الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 -
فصل الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للتقديم والاهتمام
تقدم كَلَام سِيبَوَيْهٍ أَنهم يقدمُونَ فِي كَلَامهم مَا هم بِهِ أهم وببيانه أعنى وَإِن كَانَا جَمِيعًا يهمانهم ويعنيانهم
وَهَذَا ذكره بعد بَيَانه أَن الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب قَالَ فَتَقول صمت شعْبَان ورمضان وَإِن شِئْت صمت رَمَضَان وَشَعْبَان بخلال الْفَاء وَثمّ
وَقَالَ عقيبة إِلَّا أَنهم يقدمُونَ فِي كَلَامهم إِلَى أَخّرهُ
وَهَذَا يَسْتَدْعِي بَيَان الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للتقديم والاهتمام ليترتب عَلَيْهَا مُنَاسبَة الْمَوَاضِع المعطوفة فِي مَوَاضِع من الْكتاب وَالسّنة قدم بَعْضهَا على بعض لحكمة تَقْتَضِي التَّقْدِيم فِي ذَلِك الْمقَام من حَيْثُ الْمَعْنى أما من حَيْثُ اللَّفْظ فقد يُرَاعى سَبَب ذَلِك فَيقدم بعض الْأَلْفَاظ على بعض بِحَسب الخفة والثقل كَقَوْلِهِم ربيعَة وَمُضر وَكَانَ تَقْدِيم مُضر أولى لشرفها بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولاتساع قبائلها وَكَثْرَة فضائلها وَلَكِن قدمت ربيعَة لِكَثْرَة الحركات وتواليها فِي لفظ مُضر فَإِذا أخرت وقف عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ فتقل حركاتها وَلَكِن اعْتِبَار هَذَا قَلِيل جدا
وَالْأَكْثَر الْغَالِب إِنَّمَا هُوَ اعْتِبَار الْمَعْنى وَذَلِكَ بِأحد خَمْسَة أَشْيَاء وَهِي
الزَّمَان والطبع والرتبة وَالسَّبَب وَالْفضل فَإِذا سبق معنى من هَذِه الْمعَانِي إِلَى الْخلد والفكر سبق اللَّفْظ الدَّال على ذَلِك الْمَعْنى وَكَانَ ترَتّب الْكَلَام بِحَسب ذَلِك
وَهَذَا كُله على وَجه الْأَوْلَوِيَّة وَبَيَان الْمُنَاسبَة لَا على وَجه اللُّزُوم وَأَنه لَا يجوز غَيره بل وَقع خلاف ذَلِك مَعَ عدم الْمُنَاسبَة وَقد يكون فِي اللَّفْظ مَعْنيانِ من هَذِه الْخَمْسَة فَيقدم بِسَبَب أَحدهمَا فِي مَوضِع وَيُؤَخر بِسَبَب الآخر فِي مَوضِع آخر لتقدم مَا يكون أهم مِنْهُ فِي ذَلِك الْموضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْمَعْنى
فمثال التَّقْدِيم بِالزَّمَانِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى فأمليت للْكَافِرِينَ} فَإِن تَرْتِيب هَذِه السَّبْعَة وَقع بِحَسب الزَّمَان وَكَذَلِكَ أَكثر مَا ورد فِي الْقُرْآن من سِيَاق هَذِه الْقَصَص مبسوطة كَمَا فِي الْأَعْرَاف وَهود وَالشعرَاء وَغَيرهَا وَكَذَلِكَ حَيْثُ يذكر عَاد وَثَمُود غَالِبا
وَقد جَاءَ فِي مَوَاضِع يسيرَة على خلاف ذَلِك حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُود تعدادهم مَعَ قطع النّظر عَن التَّقْدِيم بِحَسب الزَّمَان
وَمِنْه أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَجعل الظُّلُمَات والنور} فَإِن الظلمَة سَابِقَة على النُّور بِالزَّمَانِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث (إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة ثمَّ ألْقى عَلَيْهِ من نوره) وَقَالَ تَعَالَى {فِي ظلمات ثَلَاث} يَعْنِي ظلمَة الرَّحِم وظلمة الْبَطن وظلمة المشيمة وَكَذَلِكَ تقدم الظلمَة المعقولة وَهِي الْجَهْل
مَعْلُوم بضرورة الْعقل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة}
وَمِثَال التَّقْدِيم بالطبع قَوْله تَعَالَى {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يتَقَدَّم من الْأَعْدَاد بَعْضهَا على بعض إِنَّمَا يتَقَدَّم بالطبع لِأَن كل رُتْبَة مِنْهُ إِنَّمَا تتركب مِمَّا قبلهَا كتقديم الْجِسْم على الْحَيَوَان وَالْحَيَوَان على الْإِنْسَان
