المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب شروط القياس - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٤

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب شروط القياس

‌باب شروط القياس

(أن لا يكون الأصل مخصوصاَ بحكمه بنص آخر) المراد من الأصل المقيس عليه ، وهو شهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه مثلَا ، فإن ذلك الأصل ، وهو شهادة خزيمة منفرد ، ومخصوص بحكمه ، وهو قبول شهادته منفرداَ كرامة له بنص آخر ، وهو قوله عليه السلام:"من شهد له خزيمة حسبه" إذ لو تعدى منه إلى غيره يبطل الاختصاص في حقه.

وإنما ذكر قوله: آخر" بسبب مقابلة النص العام الذي يقتضي العدد من الشهود في سائر الشهادات ، فصار كأنه قال: اختص قبول شهادة خزيمة به بنص آخر من النص الذي يقتضي العدد على ما ذكر بعد هذا في الكتاب بقوله: إن الله تعالى شرط العدد في عامة الشهادات أي في قوله: (وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) وقوله تعالى: (واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) إلى

ص: 1677

قوله: (وأَدْنَى أَلَاّ تَرْتَابُوا) وذلك تنصيص على أدنى ما يكون من الحجة لإثبات الحق إنما يكون بالعدد من الشهود ، وخزيمة ممن يتناوله العموم ، ثم خص رسول الله عليه السلام خزيمة بقبول شهادته وحده ، وكان ذلك حكما ثبت بالنص اختصاصه به كرامة له ، فلم يجز تعليله أصلَا حتى لا يثبت ذلك الحكم في شهاد غير حزيمة ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة؛ لأن التعليل يبطل خصوصيته ، وقصة شهادة خزيمة رضي الله عنه هي ما ذكره في أوائل شهادات (المبسوط) فقال:"روي أن النبي عليه السلام اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ، ثم جحد العرابي استيفاء الثمن ، وجعل يقول: وا غدراه هلم شهيداَ. فقال عليه السلام: " من يشهد لي؟ فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك يا رسول الله أنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة ، فقال عليه السلام: كيف تشهد لي ولم تحضرنا؟

قال: يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك

ص: 1678

فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة! فقال رسول الله عليه السلام: من شهد له خزيمة فحسبه".

وقوله: (وأما الثالث) أي الشرط الثالث وهو قوله: "أن يتعدى الحكم الشرعي". إلى آخره.

وقوله: (وفى هذه الجملة خلاف)، والإشارة في:(هذه) راجعة إلى الشرط الثالث لا إلى ما قبله فتأنيت الإشارة باعتباره صفتها وهى الجملة ، وإنما سمي جملة؛ لأن الشرط الثالث مشتمل للأحكام الخمسة فكانت جملة.

(وحل للنبي عليه السلام تسع نسوة) إلى آخره. يعني وكذلك هذا المعنى في حل تسع نسوة لرسول الله عليه السلام؛ فإنه ثبت هذا الاختصاص؛ لرسول الله عليه السلام بنص آخر وهو قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وكان هذا بعد تزوج التسع؛ وتقييده بقوله (مِنْ بَعْدُ) يدل على حل

ص: 1679

قبله سوى النص العام الذي يقتضى الحصر على الأربع.

وكذلك المعنى في السلم؛ لأن النص العام وهو وقوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك" يقتضي بعمومه عدم جواز السلم إذا المسلم فيه معدوما أيضاَ كسائر البياعات لكن بنص آخر.

(وهو قوله عليه السلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" يثبت خصوصية جواز السلم وإن كان معدوماَ في حال البيع بصفة الأجل، فكان الأجل شرطاَ مخصوصاَ به، فلا يجوز تعليل هذا النص بأن السلم بيع كسائر البياعات فيجوز حالًا؛ لأن فيه إبطال خصوصية هذا الوصف الثابت بالنص بالسلم وذلك لا يجوز؛ لأن مثل هذا الكلام يقتضي حصر ما ذكرنا كما يقال: من دخل داري فليدخل غاض

ص: 1680

البصر، فهذا يقتضي عدم جواز الدخول إذا كان غير غاض البصر.

وهذا لأن الأصل في جواز البيع اشتراط قيام المعقود عليه في ملك العاقد والقدرة على التسليم حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه فسلمه لا يجوز، ثم ترك هذا الأصل في السلم رخصة بالنص الذي ذكرنا لكن بطريق يقدر على التسليم عند وجوب التسليم عادةً، وذلك بأن يكون مؤجلا فلم يجز التعليل فيه حتى يجوز حالًا أيضًا كسائر البياعات، لأن ذلك الحكم خاص يثبت الخصوصية بالسلم بالنص فلا تبطل الخصوصية الثابتة بالنص بالتعديل.

وقوله: (فلم يستقم إبطال الخصوص بالتعديل) أي لم يستقم إبطال خصوصية السلم بالأجل بالقياس على سائر البياعات كما أطبل الشافعي ذلك حيث جوز السلم الحال بالتعديل، فكان هذا الذي ذكره نفيًا لقول الشافعي رحمه الله.

وهذا مما يعقل كرامة، لأن معنى الكرامة بالاختصاص إنما يظهر فيما يتوهم فيه الحرج بإلزامه إياه وذلك لا يتحقق في اللفظ فقد كان أفصح العرب، ولا يلحقه الحرج في لفظ النكاح والتزويج، فكان الموجب للتخصيص ملك البضع نكاحًا بغير مهر واختصاصه بالمرآة حتى لا تحل لأحد

ص: 1681

بعده، لأنه يحرج في لزوم المال ويتأذى يكون الغير شريكًا له في فراشه من حيث الزمان، وعليه دل قوله تعالى:(ومَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) وإنما قلنا: إن اختصاصه ملك البضع نكاحًا بغير مهر، لأنه ذكر فعل الهبة، وذلك يقتضي مصدرًا مؤنثًا وهو هبة.

وقوله: (خالصة) صفة ذلك المصدر أي إن وهبت نفسها للنبي هبة خالصة بدليل قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) حيث ذكر علمه بفرضه عليهم على العموم وهو عبارة عن وجود الفرض عليهم ولزومه، فكان اختصاصه في حق عدم الفرض عليه وعدم لزومه.

