الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ "قالوا: لا قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ "قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود وإسناده على شرطهما 2.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 3.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية
1 سورة التوبة آية: 108.
(السنن) 3 / 607 (كتاب الأيمان والنذور)(باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر) حديث رقم (1313) قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) 4 / 198: (رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك بسند صحيح) . اهـ.
3 سورة التوبة آية: 108.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
[التعليق:]
باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
ما أحسن اتباع هذا الباب بالباب الذي قبله، فالذي قبله من المقاصد وهذا من الوسائل، ذاك من باب الشرك الأكبر، وهذا من وسائل الشرك القريبة، فإن المكان الذي يذبح فيه المشركون لآلهتهم تقربا إليها وشركا بالله قد صار مشعرا من مشاعر الشرك، فإذا ذبح فيه المسلم ذبيحة ولو قصدها لله، فقد تشبه بالمشركين وشاركهم في مشعرهم، والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم.
ومن هذا السبب نهى الشارع عن مشابهة الكفار في شعارهم وأعيادهم وهيئاتهم ولباسهم، وجميع ما يختص بهم إبعادا للمسلمين عن الموافقة لهم في الظاهر التي هي وسيلة قريبة للميل والركون إليهم، حتى إنه نهى عن الصلاة النافلة في أوقات النهي التي يسجد المشركون فيها لغير الله خوفا من التشبه المحذور.
باب من الشرك: الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1.
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك "رواه مسلم2.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث ; لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
1 سورة الجن آية: 6.
2 رواه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (4 / 2080- 2081) حديث رقم (2708) .
باب من الشرك: أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"5.
1 سورة يونس آية: 106-107.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 سورة الأحقاف آية: 5-6.
4 سورة النمل آية: 62.
5 عزاه الهيثمي للطبراني في (المعجم الكبير) عن عبادة بن الصامت، ولم أقف على مسنده في المطبوع من (المعجم الكبير) . قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 10 / 159:(رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وقد رواه أحمد بغير هذا السياق، وهو في الأدب في باب القيام) . اهـ.
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 1.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعه: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة 2.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: أن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان بأنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله.
1 سورة يونس آية: 106.
2 أي الآية (17) من سورة العنكبوت.
[التعليق:]
باب: من الشرك: النذر لغير الله
باب: من الشرك: الاستعاذة بغير الله
باب: من الشرك: أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
متى فهمت الضابط السابق في حد الشرك الأكبر، وهو أن (من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك) .
فهمت هذه الأبواب الثلاثة التي والى المصنف بينها.
فإن النذر عبادة مدح الله الموفين به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، وكل أمر مدحه الشارع أو أثنى على من قام به أو أمر به فهو عبادة.
فإن العبادة (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة) . والنذر من ذلك.
وكذلك أمر الله بالاستعاذة به وحده من الشرور كلها، وبالاستغاثة به في كل شدة ومشقة، فهذه إخلاصها لله إيمان وتوحيد، وصرفها لغير الله شرك وتنديد.
والفرق بين الدعاء والاستغاثة، أن الدعاء عام في كل الأحوال والاستغاثة هي الدعاء لله في حالة الشدائد، فكل ذلك يتعين إخلاصه لله وحده، وهو المجيب لدعاء الداعين المفرج لكربات المكروبين، ومن دعا غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم أو استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر، وكما أنه خرج من الدين فقد تجرد أيضا من العقل، فإن أحدا من الخلق ليس عنده من النفع والدفع مثقال ذرة لا عن نفسه ولا عن غيره، بل الكل فقراء إلى الله في كل شئونهم.
باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1.
وفي الصحيح3 عن أنس رضي الله عنه قال: "شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4.
وفيه5 عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا".
بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6 الآية.
1 سورة الأعراف آية: 191-192.
2 سورة فاطر آية: 13-14.
3 رواه البخاري معلقا: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى:(ليس لك من الأمر شيء) . (4 / 1493) . ورواه مسلم: كتاب الجهاد والسير باب غزوة أُحد (3 / 1417) حديث رقم (1791) . ولفظه: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله
…
) الحديث.
4 سورة آل عمران آية: 128.
5 رواه البخاري: كتاب المغازي باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء)(4 / 1493- 1494) حديث رقم (3842) .
6 سورة آل عمران آية: 128.
وفي رواية 1: "يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 2.
