير لَهُ
قلت وَكَذَلِكَ الْمَنْع أَيْضا مُتَوَجّه فِي قَوْله {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} إِذْ لَا ضَرُورَة إِلَى الْعَطف وَيجوز أَن يكون ذَلِك جملَة ابتدائية مستأنفة وَأما الأبيات وَإِن تَضَمَّنت إِضْمَار حرف الْعَطف فَفِيهَا كلامان أَحدهمَا أَنَّهَا قَليلَة جدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْكَلَام فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك جَوَازًا عَاما وَالثَّانِي أَنَّهَا وَإِن اقْتَضَت الْجَوَاز فَيَنْبَغِي أَن يقْتَصر بِهِ على مَا كَانَ مثلهَا حَيْثُ يكون المعطوفان متجاور غير متراخ بعضهما عَن بعض كَمَا روى أَبُو زيد من قَوْلهم أكلت لَحْمًا لَبَنًا تَمرا ليدل ذَلِك دلَالَة ظَاهِرَة على تَقْدِير العاطف بِخِلَاف مَا إِذا تخَلّل فصل فَإِنَّهُ لَا يبْقى فِي قُوَّة الْكَلَام دلَالَة على تَقْدِيره
وَقد ذكر السُّهيْلي أَن الْبَيْت الْمُتَقَدّم
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت)
لم يرد الشَّاعِر فِيهِ الْعَطف إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لانحصر إِثْبَات الود فِي هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ من غير مواظبة وَلَا اسْتِمْرَار عَلَيْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يَجْعَل أول الْكَلَام تَرْجَمَة على سَائِر الْبَاب يُرِيد الِاسْتِمْرَار على هَذَا الْكَلَام والمواظبة عَلَيْهِ وعَلى مثله هُوَ الجالب للود وَالله أعلم