الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان القياس والاستحسان
(وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسيين)، وإنما قال ذلك ردًا لتشنيع من
...............
لا وقوف له على ما أراد بهذا اللفظ علماؤنا- رحمهم الله، فقال إذا كان العمل بالاستحسان هو الأولى دون القياس كان القياس باطلًا في حق العمل بمقابلته، فبعد ذلك كيف يصح قولكم: القياس حجة؟
ورد هذا التشنيع بهذا فقال: "إن الاستحسان أحد القياسيين" لكن أحدهما أقوى من الآخر بقوة أثره، فالعمل بالأقوى لا يدل على أن الآخر ليس بحجة أصلًا. ألا ترى أن النصين إذا تعارضا وأحدهما أقوى لمعني فيه لكونه محكمًا أو مفسرًا فالعمل به أقوى، وهو لا يدل على أن الظاهر أو النص لا يكون حجة، ف كان عملنا في هذين القياسيين بمنزلته، فبطل تشنيع هذا المشنع، وتمام هذا يذكر ف ي آخر الباب.
(لكنه سمي استحسانًا إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل به، وأن العمل بالآخر جائز كما جاز العمل بالطرد وإن كان الأثر أولى منه)، وهذا الذي ذكرنا إنما يتحقق فيما إذا عارض الاستحسان قياسًا في مسألة واحدة كان العمل بالاستحسان أولى، كما يقال: التوضؤ بسؤر الهرة جائز، والترك أولى، والعلم بالعلل الطردية جائزة، وإن كان العمل بالعلل المؤثرة أولى.
وهذا الذي ذكره هاهنا خلاف ما اختاره الإمام شمس الأئمة السرخسي
- رحمه الله في الظاهر فقال: وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، قال: العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائز، ثم قال: قال- رضي الله عنه: وهذا وهم عندي، فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا ركنا هذا القياس والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول: إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعًا فاستقباحه يكون كفرًا.
فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلًا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة، ولكن باعتبار سقوط الأضعف بالأقوى أصلًا.
وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعًا.
وقال في الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في الزاويتين في بيت واحد في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد، ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة.
وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد- رحمهما الله- تصحح ردة الصبي
استحسانًا، ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة ترجيح الموجب للإسلام، وإن كن هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب للإسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلًا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد، وعن هذا قال بعضهم بالتوفيق بينهما.
وأول ما ذكره فخر الإسلام- رحمه الله فقال: لا تتعارض بين القياس والاستحسان في الحقيقة، لأن القياس أضعف والاستحسان أقوى، والأضعف لا يعارض الأقوى، فصار الأضعف بمنزلة المعدوم.
ويجوز أن يكون المصنف- رحمه الله أراد بما ذكر: "أن العمل بالقياس جائز" أي عند سلامته عن معارضة الاستحسان، وعنى بالجائز الواجب، لأن القياس إذا انفرد عن معارضة الاستحسان كان العمل بالقياس واجبًا، وعنى بقوله: إلا أنه مقدم على القياس عند وجودهما، وكذلك هذا في الطرد مع الأثر، إذا لم يعرض الأثر الطرد يجوز العمل بالطرد عند العجز كما يجوز باستصحاب الحال عند الضرورة.
والدليل على أن المراد هذا ما ذكره بعد هذا بأسطر بقوله: فسقط حكم القياس بمعارضة الاستحسان. بقولة: ف صار هذا باطنًا ينعدم ذلك الظاهر. أي دليل القياس في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه، فلما كان دليل القياس منعدمًا وساقطًا في مقابلة دليل الاستحسان لم يكن معارضًا للاستحسان في الحقيقة، فكان العمل بالقياس متروكًا أصلًا، لا أن يكون جائزًا عند وجود دليل الاستحسان.
وقوله: (وهو الاستصناع) والقياس يأبى جواز الاستصناع، لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا يجوز، ولو كان موجودًا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه، فإذا كان معدومًا أولى، ولكنا تركنا القياس لتعمل الناس فيه إلى آخر. كذا ذكره في "المبسوط".