وقد أبطلنا التعليل من حيث ثبت كرامة، لأنا لو عللنا كان متعديًا منه إلى غيره فحينئذ لم يبق الاختصاص ولم يبق الكرامة، لأن كرامته إنما كانت بسبب الاختصاص.

(والتقوم عبارة عن اعتدال المعاني) وذلك لأن قيمة الشيء هي التي تقوم مقام ذلك الشيء، والذي يقوم مقام غيره إنما يكون أن لو كان معادلًا في

ص: 1682

المعنى كقيمة الثوب تقوم مقام الثوب فيه المالية، وإن كانت لا تعادله في الصورة، فكذلك قيم جميع الأشياء، فالعين مع العرض لا يعتدلان في المعنى، لأن العين ما يستغني في وجوده عن المحل، والعرض ما يفتقر في وجوده إلى العين، وهو معنى قوله:(وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود)، لأنهما يتفاوتان في وجودهما بين السلب والإيجاب كما ذكرنا أن العين لا يفتقر إلى المحل في وجوده والعرض يفتقر، ولأن العين يبقى والعرض لا يبقى، فكان بينهما تفاوت فاحش فلا يمكن التعديل بينهما في المعاني، والقيمة عبارة عن اعتدال المعاني، وقد ثبت انتفاء الاعتدال بينهما بما ذكرنا، فكان ثبوت المالية والتقويم في المناع بالعقد حكمًا خاصًا ثبت بالنص غير قابل للتعديل.

فلذلك قلنا: إن تقومها في العقد لا يتعدى منه إلى الغصب فلم تضمن المنافع بالإتلاف والغصب، وهذا لأن تقومها في باب العقد للحاجة والضرورة وهو نظير حل الميتة عند المخمصة، فإن ثبوته لما كان بطريق الضرورة لم يجز تعليله لتعدية الحكم إلى محل آخر فكذلك ها هنا.

(فلا يصلح إبطال حكم الخصوص بالتعليل)، أي لما ثبت تقوم المنافع في باب العقد بطريق الخصوص لا يجوز إبطال خصوصيته بالتعليل بأن يقال لما ثبت تقوم المنافع في باب العقد يجب أن يثبت تقومها في باب العدوان، لأن ذلك أمر خاص بباب العقد فيبطل خصوصيته بالتعليل.

ص: 1683

(ومثال الثاني: من الشروط) وهو أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن القياس (إن أكل الناسي معدول به عن القياس) يعني إن الحكم ببقاء الصوم عند أكل الصائم ناسيًا حكم ثبت مخالفًا للقياس (وهو فوات القربة بما يضاد ركنها)؛ وهو؛ أي القياس أن تفوت القرية بالإتيان بالشيء الذي هو يضاد القربة كالأكل يضاد الصوم، (وهو القياس الصحيح)، لأن الشيء لا يبقى مع فوات ركنه سواء كان فوات الركن ناسيًا أو عامدًا، كما إذا ترك السجدة الأصلية ناسيًا حيث تف سد صلاته.

(وثبت حكم النسيان بالنص) أي ثبت بقاء صوم الآكل ناسيًا بنص قوله عليه السلام: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك".

(معدولا به عن القياس لا مخصوصًا من النص) يعني أن ظاهرة قوله عليه السلام: "الفطر مما دخل" يقتضي فساد الصوم ب الأكل والشرب ناسيًا إلا أنه لم يقصد بذلك الحديث الذي روينا فيتوهم من هذا الوجه أنه مخصوص من قوله: "الفطر مما دخل" فأمكن تعليل المخصوص ليتعدى الحكم منه إلى غيره

ص: 1684

بعلة جامعة بينهما وهي أن كلا من الناسي والخاطئ غير قاصد للفطر بالأكل والشرب، والنص المخصوص يعلل.

فرد ذلك الوهم بهذا فقال: "إن بقاء صوم من أكل ناسيًا إنما ثبت معدولًا به عن القياس"، وهو جعل الآكل غير الآكل وهو مخالف للقياس الظاهر فلما جعل الناسي غير آكل لم يتناوله قوله عليه السلام:"الفطر مما دخل" حتى يخص منه الناسي بذلك الحديث، بل كان بقاء صومه مخالفًا للقياس من كل وجه، فلا يقاس عليه الخاطئ والمكره لذلك.

(فيصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له) أي تعليل النص الذي ثبت حكمه مخالفًا للقياس لضد ما وضع له التعليل، لأن التعليل إنما يكون لإثبات القياس ببقاء صوم الخاطئ، والقياس يقتضي فساده لوجود الأكل منه حقيقة، فلذلك قلنا: لو عللنا كان التعليل حينئذ لضد ما وضع له، لأن القياس في أكل الناسي يقتضي ثبوت الفطر لوجود الأكل، فالتعليل لبقاء صومه بسبب أنه لم يقصد الأكل ليلحق به الخاطئ كان التعليل لضد ما وضع له وهو باطل، لأن من المحال أن يكون ما هو الموجب للحركة هو الموجب للسكون، لأن بقاء الصوم مع فوات الصوم ضدان، والذي هو موجب لثبوت أحدهما لا يصلح أن يكون موجبًا للآخر كالنص النافي للحكم لا يجوز أن يكون مثبتًا لذلك الحكم.

ص: 1685

(ولم يثبت هذا الحكم في مواقعة الناسي بالتعليل) هذا جواب لقولهم: بل يجري في بقاء صوم الناسي لآكله التعليل. ألا ترى أن الصائم إذا واقع ناسيًا يبقى صومه أيضًا بالقياس على من أكل ناسيًا لما أن النص لم يرد في الواقع فرد بهذا ذلك القياس فقال: لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص لما أن الوارد في الأكل والشرب وارد في الواقع معنى، وقد مر وجهه في بيان الدلالة، فكان هذا نظير قوله عليه السلام للمستحاضة:"توضئي لوقت كل صلاة"، ثبت بهذا الحديث عدم انتقاض الطهارة في الوقت بدم الاستحاضة وهذا حكم ثابت بخلاف القياس، ومع هذا ثبت مثل هذا الحكم في صاحب الجرح السائل ونظائره بدلالة النص لا بالقياس، لأن كل واحد منها نظير الآخر من كل وجه فورود النص في واحد منها كان ورودًا في الآخر.