وَمِنْه أَيْضا تَقْدِيم الْعَزِيز على الْحَكِيم وَرُبمَا كَانَ من تَقْدِيم السَّبَب على الْمُسَبّب وَقد رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا لَا يحفظ الْقُرْآن سمع قَارِئًا يقرآ / إِن الله حَكِيم عَزِيز / فَقَالَ مَا هَكَذَا أنزلت فَقَرَأَ ذَلِك {عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ هَذَا صَحِيح عز فَلَمَّا عز حكم
وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَالْكَلَام كثير كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} لِأَن التَّوْبَة سَبَب الطَّهَارَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كل أفاك أثيم} و {كل مُعْتَد أثيم} لِأَن الأول سَبَب الْإِثْم وَكَذَلِكَ الاعتداء
وَأما التَّقْدِيم بالرتبة فكقوله تَعَالَى {هماز مشاء بنميم} لِأَن الْمَشْي مُرَتّب على الْقعُود فِي الْمَكَان والهماز العياب وَذَلِكَ لَا يفْتَقر إِلَى حَرَكَة وانتقال من مَوْضِعه بِخِلَاف النميمة
وَكَذَلِكَ قَوْله {مناع للخير مُعْتَد} لِأَن المناع يمْنَع خير نَفسه والمعتدي يعتدي على غَيره وَنَفسه فِي الرُّتْبَة قبل غَيره
وَكَذَلِكَ قَوْله {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} لِأَن الْغَالِب أَن من يَأْتِي رَاجِلا يكون من مَكَان قريب والراكب يَأْتِي من مَكَان بعيد على أَنه قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ وددت أَنِّي حججْت رَاجِلا لِأَن الله تَعَالَى قدم الرجالة على الركْبَان فِي الْقُرْآن فَجعله ابْن عَبَّاس رضي الله عنه من بَاب تَقْدِيم الْفَاضِل على الْمَفْضُول
وَمَا قدم أَيْضا اعْتِبَارا بِالسَّبَبِ فِي تَقْدِيمه على الْمُسَبّب قَوْله تَعَالَى {حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين}
وَمِثَال التَّقْدِيم بِالْفَضْلِ والشرف قَوْله تَعَالَى {من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} وَمِنْه تَقْدِيم السّمع على الْبَصَر وَتَقْدِيم سميع على بَصِير
وَجعل السُّهيْلي رحمه الله من ذَلِك تَقْدِيم الْجِنّ على الْإِنْس فِي غَالب الْمَوَاضِع قَالَ لِأَن الْجِنّ يَشْمَل الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن على الْأَبْصَار قَالَ تَعَالَى {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} وَالْمرَاد بهم الْمَلَائِكَة
وَقَالَ الْأَعْشَى
(وسخر من جن الملائك سَبْعَة
…
قيَاما لَدَيْهِ يعْملُونَ بِلَا أجر)
فَأَما قَوْله تَعَالَى {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا} فَإِن لفظ الْجِنّ فِي هَذِه الْآيَات لَا يتَنَاوَل الْمَلَائِكَة لبراءتهم عَن الْعُيُوب وَأَنَّهُمْ لَا يتَوَهَّم عَلَيْهِم الْكَذِب وَلَا سَائِر الذُّنُوب فَلَمَّا لم يتناولهم عُمُوم لفظ الْجِنّ لهَذِهِ الْقَرِينَة بَدَأَ بِلَفْظ الْأنس لشرفهم وفضلهم
قلت وَهَذَا يرد عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي} الْآيَة فَإِن الْمَلَائِكَة لَا يدْخلُونَ فِي لفظ الْجِنّ فِي هَذِه الْآيَة قطعا وَقد قدمهم فِي اللَّفْظ فَالَّذِي يظْهر أَن تَقْدِيم الْجِنّ
على الْإِنْس من التَّقَدُّم بِالزَّمَانِ لأَنهم خلقُوا قبل بني آدم وَحَيْثُ قدم الْإِنْس فِي تِلْكَ الْآيَات يكون تَقْدِيمًا بالشرف والكمال وَهَذَا كَمَا فِي تَقْدِيم السَّمَاء على الأَرْض غَالِبا فَإِنَّهُ بِالْفَضْلِ والشرف وقدمت الأَرْض عَلَيْهَا فِي مثل قَوْله {وَمَا يعزب عَن رَبك من مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} بالرتبة لِأَنَّهَا مسوقة لإحصاء أَعمال المخاطبين لما تقدم من قَوْله {وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا} فَنَاسَبَ ذَلِك هُنَا تَقْدِيم الأَرْض الَّتِي هم أَهلهَا ومستقرون فِيهَا وَهِي أقرب إِلَيْهِم من السَّمَاء