وصورته هي ما ذكر في "الوافي" رجل جاء إلى إنسان فقال له: اخرز لي خفًا من جلدك صفته كذا، وقدره كذا بكذا درهمًا، وسلم إليه الدراهم أولم يسلم فإنه يجوز للتعامل فيه.
(وسمينا الذي قوى أثره استحسانًا)، لأنه هو الأولى بالعمل به، (وقدمنا الثاني) أي الاستحسان.
(الجلاء) - بالفتح والمد- الأمر الجلي يقول منه: جلا لي الخبر أي وضح، وقول زهيرة:
فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو شهود أو جلاء
ويريد الإقرار. كذا في الصحاح.
وقوله: (والصفوة)، لأنه خالص عن شوب المحنة.
(لعدمه) أي لعدم حكم القياس، لأن المغلوب في مقابلة الغالب معدوم.
(وفي الاستحسان هو طاهر) أي سؤر سباع الطير (طاهر بدليل جواز الانتفاع به شرعًا) كالكلب للاصطياد والحراسة، ولو كان حرامًا الانتفاع بعينه لحرم الانتفاع بعينة بقوله تعالى:(فاجتنبوا الرجس).
(فأثبتنا حكمًا بين حكمين) أحد الحكمين كونه نجسًا لا بطرقي المجاورة والآخر كونه طاهرًا، فالحكم بين الحكمين (النجاسة (المجاورة، فتثبت صفة النجاسة في رطوبته) أي في رطوبة سؤر سباع البهائم.
(والعظم طاهر بذاته خال عن مجاورة النجس)، لأن منقارهم عظم جاف ثم تأيد هذا بالعة المنصوص عليها في الهرة، فإن معني البلوي يتحقق في سؤر سباع الطير، لأنها تنقض من الهواء، ولا يمكن صون الأواني
عنها خصوصًا في الصحاري.
(مثاله) أي مثال القياس الذي عمل به علماؤنا- رحمهم الله وإنما ذكر جواز السجدة بالركوع قياسًا وعدم الجواز استحسانًا، لأن القياس الجلي يسمي قياسًا، وهو موجودًا هاهنا وهو جلي، لأنه قال: لما جاز السجود جاز
الركوع، لأن كلًا منهما يعد تواضعًا بالانحناء وهذا ظاهر، لأنه إذا وجد المسمى جاء الاسم، وفي الاستحسان نوع خفاء، لأنه يحتاج فيه إلى أن يقال: إنه مأمور بالسجود دون الركوع، وكلل واحد منهما مخالف للآخر، فلا ينوب أحدهما عن الآخر كسجدة الصلاة، فلذلك سمي استحسانا.
(أنه غير مشروع مستقلًا بنفسه)، لأن ذلك يجب عند وجود فعل العباد مع تلاوة أو سماع. (وبخلاف سجود الصلاة)، لأنه قربة مقصودة.
(مع الفساد الظاهر)، وهو التمسك بالمجاز (أحق من الأثر الظاهر) أي من القوة الظاهرة للاستحسان (مع الفساد الباطن)، وهو جعل ما ليس بمقصود بمنزلة المقصود.
(وهذا قسم عز وجوده) أي ترجيح القياس على الاستحسان مما يقل وجوده، ومن ذلك القليل أيضًا ما ذكره الإمام الزاهد نجم الدين النسفي- رحمه الله في مجمع العلوم: لو قال رجل لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فقالت: ولدت وكذبها الزوج، فالقياس أن لا تصدق، وفي
الاستحسان تصدق وبالقياس نأخذ. وفي "الجامع": أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فقضى القاضي بجلد مائة، فجلد ولم يكمل الجلد، فشهد شاهدان أنه محصن، ففي القياس يرجم وهو قولهما، وفي الاستحسان لا يرجم وبالقياس نأخذ.