(ألا تري أن معنى الحديث لغة أن الناسي غير جان على الصوم ولا على الطعام) بسبب وجود الفعل منه بطريق النسيان فيما لا مذكر له للعبادة، والطعام ملكه، وهذا لبيان أن الحكم في الوقائع ثابت بدلالة النص، لأن من سمع قوله عليه السلام:"تم على صومك" الحديث يفهم أن هذا الفعل ليس بجناية، لأنه أمر بإتمام الصوم كمن لا يوجد منه هذا الفعل، وكذلك آخر الحديث يفهم أن هذا الفعل ليس بجناية، لأنه أمر غير جان، لأن النبي عليه

ص: 1686

السلام أخبر: "أن الله تعالى هو المطعم والساقي" فصاحب الطعام إذا أطعم لا يكون الطاعم جانيًا على طعامه، وكذلك هذا المعنى في الشرب وهذا المعنى بعينه من غير تفاوت موجودً في الواقع أعني أنه ليس بجان على الصوم، لأنه صدر منه هذا الفعل بإنسياء الله تعالى ولا على المرأة، لأنها منكوحته، وفي درك هذا المعنى يستوي الفقيه وغير الفقيه، فكان ثابتًا بدلالة النص يعنى أن عبارة النص تدل بمعناها اللغوي الذي يفهمه كل من يعرف العربية على ثبوت هذا الحكم في غير المنصوص عليه وهو المعنى بدلالة النص فيكون ثابتًا بالنص لا بالتعليل، فأما الخطأ والكره والنسيان فليست بسواء، لأن النسيان لا يمكن الاحتراز عنه، وهو من قبل من له الحق خلقه من غير اختيار العبد فصار عفوا.

وأما الخطأ فما يمكن الاحتراز عنه فوقوعه بضرب من تقصيره وهو ذاكر للصوم فلا يمكن التسوية بينه وبين النسيان، والكره جاء لا من قبل من له الحق، والمكره في الإقدام على ما أكره مختار وهو ذاكر للصوم. ألا ترى أن العزيمة أن لا يقدم على الإطار ويثاب في الصبر عليه، وحاصله أن سبب العذر في النسيان لما كان ممن له الحق على وجه لا صنع للعباد فيه على ما أشار إليه النبي عليه السلام في قوله:"إنما أطعمك الله وسقاك" استقام أن يجعل الركن باعتباره قائمًا حكمًا، فأما في المكره والنائم والخاطئ فسبب العذر جاء من جهة العباد.

ص: 1687

والحق في أداء الصوم لله تعالى، فلم يكن هذا في معنى سبب كان ممن له الحق. ألا ترى أن المريض يصلي قاعدًا ثم لا تلزمه الإعادة إذا برأ، والمقيد يصلي قاعدًا ثم تلزمه الإعادة إذا رفع عند القيد، وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-: الذي شج في صلاته لا يبنى بعد الوضوء والذي ابتلي بقيء أو رعاف يبنى على صلاته بعد الوضوء لما أن ذلك حكم معدول به عن القياس فلم يجز التعليل فيه، وما يبتنى على صنع العباد ليس نظير ما لا صنع للعباد فيه من كل وجه فلا يتقاسمان.

(وكذلك ترك التسمية على الذبيح ناسيًا جعل عفوًا بالنص معدولًا به عن القياس) فلا يقاس العامد عليه لما ذكرنا أن في ذلك جعل التعليل لضد ما وضع له، ولا يمكن أن يقال فيه بالدلالة، لأنه لا مساواة بينهما فالناسي معذور غير معرض عن ذكر اسم الله تعالى، والعامد جان معرض عن ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة.

(وأما المستحسنات) إلى آخره جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: قد قلت أن ما ثبت معدولًا به عن القياس لا يحتمل التعديل، والمستحسنات هي ما ثبتت بخلاف القياس، ومع ذلك كان البعض منها قابلًا للتعليل؟

ص: 1688

فأجاب المصنف رحمه الله عن هذا وقال: فمن المستحسنات (ما ثبت بقياس خفي لا معدولًا به) عن القياس، فلذلك جاز تعليل ذلك البعض.

(وأما الأصل إذا عارضه أصولً فلا يسمى معدولًا) به عن القياس يعني أن المعنى الذي يتعلق به الحكم إذا عارضه معان أخر لا يكون معدولًا به عن القياس بل هو من باب الترجيح وأورد النظير في هذا ما قال علماؤنا رحمهم الله في مسح الرأس: أنه مسح فلا يسن تثليثه عارض هذا المعنى معنى آخر وهو كونه ركنًا في الوضوء هذا قول قيل فيه، لكن إطلاق لفظ الأصل ولفظ الجمع في الأصول يقتضي أن يراد به كثرة المقيس عليه. والأولى فيه أن يقال: مثال ذلك ما قال الشافعي في مسح الرأس إنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه.

قلنا: إنه مسح فلا يسن تثليثه ويعارض لما ذكره الشافعي أصول كثيرة من مسح التيمم ومسح الفخ ومسح الجورب ومسح الجبيرة، وهذه الكثرة التي ذكرنا إن لم توجب كون ما ذكره الشافعي معدولًا به عن القياس لكن توجب الترجيح لما قلنا على ما ذكر في الكتاب بقوله:(ولكنه يصلح للترجيح).

فإن قلت: هذا الذي ذكرته من قبيل قوة ثبات الوصف على الحكم.

ص: 1689

قلت: لا تنافي بينهما فإن لهذا الوصف وهو كون مسح الرأس مسحًا له أثر قوة الثبات على الحكم وأثر الأصول فيستدل في كل موضع ب ما يشهد هو له.