وَهَكَذَا أَيْضا تَقْدِيم السَّمِيع على الْعَلِيم فِي قَوْله {سميع عليم} فِي مَوَاضِع فَإِنَّهُ خبر يتَضَمَّن التخويف والتهديد فَبَدَأَ بالسميع لتَعَلُّقه بِمَا قرب كالأصوات وهمس الحركات فَإِن من يسمع حسك وخفي صَوْتك أقرب إِلَيْك فِي الْعَادة مِمَّن يُقَال لَك إِنَّه يعلم وَإِن كَانَ علم الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُتَعَلقا بِمَا ظهر وبطن وَقرب وَبعد وَلَكِن ذكر السَّمِيع أوقع فِي بَاب التخويف من الْعَلِيم فَكَأَنَّهُ مُتَقَدم بالرتبة
وَأما تَقْدِيم الغفور على الرَّحِيم فِي الْغَالِب فَهُوَ بالطبع لِأَن الْمَغْفِرَة سَلامَة وَالرَّحْمَة غنيمَة والسلامة مَطْلُوبَة قبل الْغَنِيمَة وَجَاء فِي سُورَة سبأ تَقْدِيم الرَّحِيم على الغفور وَذَلِكَ تَقْدِيم إِمَّا بِالْفَضْلِ والكمال وَإِمَّا بالطبع أَيْضا لِأَن الْآيَة منتظمة ذكر أَصْنَاف الْخلق من الْمُكَلّفين وَغَيرهم من الْحَيَوَان فالرحمة تشملهم وَالْمَغْفِرَة تخص بعض الْمُكَلّفين والعموم مُتَقَدم بالطبع على
الْخُصُوص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاكِهَة ونخل ورمان} و {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} وَقَوله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} التَّقْدِيم فِيهِ بِالزَّمَانِ وبالطبع لِأَنَّهُ انْتِقَال من علو إِلَى خفض والعلو بالطبع من حق الْقَائِم قبل الانخفاض وَأما {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} فالتقديم فِيهِ بِالْفَضْلِ لِأَن السُّجُود أفضل من الرُّكُوع لقَوْله صلى الله عليه وسلم (أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد)
وَقد تقدم عَن السُّهيْلي أَنه جعل السُّجُود وَالرُّكُوع فِي هَذِه الْآيَة من بَاب التَّعْبِير بالجزء عَن الْكل وَأَن المُرَاد بِالسُّجُود صلَاتهَا فِي بَيتهَا وبالركوع صلَاتهَا مَعَ النَّاس فِي الْمَسْجِد لقَوْله {واركعي مَعَ الراكعين} وَقدم الأول لفضله لِأَن أفضل صَلَاة الْمَرْأَة فِي بَيتهَا وَكَذَلِكَ عبر عَنهُ بِالسُّجُود لِأَنَّهُ أفضل من الرُّكُوع وَذكر أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى {وطهر بَيْتِي للطائفين والقائمين والركع السُّجُود} أَن التَّقْدِيم فِيهِ بالرتبة فَبَدَأَ بالطائفين لقربهم من الْبَيْت ثمَّ بالقائمين وَالْمرَاد بهم العاكفين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} أَي مواظبا ملازما وهم كالطائفين فِي الْقرب من الْبَيْت بل يَصح ذَلِك فِي كل مَكَان مَعَ اسْتِقْبَال الْبَيْت
قَالَ وَلم يعْطف السُّجُود بِالْوَاو لأَنهم هم الركع وَالشَّيْء لَا يعْطف على نَفسه وَلِأَن من لم يسْجد فِي الصَّلَاة لَا يعْتد بركوعه وَأَيْضًا فلئلا يظنّ أَن المُرَاد بِالسُّجُود الْمصدر دون النَّعْت الَّذِي هُوَ جمع
فَهَذِهِ الْمَوَاضِع تنبه على مَا وَرَاءَهَا فِي الْحِكْمَة لتقديم بعض الْأَشْيَاء فِي الذّكر على بعض
وَالله أعلم
14 -
فصل قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة فِي عطف الْجمل
تقدم من قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة أَن الْجُمْلَة إِذا عطفت على أُخْرَى قبلهَا فَإِن كَانَت الْجُمْلَة الثَّانِيَة تَامَّة اسْتَقَلت بِنَفسِهَا وَكَانَت الْمُشَاركَة فِي أصل الحكم لَا فِي جَمِيع صِفَاته وَقد لَا تَقْتَضِي مُشَاركَة أصلا وَهِي الَّتِي تسمى وَاو الِاسْتِئْنَاف كَقَوْلِه تَعَالَى {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل ويحق الْحق بكلماته} فَإِن قَوْله {ويمح الله الْبَاطِل} جملَة مستأنفة لَا تعلق لَهَا بِمَا قبلهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَة فِي جَوَاب الشَّرْط وَحذف الْوَاو من {ويمح} اتبَاعا للرسم وَإِلَّا فالفعل مَرْفُوع بِدَلِيل الْعَطف عَلَيْهِ بقوله {ويحق الْحق}