وذكر في كتاب الرهن والنكاح: إن الرهن بمهر المثل لا يكون رهنًا بالمتعة عند أبي يوسف-رحمه الله قياسًا وعند محمد- رحمه الله وهو الاستحسان يكون رهنا، وبالقياس نأخذ إلى آخره.
وذكر في رهن "الهداية": فإن أقام الرجلان كل واحد منهما البنية على رجل أنه رهنه عبده في يده وقبضه فهو باطل.
هذا جواب القياس.
وأما جواب الاستحسان فإنه يكون رهنًا لهما، فيجعل كأنهما ارتهناه معًا إذا جهل التاريخ بينهما، ثم قال: وهو وإن كان قياسًا، لكن محمدًا رحمه الله-
أخذ به لقوته؛ (لأنه ينكر تسليم المبيع بما يدعيه المشترى ثمنًا)؛ لأن المشتري يدعي على البائع عند إحضار أقل الثمنين تسليم السلعة، والبائع ينكر.
(وهذا حكم تعدي إلى الوارثين) أي إلى وارث البائع ووارث المشترى إذا اختلفا في الثمن قبل قبض المبيع يتحالفان كما إذا اختلف المورثان، (وإلى الإجارة) بأن اختلف المؤجر مع المستأجر في قدر الأجرة قبل استيفاء المعقود عليه وهو المنفعة فإنهما يتحالفان.
(وما أشبه ذلك) وهو كل عقد اختلف في بدلة والمعقود عليه غير مسلم والتسليم فيه لا يجب إلا بعد تسليم البدل، كما في النكاح يعني إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر قبل الدخول، وكما إذا هلكت السلعة واختلفت بدلا بأن قبل العبد المبيع قبل القبض.
(وإنما أنكر على أصحابنا بعض الناس).
قال الإمام شمس الأئمة -رحمة الله-: وقد طعن بعض الفقهاء في
تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا.
وقال القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية، ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أوشهوة نفس؟! فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية حق وماذا بعد الحق إلا الضلال! وإن كانوا يريدون القياس الباطل شرعًا فالباطل مما لا يشتغل بذكره.
فنقول: الاستحسان لغة: وجود الشيء حسنا أو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال الله تعالى:(فَبِشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولًا إلى آرائنا، نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) أوجب ذلك بحسب اليسار والعسر، وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي،
وكذلك قوله تعالى: (وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهو استحسان لا يخالفه أحد من الفقهاء.
والنوع الآخر: هو الدليل الي يكون معارضًا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام النظر والتأمل، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، وأن العمل به هو الواجب فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي يسبق إليه الوهم قبل التأمل.
(والاستحسان أفصحهما وأقواهما).
أما أفصحهما: فإن الاستحسان مزيد ثلاثي غير مضعف، وفي التضعيف نوع بشاعة من تكرير الحرف في الكلمة الواحدة، ولذلك أدغموه عند إمكان الإدغام لإزالة البشاعة، وهاهنا لا إمكان لتحلل الألف بين الحرفين المتجانسين، فبقيت الكلمة على بشاعته فكانت الكلمة التي لا تضعف فيها منها أفصح.
وأما أقواهما: فلأن الاستحسان عبارة عن وجود الشيء حسنا، فإذا كان حسنا يجب اتباع الحسن.
وأما قوله: "أحب" ينبئ عن المحبة والإيثار، وذلك لا يوجب كون ذلك حسنًا؛ لاحتمال أن يكون ما أحبه وآثره قبيحًا.
ألا ترى أن الله تعالى قال في مذمة الكفار: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ).
وحاصلة أن الاستحسان يدل على الحسن، والاستحباب يدل على المحبة، ولا شك أن الحسن يدل على زيادة فضيلة في الشيء الذي له حسن من المحبة التي تدل محبوب؛ إذ حسن ذلك الشيء نشأ من ذات ذلك الشيء، والمحبة نشأت من الغير، وما ينشأ من الذي ينشأ من الغير؛ لأن الأول يدل على أمر قار، والثاني يدل على أمر طارئ.