وقوله: "ولكنه ربما يصلح للترجيح"، (على مثال ما قلنا في عدد الرواة) يعني أن خبر المشهور راجح على الآحاد باعتبار أن الخبر إنما صار حجة بواسطة الاتصال برسول الله عليه السلام، وبكثرة الرواة تثبت قوة الاتصال فيترجح، فكذلك ها هنا تثبت حجية الوصف باعتبار ظهور الأثر، فمتى تثبت لوصف كثرة التأثير كان هو أقوى من وصف له قلة التأثير.

(وهذا الشرط واحد تسمية) أي بالنظر إلى قوله: "والشرط الثالث" أو بالنظر إلى وصف التعدي فإنه شيء واحد، ومجموع كل من التفصيل راجع إلى وصف التعدي.

والدليل على صحة التأويل الأول ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله بقوله: وهو شرط واحد اسما.

والدليل على صحة التأويل الثاني ما ذكر في "التقويم" في هذا الموضوع بقوله: وأما فصل تعدي الحكم إلى آخره (وجملة تفصيلًا) أي أصول

ص: 1690

كثيرة من حيث التفضيل.

والدليل على هذا التأويل ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله بقوله: هو شرط واحد اسمًا ولكن يدخل تحته أصول.

وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لقوله: (أن يكون الحكم المعلول شرعيًا لا لغويا) أي ولذلك قلنا: إن تعليل الشافعي في استعمال ألفاظ الطلاق في باب العناق باطل، فإنه يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت حرة ونوى به الطلاق فإنها تطلق بالإجماع فيجب على قياس ذلك أن المولى إذا قال لأمته: أنت طالق ونوى به الحرية أن يصح ذلك وتعتق.

قلنا: هذا باطل، لأن التعليل شرع لإثبات حكم شرعي، وإنما هذا من باب استعارة الألفاظ بعضها لبعض وذلك من باب اللغة، ثم قلنا: إن ذلك الذي ذكره لم يصح من حيث الاستعارة أيضًا، لأن الاستعارة إنما تصح عنه المشابهة بين المستعار منه وبين المستعار له في الوصف الخاص، ولا مشابهة بين العناق والطلاق في الوصف الخاص، لأن الإعتاق عبارة عن إحداث القوة التي يحصل بها صفة المالكية.

ص: 1691

والطلاق عبارة عن إزالة المانع من الانطلاق، ولا مشابهة بين إحداث القوة وإزالة المانع فلا تصح الاستعارة.

وأما استعمال لفظ التحرير في الطلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة معنى بل باعتبار أن ما يزيل الرقبة كان سببًا لزوال ملك المتعة فلا يكون سببًا لإزالة ملك الرقبة فلا يصلح كناية عنه.

وقوله: (وكذلك جواز النكاح بألفاظ التمليك كالهبة والبيع واستعارة كلمة النسب للتحرير) كما إذا قال لعبده: هذا ابني أي كان باطلًا، لأنه معطوف على ما قبله، وفيه لفظ البطلان، وكذلك ذكر شمس الأئمة رحمه الله فقال: وكذلك الاشتغال بالقياس لإثبات الاستعارة في ألفاظ التمليك للنكاح يكون اشتغلًا بما لا معنى له.

فإن قلت: ما وجه ذكر البطلان في هاتين المسألتين مع أن علماءنا رحمهم الله اتفقوا على جواز المولى إذا قال لعبده: هذا ابني، وهو ممن يولد مثله لمثله يعتق بالاتفاق؟

قلت: ذكر البطلان في هاتين المسألتين من حيث المقايسة بأن يقال: لما جاز

ص: 1692

النكاح بلفظ النكاح والتزويج وجب أن يجوز بألفاظ التمليك بالقياس عليه، وكذلك في قياس لفظ النسب على لفظ التحرير لا من حيث ذكر السبب وإرادة المسبب بطريقه الكناية على ما صرح به الإمام شمس الأئمة رحمه الله في "المبسوط"، وقي "أصول الفقه" فقال في باب الهبة من نكاح "المبسوط": والمعنى فيه أن هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة والتمليك كملك اليمين، ثم قال: وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة، لأن صلاحية اللفظ كناية عن غيره ليس بحكم شرعي ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك النظر في كلام أهل اللغة، وهذا إشارة إلى مذهبهم في الاستعارة، لأنهم يستعيرون اللفظ لغيره لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال:(إني أراني أعصر خمرا) أي عنبًا، فبالعصر يصير خمرًا، وكذلك النبات يسمى سماء، لأنه نبت بسبب المطر الذي ينزل من السحاب- فالعرب تسمى السحاب سماءً- فإذا ثبت هذا فنقول: هذه الألفاظ سبب لملك الرقبة وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببًا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة.

وذكر في عتق "المبسوط" وإن قال: هذا ابني ومثله يولد لمثله يعتق ويثبت نسبه منه، لأن المحل لما كان قابلًا للنسب وهو محتاج إلى النسب يثبت نسبه

ص: 1693

منه والنسب لا يثبت مقصورًا على الحال بل إنما يثبت من وقت العلوق، فتبين أنه ملك ولده فعتق عليه، وكذلك لو كان نسبه معروفا من الغير يعتق عليه وإن لم يثبت نسبه، لأنه مكذب شرعًا فيه حتى ثبت نسبه من الغير، ولكن هذا التكذيب في حكم النسب دون العتق فهو في حكم العتق بمنزلة من لا نسب له فإن المرء مؤاخذ بزعمه، وفي زعمه أنه عتق عليه من وقت العلوق فيصدق فيه.

وذكر صاحب الكتاب في باب الحقيقة والمجاز أنه يعتق ها هنا عملًا بحقيقته دون مجازه، لأن ذلك ممكن، فالنسب قد يثبت من زيد، ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقًا في حق نفسه.

قلت: فعلم بهذا كله أن صحة النكاح بألفاظ التمليك وثبوت التحرير بلفظ النسب لم يكونا بالقياس، ولا بالاستعارة بل صحة النكاح بألفاظ التمليك بطريق التسبيب، وصحة التحرير بلفظ النسب بطريق التصديق، وما ذكر بلفظ الاستعارة في بعض ألفاظ "المبسوط" كان هو على طريق التوسع، وفي هذا السؤال الذي سألت عنه لشبهة وقعت فيك كنت متصفًا طول الزمان بصفتك، فانكشفت الشبهة وانزاحت الريبة بهذه الأجوبة المأخوذة من ال محال المعول عليها فاغتنمها.