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3. فقال: "يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب: لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد: سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا" 4.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 5.
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُم ?} 6 فتاب عليهم فآمنوا.
1 رواه البخاري: مع فتح الباري 7 / 365 حديث رقم (4070) كتاب المغازي باب قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} وهو مرسل؛ لأنه من رواية سالم بن عبد الله بن عمر وقد وصلها أحمد (2 / 93) . والترمذي: كتاب تفسير القرآن باب من سورة آل عمران (5 / 212) حديث رقم (3004) . وقال: (هذا حديث حسن غريب) . اهـ.
2 سورة آل عمران آية: 128.
3 سورة الشعراء آية: 214.
4 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة الشعراء باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)(4 / 1787- 1788) حديث رقم (4493) . ومسلم: كتاب الإيمان باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)(1 / 192- 193) حديث رقم (206) .
5 سورة آل عمران آية: 128.
6 سورة آل عمران آية: 128.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئا"حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا"2. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3.
هذا شروع في براهين التوحيد وأدلته، فالتوحيد له من البراهين النقلية والعقلية ما ليس لغيره.
فتقدم أن التوحيدين: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من أكبر براهينه وأضخمها، فالمتفرد بالخلق والتدبير، والمتوحد في الكمال المطلق من جميع الوجوه هو الذي لا يستحق العبادة سواه.
وكذلك من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين ومن عبد مع الله، فإن جميع ما يعبد من دون الله من ملك وبشر ومن شجر وحجر وغيرها كلهم فقراء إلى الله، عاجزون ليس بيدهم من النفع مثقال ذرة، ولا يخلقون شيئا وهم
1 سورة الشعراء آية: 214.
2 البخاري: الوصايا (2753)، ومسلم: الإيمان (206)، والنسائي: الوصايا (3646 ،3647) ، وأحمد (2/448)، والدارمي: الرقاق (2732) .
3 سورة الأعراف آية: 191.
يخلقون، ولا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق وهو الرازق لكل مرزوق، المدبر للأمور كلها، الضار النافع، المعطي المانع، الذي بيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، وله يقصد ويصمد ويخضع كل شيء.
فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله، فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق، وعلى بطلان الشرك.
وإذا كان أشرف الخلق على الإطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحما فكيف بغيره؟ فتبا لمن أشرك بالله وساوى به أحدا من المخلوقين، لقد سلب عقله بعدما سلب دينه.
فنعوت الباري تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو. وكذلك صفات المخلوقات كلها، وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شئونها، وأنه ليس لها من الكمال، إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شيء منها.
فمن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والثناء عليه، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه، وانصرف تعلقه بالمخلوقين خوفا ورجاء وطمعا، والله أعلم.
باب: قول الله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالو ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}
…
باب قول الله تعالى:
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها، الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"2.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، وتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، - أو قال: رعدة - شديدة خوفا من الله (، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا
1 سورة سبأ آية: 23.
2 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة سبأ باب: (حتى إذا فزع عن قلوبهم)(4 / 1804) حديث رقم (4522) .
يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله " 1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله:"قال كذا وكذا".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
1 رواه ابن أبي عاصم (السنة) 1 / 226-227 حديث رقم (515) من طريق نعيم بن حماد ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان الكلابي
…
الحديث بنحوه وإسناده ضعيف لأجل الوليد بن مسلم. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 / 336: (ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية) . ونص بعض العلماء على أنه ليس لهذا الحديث أصل قال الذهبي (الميزان) 4 / 268: (قال أبو زرعة الدمشقي: عرضت على دحيم حديثا حدثناه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي. فقال دحيم: لا أصل له) . اهـ.
2 سورة سبأ آية: 23.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله (.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1.
وهذا أيضا برهان عظيم آخر على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وهو ذكر النصوص الدالة على كبرياء الرب وعظمته التي تتضاءل وتضمحل عندها عظمة المخلوقات العظيمة، وتخضع له الملائكة والعالم العلوي والسفلي، ولا تثبت أفئدتهم عندما يسمعون كلامه، أو تتبدى لهم بعض عظمته ومجده، فالمخلوقات بأسرها خاضعة لجلاله، معترفة بعظمته ومجده خاضعة له خائفة منه، فمن كان
1 سورة سبأ آية: 23.
هذا شأنه فهو الرب الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر والتعظيم والتأله إلا هو، ومن سواه ليس له من هذا الحق شيء.