أما إِذا كَانَت الْجُمْلَة المعطوفة نَاقِصَة فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّة أَنَّهَا تشارك الأولى فِي جَمِيع ماهي عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طلقت الثَّانِيَة ثَلَاثًا أَيْضا
بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ وَهَذِه طَالِق فَإِنَّهَا لَا تطلق إِلَّا وَاحِدَة لاستقلال الْجُمْلَة بِتَمَامِهَا
وعَلى هَذَا بنوا بحثهم الْمَشْهُور فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) فِي تَخْصِيص الْجُمْلَة الأولى بالكافر الْحَرْبِيّ لعطفه الثَّانِيَة عَلَيْهَا وَهِي عِنْدهم مُقَيّدَة بِتَقْدِير الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَقَالُوا حرف الْعَطف يَجْعَل الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ كالشيء الْوَاحِد وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فيهمَا فِي الحكم وتفاصيله
وَإِذا شاركت الْجُمْلَة النَّاقِصَة الأولى التَّامَّة فِيمَا تمت بِهِ بِعَيْنِه فَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير شَيْء آخر من إِعَادَة شَرط أَو تَقْدِير خبر لِأَن الثَّانِيَة بعطفها أفادت مَا تفيده الأولى فَلَا فَائِدَة فِي التَّقْدِير
وَلِهَذَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق كَانَ الثَّانِي مُعَلّقا بذلك الشَّرْط بِعَيْنِه وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير إِعَادَته
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن دخلت هَذِه الدَّار وَإِن دخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فعلق بِدُخُول الدَّار الثَّانِيَة تِلْكَ التطليقة لَا تَطْلِيقَة أُخْرَى حَتَّى لَو دخلت الدَّاريْنِ لم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَلَو قدر الشَّرْط معادا لطلقت ثِنْتَيْنِ وَهَذَا يرد عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة إِذا قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه فَإِن مُقْتَضى الشّركَة أَن تطلق كل وَاحِدَة ثِنْتَيْنِ لانقسام الثَّلَاث عَلَيْهِمَا وتكميل النَّاقِص
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَلفُلَان جعلت الْألف منقسمة عَلَيْهِمَا عِنْدهم تَحْقِيقا للشَّرِكَة وَلَا تجْعَل كالمعاد حَتَّى يكون لكل مِنْهُمَا ألف
وَقد اعتذروا عَن ذَلِك بِأَن فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق فهم مَقْصُود الزَّوْج وَهِي الْبَيْنُونَة الْكُبْرَى بخطاب الأولى فَكَانَت الثَّانِيَة كَذَلِك وَفِي مَسْأَلَة الْإِقْرَار لم يُعَارض ذَلِك شَيْء مَعَ اعْتِقَاده بِأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَقَالُوا فِيمَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وفلانة إِنَّه يَقْتَضِي تَعْلِيق طَلَاق الثَّانِيَة بِدُخُول الأولى حَتَّى إِذا دخلت الأولى الدَّار طلقتا جَمِيعًا
وَمُقْتَضى قَوْلهم إِن عطف الْجُمْلَة النَّاقِصَة على الْكَامِلَة يتَضَمَّن مشاركتهما فِي الحكم أَن يكون طَلَاق الثَّانِيَة مُعَلّقا على دُخُول نَفسهَا لَا على دُخُول الأولى لكِنهمْ بنوا ذَلِك على مَا تقدم لَهُم من عدم تَقْدِير الشَّرْط الثَّانِي فَلَا يتَعَلَّق طَلاقهَا إِلَّا بِدُخُول الأولى