(وكذلك التعليل بشرط التمليك في الطعام). قاس الشافعي الطعام

ص: 1694

على الكسوة، وقال في باب الكسوة: لا تصح بدون التمليك كذا في الطعام. (فلا يكون ما يعقل بالكسوة حكمًا شرعيًا)، لأن ما يعقل بالكسوة عين الكسوة فالنص يقتضي أن تكون الكفارة عين الثوب ولم يصر عين الثوب كفارة إلا بالتمليك فيثبت التمليك ضرورة وما يعقل بالكسوة وهو الثوب لغوي لا شرعي.

وذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله: فأما الكسوة فهو عبارة عن الملبوس دون فعل اللبس ودون منفعة الثوب وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك من المسكين، فأما الإلباس فهو تمكين من الانتفاع بالملبوس.

(وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة واسم الخمر لسائر الأشربة) أي تعليل أبى يوسف ومحمد -رحمهما الله- نص الزنا لتعدية الحكم أو

ص: 1695

إثبات المساواة بينه وبين اللواطة يكون فاسدًا، لأن طريق معرفة الاسم النظر في موضوعات أهل اللغة لا الأقيسة الشرعية.

وكذلك في سائر الأشربة سوى الخمر لا يجب الحد بشرب القليل ما لم يسكر، واشتغال الخصم بتعليل نص الخمر لتعدية الحكم أو لإثبات المساواة. ويقول إنما سمي الخمر خمرًا لمخمرتها العقل وهي موجودة في سائر الأشربة فكان قليلها حرامًا، ويجب الحد بشرب القليل عند محمد والشافعي في بعض الروايات كما في الخمر فاسد، لأن الكلام في إثبات هذا الاسم لسائر الأشربة.

(والثاني: من هذه الجملة) أي من الشرط الثالث الذي هو مشتمل على الجمل (فإن حكم التعليل التعدية عندنا) فإن ثبتت التعدية يصح التعليل وإلا فيبطل لما أن شرعية الأسباب لأحكامها، فإذا لم تثبت الأحكام تبطل الأسباب كشرعية الشراء لإثبات الملك، وإذا أضيف إلى محل لا يقبله يلغو.

(فيبطل التعليل بدونه) أي بدون التعدية فالتذكير لتأويل المذكور.

ص: 1696

(حتى جوز التعليل) بالثمنية، والثمنية مقصودة على الذهب والفضة.

(مثل سائر الحجج)، والحجة ما أوجب الحكم، فبعد الإيجاب لا يخلو لو كانت الحجة عامة أوجبت الحكم على العموم وإن كانت خاصة أوجب الحكم على الخصوص، فكذلك ها هنا إن كان الوصف المؤثر خاصًا يثبت الحكم على الخصوص كالثمنية في الذهب والفضة، وإن كان الوصف عامًا يثبت الحكم على العموم كالطعم والجنس أو القدر والجنس، وهو معنى قوله:(بل يعرف ذلك بمعنى في الوصف).

فإن قلت: لو كان تعليل الذهب والفضة بالثمنية باطلًا بسبب أنها تعليل بالعلة القاصرة لوجب أن يكون تعليل علمائنا في الزكاة في مسألة الحلي

ص: 1697

بالثمنية باطلا، وقد جوز ذلك المصنف رحمه الله حيث قال في باب الركن: وهو جائز أن يكون وصفًا لازمًا مثل الثمنية جعلناها علة للزكاة في الحلي فيكيف جاز ذلك التعليل في الحلي فكيف جاز ذلك التعليل في تعليلنا وبطل في تعليل الشافعي وفي كلا المذهبين هو تعليل بالثمنية من غير تعيير؟

قلت: لا نسلم عدم التغيير بل هذا من قبيل ما اتحد صورته واختلف معناه، فإن مراد علمائنا رحمهم الله من التعليل بالثمنية في مسألة الحلي تعدية الحكم من المضروب إلى غير المضروب وسواء كان غير المضروب تبرأ مكسورًا أو حليًا مصوغًا أو حلية سيف أو منطقة أو غير ذلك ففي جميعه الزكاة إذا بلغ تعليلًا بالعلة المتعدية في حق وجوب الزكاة، والشافعي لم يوجب الزكاة في حلي النساء في أحد قوليه.

لأنه لم يعلل بالثمنية بل ألحقها بسائر أموال البذلة لكونها مباح الابتذال فلا

ص: 1698

تجب فيها الزكاة لذلك، ومراد الشافعي من التعليل بالثمنية في باب الربا قصر حكم الربا على الذهب والفضة ومنع سائر الموزونات كالحديد والرصاص من الإلحاق بهما فكان تعليله بالثمنية تعليلًا بالعلة القاصرة، ولا اعتبار لاتحاد الصورة بعد تغايرهما واختلافهما في المعنى.

ألا ترى أن المنافقين يقولون للنبي عليه السلام (نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وكذلك المخلصون أيضًا يقولون: (نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وهما من حيث الصورة واحد ولكن من حيث المعنى مختلف، فالمنافقون كاذبون قال الله تعالى:(واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والمخلصون مؤمنون على التحقيق قال الله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا).

فعلم بهذا أنه لا اعتبار لنفس التعليل بالثمنية في كونها قاصرة أو متعدية بل الاعتبار لقصد المعلل أنه أراد بالتعليل كون العلة قاصرة أو متعدية بل الاعتبار لقصد المعلل أنه أراد بالتعليل كون العلة قاصرة أو متعدية فيثبت الحكم بحسب إرادته إن كان مراده القاصر وإن مراده المتعدية فصحيح.

بل يعرف ذلك لمعنى في الوصف "أي إنما يعرف كون الوصف عله لكونه مؤثرًا في إثبات ذلك الحكم أو لكونه مخيلًا عند بعض أصحاب الشافعي أو لكونه مطردًا عند أصحاب الطرد على ما يأتي.