فكما أن الكمال المطلق والكبرياء والعظمة ونعوت الجلال والجمال المطلق كلها لله لا يمكن أن يتصف بها غيره، فكذلك العبودية الظاهرة والباطنة كلها حقه تعالى الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك بوجه.
باب الشفاعة
وقول الله (: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ ?} 2.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ ?} 3.
قال أبو العباس6: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 7.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده- لا يبدأ بالشفاعة أولا- ثم يقال له: "ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"8.
1 سورة الأنعام آية: 51.
2 سورة الزمر آية: 44.
3 سورة البقرة آية: 255.
4 سورة النجم آية: 26.
5 سورة سبأ آية: 22-23.
6 هو الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى.
7 سورة الأنبياء آية: 28.
8 جزء من حديث الشفاعة الطويل. رواه البخاري: كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه)(3 / 1215- 1216) حديث رقم (3162) . ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1 / 184، 186) حديث رقم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "1. فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص". انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
[التعليق:]
باب: الشفاعة
1 رواه البخاري: كتاب العلم باب الحرص على الحديث (1 / 49) حديث رقم (99) .
إنما ذكر المصنف الشفاعة في تضاعيف هذه الأبواب؛ لأن المشركين يبررون شركهم ودعاءهم للملائكة والأنبياء والأولياء بقولهم: نحن ندعوهم مع علمنا أنهم مخلوقون ومملوكون، ولكن حيث إن لهم عند الله جاها عظيما ومقامات عالية، ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى وليشفعوا لنا عنده، كما يتقرب إلى الوجهاء عند الملوك والسلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم وإدراك مآربهم. وهذا من أبطل الباطل، وهو تشبيه الله العظيم ملك الملوك الذي يخافه كل أحد، وتخضع له المخلوقات بأسرها بالملوك الفقراء المحتاجين للوجهاء والوزراء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم.
فأبطل الله هذا الزعم وبين أن الشفاعة كلها له، كما أن الملك كله له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى إلا توحيده وإخلاص العمل له. فبين أن المشرك ليس له حظ ولا نصيب من الشفاعة.
وبين أن الشفاعة المثبتة التي تقع بإذنه إنما هي الشفاعة لأهل الإخلاص خاصة وأنها كلها منه، رحمة منه وكرامة للشافع، ورحمة منه وعفوا عن المشفوع له، وأنه هو المحمود عليها في الحقيقة، وهو الذي أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها وأناله المقام المحمود.
فهذا ما دل عليه الكتاب والسنة في تفصيل القول في الشفاعة.
وقد ذكر المصنف رحمه الله كلام الشيخ تقي الدين في هذا الموضع وهو كاف شاف. فالمقصود في هذا الباب ذكر النصوص الدالة على إبطال كل وسيلة وسبب يتعلق به المشركون بآلهتهم، وأنه ليس لها من الملك شيء، لا استقلالا ولا مشاركة ولا معاونة ولا مظاهرة ولا من الشفاعة شيء.
وإنما ذلك كله لله وحده، فتعين أن يكون المعبود وحده.
باب قول الله تعالى: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
1
في الصحيح2 عن ابن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل. فقال له: "يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"فأنزل الله ( {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 3.
وأنزل في أبي طالب: {إنَّك َ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {إنَّك َ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5.
الثالثة: - وهي المسألة الكبيرة-: تفسير قوله: "قل لا إله إلا الله". بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
1 سورة القصص آية: 56.
2 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة القصص باب "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"(4 / 1788- 1789) حديث رقم (4494) . ومسلم: كتاب الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة..... (1 / 54) حديث رقم (24) .
3 سورة التوبة آية: 113.
4 سورة القصص آية: 56.
5 سورة القصص آية: 56.
6 سورة التوبة آية: 113.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: "قل لا إله إلا الله" فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبى جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 1
وهذا الباب أيضا نظير الباب الذي قبله، وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق على الإطلاق، وأعظمهم عند الله جاها وأقربهم إليه وسيلة، لا يقدر على هداية من أحب هداية التوفيق، وإنما الهداية كلها بيد الله، فهو الذي تفرد بهداية القلوب كما تفرد بخلق المخلوقات فتبين أنه الإله الحق.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فالمراد بالهداية هنا: هداية البيان وهو صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وحيه الذي اهتدى به الخلق.
1 سورة القصص آية: 56.
2 سورة الشورى آية: 52.