وَقد الْتزم ابْن الْحَاجِب فِي أثْنَاء كَلَام لَهُ فِي مُخْتَصره الأصولي أَن قَول الْقَائِل ضربت زيدا يَوْم الْجُمُعَة وعمرا يتَقَيَّد بِيَوْم الْجُمُعَة أَيْضا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن عطف الْجُمْلَة النَّاقِصَة عِنْده على الْكَامِلَة تَقْتَضِي مشاركتها فِي أصل الحكم وتفاصيله وَذكر لي بعض الْفُضَلَاء أَن ابْن عُصْفُور اخْتَار ذَلِك أَيْضا وَلم أظفر بِهِ فِي كَلَامه
أما أَصْحَابنَا فقد اخْتلف حكمهم فِي ذَلِك فَقَالُوا فِي مَسْأَلَة الشَّرْط الْمُتَقَدّمَة إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وفلانة إِن الثَّانِيَة تتقيد أَيْضا بِالشّرطِ وَكَذَلِكَ لَو قدم الْجَزَاء على الشَّرْط وَهُوَ ظَاهر وَقَالُوا فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف وَدِرْهَم وَنَحْو ذَلِك إِنَّه لَا يكون الدِّرْهَم مُفَسرًا للألف بل لَهُ
تَفْسِيرهَا بِمَا شَاءَ وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ الْمَعْطُوف مَكِيلًا أَو معدودا أَو مَوْزُونا تفسرت الْألف بِهِ وَهُوَ جَار على مَا تقدم من قاعدتهم فَإِن كَانَ الْمَعْطُوف مُتَقَوّما كَالثَّوْبِ وَالْعَبْد بَقِي الْعدَد الأول على إبهامه وَهَذَا وَارِد عَلَيْهِم
وَبَالغ بعض أَصْحَابنَا حَتَّى قَالَ إِذا قَالَ الْمقر لَهُ عَليّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ درهما إِن الْخَمْسَة تكون مُبْهمَة وَالْعشْرُونَ هِيَ المفسرة بالدرهم وَلِأَن الرَّاجِح تَفْسِير الْكل بِهِ لِأَنَّهُ لَا يجب بِذكر الدِّرْهَم شَيْء زَائِد فَيكون مُفَسرًا للْكُلّ بِخِلَاف قَوْله ألف وَدِرْهَم
وَلَو قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق وَأَنت يَا أم أَوْلَادِي قَالَ أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ لَا يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق قبل لِأَنَّهُ النِّكَاح لَغْو وَقد رتب طَلاقهَا عَلَيْهِ قبله وَحَكَاهُ عَنهُ الرَّافِعِيّ مقررا لَهُ ثمَّ قَالَ وَيقرب من هَذَا مَا ذكره غَيره أَنه لَو قَالَ لزوجته نسَاء الْعَالمين طَوَالِق وَأَنت يَا فَاطِمَة لَا يَقع بِهِ شَيْء لِأَنَّهُ عطف طَلاقهَا على طَلَاق نسْوَة لَا يَقع طلاقهن
وَمُقْتَضى تَعْلِيل هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنه إِذا عطف الطَّلَاق على طَلَاق نَافِذ يَقع وَلَكِن الظَّاهِر أَن ذَلِك يكون كِنَايَة فتشترط النِّيَّة مَعَه بِدَلِيل أَنه لَو طلق إِحْدَى امرأتيه ثمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى اشتركت مَعهَا أَو أَنْت كهي أَو مثلهَا قَالُوا
إِن نوى طَلَاق الثَّانِيَة طلقت وَإِلَّا فَلَا
وَلَو طلق إِحْدَى امرأتيه ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى اشتركت مَعهَا وَلم ينْو الْعدَد قَالَ اسماعيل البوشنجي جرت مَسْأَلَة بَين يَدي أَبُو بكر الشَّاشِي فَأفْتى أَنَّهَا تطلق وَاحِدَة ثمَّ توقف البوشنجي فِي ذَلِك وَقَالَ قد أوقع على الأولى ثَلَاثًا والتشريك يَقْتَضِي أَن يكون لَهَا مثل ذَلِك فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون قَوْله هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه لَا يَقع بِهِ الثَّلَاث على الثَّانِيَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وَحكى الرَّافِعِيّ عَن كتب الْحَنَفِيَّة أَنه إِذا حلف لأدخلن هَذِه الدَّار الْيَوْم أَو هَذِه بر بِدُخُول إِحْدَاهمَا ذكر ذَلِك فِيمَا ألحقهُ تماثل أَصْحَابنَا من كتبهمْ مِمَّا لَا يُخَالف أصولنا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَمُقْتَضى ذَلِك الحاق الْجُمْلَة المعطوفة فِي التَّقْيِيد بِالْيَوْمِ الَّتِي قبلهَا وَالله أعلم