ص: 1699

(والنص فوق التعليل فلا يصح قطعة عنه) أي فلا يصح قطع الحكم عن النص.

فإن قيل: ثبوته بالتعليل لا يوجب انقطاع الحكم عن النص.

ألا ترى إلى صحة قولنا: القياس جائز بالنص والسنة والدليل المعقول، فلو انقطع الحكم عن الدليل المعقول عند وجود النص لما صح قولنا بالدليل المعقول بعد ذلك.

قلنا: معنى قولنا القياس جائز بالنص والسنة والدليل المعقول أي لو نظرنا إلى كل واحد منها كان هو كافيًا لإثبات جواز القياس، ولا يمكن ذلك فيما نحن فيه بل ثبوت الدليل المعقول بطريقة التبعية إذا كان مضافًا إليهما يصير المعقول مساويًا للنص، والتبع لا يساوي الأصل ولو كان مضافًا إلى المعقول انقطع الحكم عن النص وذلك لا يجوز.

(لأن التعليل لا يصلح لتغيير حكم النص به فكيف لإبطاله!) يعني أن الحكم لو كان مضافًا إلى العلة في المنصوص عليه يبقى النص ضائعًا مهملًا لا موجبًا للحكم أصلًا، وهو إبطال للنص في حق إيجاب الحكم، والوصف لا يصلح أن يكون مغيرًا لحكم الأصل كما يلزم ذلك في بصحة ظهار الذمي فأولى أن لا يصلح لإبطال حكم الأصل، ولو أضيف الحكم على الوصف في المنصوص عليه يلزم ذلك.

ص: 1700

(على أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى) لجواز أن يكون للنص وصفان:

أحدهما- لا يتعدى كالثمنية، والثاني- يتعدى كالقدر عندنا أو كان أحدهما أكثر تعديًا من الآخر كالقدر والجنس فإنه أكثر تعديًا من الطعم في المطعومات، والتعليل بالوصف الذي لا يتعدى لا يمنع التعليل بالوصف الذي يتعدى، لأنا أمرنا بالاعتبار، وبهذا الوصف أمكن الاعتبار فوجب التعليل به فيبطل دعوى فائدة اختصاص النص به، وهذا في الحاصل منع لما ادعاه الخصم من إفادة اختصاص النص به.

(ومن هذه الجملة) أي ومن جملة الشرط الثالث للقياس (أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغير).

المراد من عدم التغير هنا عدم التغير في حق الفرع يعني ينبغي أن يثبت حكم النص في لفرع على وفاق ثبوته في حق الأصل من غير تعير.

وأما اشتراط عدم تغير حكم النص في حق النص فيما يجيء في الشرط

ص: 1701

الرابع بعد هذا.

وقوله: (إن السلم الحال- يحتمل أن يكون بتشديد اللام كالدين الحال- أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا) أما اشتراط كونه موجودًا فلقوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك" وكونه مملوكًا فللإجماع، فإنهم أجمعوا على عدم جواز بيع ملك الغير بغير إذنه، وكونه مقدورا فلنهي النبي عليه السلام "عن بيع الآبق".

(وتفسيره) أي وتفسير كون الرخصة بصفة الأجل (نقل الشرط الأصلي) أي نقل الشرط الأصلي) أي نقل الشرط الأصلي في البيع وهو أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا إلى ما يقوم مقامه وهو الأجل، وهذا من قبيل إقامة السبب مقام السب والشيء يبقى تقديرًا ببقاء ما يقوم مقامه، فصار كأن الشرط الأصلي في البيع موجودًا في السلم بسبب أجل قام مقامه.

ص: 1702

والخصم متى علل لإثبات جواز السلم الحال كان ذلك منه إسقاطًا للشرط الأصلي في البيع لا إلى ما يخلفه، فكان إسقاطًا للشرط الأصلي في البيع لا إلى ما يخلفه، فكان إسقاط ل لخلف بعد سقوط الأصل، فلا يجوز التعليل به لكونه مغيرًا للحكم المقيس عليه، وهو أن الشرع رخص بطريق النقل لا بطريق الإسقاط.

وبالتعليل تصير الرخصة بطريق الإسقاط من كل وجه، فلا يجوز لكون التعليل تغييرا لحكم الأصل في الفرع (فاستقام خلفًا عنه) أي أمكن أن يكون الأجل خلفًا عن كون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا لما أن أقامه السبب مقام المسبب شائع في الشرع كإقامة نوم المضطجع مقام الحدث، فإنه لما قام مقام ال حدث صار كأن الحدث موجودًا تقديرًا حتى انتقض الوضوء به وإن لم يوجد الحدث حقيقة، وكذا السفر أقيم مقام المشقة لهذا، (والأجل يصلح) سببًا للاكتساب الذي يحصل به المبيع، وإذا كان كذلك كان ذلك مملوكًا مقدورًا تقديرًا ل قيام الأجل مقامه فيصح عند وجوده لوجود شرط جواز البيع تقديرا على ما ذكرنا.

(ومن ذلك) أي ومن التعليل الذي أوجب تغيير حكم الأصل في الفرع (في الخاطئ) وهو من ليس بقصد للفطر بل هو من اشتغل بفعل مباح له نحو المضمنة مثلًا فسبق الماء حلقه خطأ، والمكره هو أن رجلًا خوف بالسيف

ص: 1703

على القتل أو على إتلاف العضو إن لم يأكل الطعام في نهار رمضان والمكره صائم فأكله لم يكن ذلك آكلا بطريق القصد آكلا بطريق الجبر، فالشافعي قاس الخاطئ والمكره على الناسي وعلل ذلك بما قلنا.

(لم يكن صائمًا والقصد لم يوجد) أي قصد الأكل لم يوجد مع أن مرتبة الشرط وهو النية أدنى من مرتبطة الركن، فلما أثر فوات الشرط في فوات الصوم فيمن لم ينو الصوم أصلًا كان أولي أن يؤثر فوات الركن وهو الإمساك بالأكل وإن كان في حال النسيان، لكن لم يؤثر ذلك بالنص الوارد على خلاف القياس، فلا يقاس عليه غيره خصوصًا ما إذا كان بينهما فرق.

وليس لعدم القصد اثر في الوجود "أي في وجود الصوم مع قيام حقيقة العدم" أي عدم الصوم يعنى الصوم إذا عدم فعدم القصد لا يؤثر في وجود الصوم كما إ ذا لم يعلم بشهر رمضان ولم يأكل في أيامه لا يكون صائمًا مع أن عدم القصد موجود.

علم أن عدم القصد لا يؤثر في الوجود فينبغي أن لا يبقى الصوم في الخطأ مع فوات الركن بالطريق الأولى، لأنه إذا لم يعلم رمضان كان الشرط معدومًا، وقد أثرت ذلك في عدم الصوم فأولى أن يؤثر فوات الركن في انعدام الصوم في صورة الخطأ.

ص: 1704

وقوله: (لكنه لم يجعل فطرًا) متعلق بقوله: "لأن بقاء الصوم مع النسيان ليس لعدم القصد"، (وعلى هذا الأصل سقط فعل الناسي) أي على الأصل الذي قلنا وهو قوله:"لكنه لم يجعل نظرًا بالنص" وهذا تتميم لمجموع قوله: ومن ذلك قولهم في الخاطئ والمكره" لإيضاح الفرق بين الناسي وبين الخاطئ والمكره لا أن يكون نظيرا آخر لتغيير حكم النص بالتعليل ابتداء، لأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان، وعن هذا قالوا: ليس في وسع الإنسان دفع النسيان.

وإذا كان كذلك كان الإنساء من الله تعالى من غير صنع للعبد فيه فلم يكن موجبًا للضمان (فلم يصح لضمان حقه) أي حق الشرع أي الأكل ناسيًا لا يصلح لضمان حق الشرع يعنى يجب أن لا يفسد الصوم بالأكل ناسيا، لأنه لو فسد به يجب القضاء، والقضاء حق الشرع فحينئذ كان حق صاحب الشرع سببًا لضمان حقه أيضًا وهو لا يجوز.

(ومن غير جهة صاحب الحق من وجه)، لأن المكره كالآلة للمكره فإن هذا الفعل من المكره من وجه إلا أن المكره أكل بفمه وأسنانه ولم يصلح آلة للمكره في حق الأكل، فكان فعل المكره الأكل من هذا الوجه، فعلى كلا الوجهين أي في وجه اعتبار المكره ووجه اعتبار المكره لا يصلح أن يكون سببًا

ص: 1705

لسقوط حق صاحب الحق، أو نقول وإنما قال من وجه، لأن كل الأفعال بتخليق الله تعالى ولكن للعبد فعل كسب فكان فعلًا له من وجه.

(ومن ذلك أن حكم النص في الربا تحريم متناه) أي تنتهي حرمته بالمساواة، وذلك إنما يكون بالمسوي الشرعي وهو الكيل وهو حكم الأصل، ويتحقق ذلك عند تعليل الأصل بالقدر والجنس حتى لا تبقى الحرمة فيما لا يدخل تحت الكيل.

وأما إذا علل الأصل وهو حديث الربا بالطعم في الأشياء الأربعة لا تنتهي تلك الحرمة أبدًا، لأنه ما من جزء إلا وتتحقق فيه حرمه الربا حينئذ، حتى لو باع حفنة من حنطة بحفنة منها أو بحفنتين أو أقل منها لم يجز البيع على قول الخصم.

وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله إنا لا نجوز تعليل نص الربا في الأشياء الأربعة بالطعم، لأن الحكم في النصوص كلها إثبات حرمة متناهية بالتساوي وصفة الطعم توجب تعدية الحكم إلى محال تكون الحرمة فيها مطلقة غير متناهية وهي المطعومات التي لا تدخل تحت المعيار فعرفنا أن هذا ال وصف لا يوجب تعدية حكم النص بعينه إذ الحرمة المتناهية غير الحرمة المؤبدة.

ص: 1706

ألا ترى أن الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة غير الحرمة الثابتة بالتطبيقات الثلاث.

(ومن ذلك قولهم في تعيين النقود) أي ومن التعليل الذي أوجب تغيير حكم الأصل في الفرع قولهم في تعيين النقود، والمعنى من تعيين النقود هو أن المشترى لو اشترى شيئًا بدراهم معينة فحسبها وأعطى البائع مثلها ليس له أن يأبى ذلك عندنا، وعند زفر والشافعي له أن يأبى ذلك، ولو هلكت تلك الدراهم أو استحقت لم يبطل البيع عندنا وعندهما يبطل.

(إنه تصرف حصل من أهله مضافًا إلى محله مفيدًا في نفسه فيصح كتعيين السلع).

أما كونه أهلًا فلان الكلام ف يمن تصرف وهو عاقل بالغ والأهلية بالعقل والبلوغ.

وأما كونه محلًا فلأن الدراهم والدنانير محل للتعين. ألا ترى أنها تتعين في الودائع والغصوب حتى إن الغاصب لو أراد حبس الدراهم المغصوبة فرد مثلها لم يكن له ذلك، وكذلك في الهبة تتعين حتى يكون للواهب الرجوع في عينها لا في غيرها والتعيين مفيدًا أيضًا أي للبائع

ص: 1707

والمشتري.

أما للبائع فلأنه إذا ملك الدراهم المعينة كان هو أحق بها من سائر غرماء المشتري بعد موته، ولا يملك المشتري إبطال حقه، وكذلك تفيد البائع فيما إذا كانت الدراهم المعينة أجود الدراهم.

وأما منفعة المشتري فمن حيث إنه لا يطالب بشيء آخر إذا هلكت الدراهم المتعينة في يده وتكون ذمته فارغة عن الدين وصحة التصرفات تابعة للفائدة. ألا ترى أن الرجل لو اشترى عبد نفسه لا يصح مع وجود الأهلية والمحلية لكونه غير مفيد حتى لو كان مفيدًا صح أيضًا بأنه لو اشترى عبد نفسه مع عبد غيره بثمن معلوم صح ودخل عبده في البيع لحصول الفائدة، وهو انقسام الثمن عليهما، وكذلك لو اشترى رب المال مال نفسه من المضارب صح لوجود الفائدة، وهو استحقاق يده على ذلك المال الذى اشتراه.

قلنا: أما دعوى الفائدة فإنها فاسدة، لأن الفائدة إنما تعتبر إذا كانت فيما هو المقصود بالعقد، وفيما هو المقصود بالعقد ملك المال الدين أكمل من العين وبالتعيين ينتقض، فإنه إن استحق المعين أو هلك بطل ملكه، وإذا ثبت دينا في الذمة لا يتصور هلاكه ولا بطلان الملك بالاستحقاق، ولأن التعيين لا يفيد جواز العقد، فإن العقد جائز بتسمية الدراهم المطلقة من غير التعيين والمقصود بالعقد الربح، وذلك يحصل بقدر الدراهم لا بعينها فإنه ليس في عين الدراهم والدنانير مقصود إنما المقصود المالية، والمالية باعتبار الرواج في الأسواق وعينها ومثلها لا يختلفان في هذا المعني، فعرفنا أن التعيين غير مفيد

ص: 1708

فيما هو المطلوب بالعقد، وبه فارق المكيل والموزون، فالتعيين هناك مفيد لجواز العقد، لأن العقد بدون التعيين لا يجوز إلا بذكر الوصف وربما يعجز عن أعلام الوصف فيسقط ذلك عن نفسه بالتعيين.

وقوله: (هذا تغيير لحكم الأصل) يعني به حكم الأصل في الشرع وهو كون الثمن دينا في الذمة حكمًا أصليًا في الشرع غير ضروري، (لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها لا وجودها) معناه أن تعيين المبيع ووجوده قبل البيع شرط صحة البيع، والحكم في البيع وجوب الملك في العين وكان العين محلًا لثبوت الملك فيها، (وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معًا). معناه أن حكم الشرع في البيع في جانب الأثمان وجود الثمن ووجوبه في الذمة، لأن الدراهم والدنايير لم تكن موجودة في الذمة قبل البيع فتوجد بعد البيع على صفة الوجوب فكان وجودها ووجوبها حكمًا للبيع والجواب غير الوجود.

ألا ترى أن العين موجودة والوجوب منفك عنه، ثم يثبت وجوب التسليم فيه بعد البيع.

ألا ترى أنه يقال: دين واجب وموجود في الذمة فلو كان الوجوب عين الوجود لكان معناه موجود وموجود في الذمة وهذا خلف من القول، فعلم أن

ص: 1709

الوجوب معنى وراء الوجود لما أن الدين يصح أن يوجد فيه الذمة على وجه الاستحباب لا على وجه الوجوب، وفيه إشكال وهو أن الحكم معنى والوجوب معنى فكيف يقوم المعنى مع أن المعنى يقوم بغيره فكيف يقوم به غيره؟

قلنا: للأحكام الشرعية حكم الجوهر حتى يقال: بقى لزيد ملك ثابت متقرر، واستدلوا على بقاء الأحكام الشرعية من قوله تعالى:(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) والاستدلال من وجهين.

أحدهما بالمجيء بالفعل الذى هو عبارة عن النقل، والذي يقبل النقل هو الجواهر لا الأغراض.

والثاني- أن الله تعالى جعل الأعيان المؤبدة وهي الجنان بمقابلة الحسنة وهي الفعل الصالح، ف لولا أن الله تعالى لم يجعل للحسنة حكم البقاء لما جعل الأعيان لها.

(بدلالة ثبوتها في الذمة ديونًا بلا ضرورة) وهذا تقرير ما سبق من القاعدة الممهدة وهو كون وجود الثمن ووجوبه فى الذمة حكمًا أصليًا في البيع غير متعلق بالعوارض على مثال العزيمة في الأحكام. ألا ترى أن من اشترى بدراهم غير عين وفي يده دراهم صح البيع وثبت في الذمة، فلو لم يكن وجود الدين في الذمة ابتداءً حكمًا أصليًا لما جاز بدون الضرورة، ولحقه

ص: 1710

إنكار من الشرع كما في السلعة فإنه إذا باع شيئًا غير عين لا يجوز حيث لحقه التغيير من الشرع، فصار قوله:"دينًا بلا ضرورة" احترازًا عن السلم فإن الأعيان مثل الحنطة والشعير إنما تصير دينا في السلم بضرورة ورود الرخصة في حقه بالسنة.

وأراد بالضرورة الرخصة (وبدلالة جواز الاستبدال لها وهي ديون) أي جواز الاستبدال لها بالثمن الذى هو الدراهم والدنانير دليل على أن كونها في الذمة حكم أصلي إذ لو يكن أصليًا بل كانت العينية فيه أصلًا ثم العدول عنه إلى الدين بطريق الضرورة لما صح الاستبدال به كما لا يصح الاستبدال بالمسلم فيه إذا العينية فيه أصل وثبوته في الذمة بطريق الضرورة فاقتصر على جواز العقد فلم تظهر الدينية فيما وراءه.

وتبقى على العينية فيما وراء جواز العقد حتى لم يجز الاستبدال بها لمسلم بالمسلم فيه لما ذكرنا أن الثابت بطريق بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة، فلما ظهر جواز الاستبدال في الدراهم والدنانير.

علم أن الدينية فيها أصل حيث وجوبها في الذمة على الإطلاق.

(ولم تجعل في حكم الأعيان فيما وراء الرخصة) هذا تأكيد لما سبق وذلك أن المسلم فيه في حكم العين فيما وراء الرخصة.

وهي جواز السلم، لأن العينية فيه أصل والدينية عارضة فظهر ذلك في الجواز لا فيما وراءه بل جعل فيما وراءه في حكم العينية فلم يجز الاستبدال به

ص: 1711

ولم يجعل مثل هذا في الأثمان بل تثبت هي دينًا مطلقًا فجاز الاستبدال بها.

(وبدلالة أنه لم يجبرها هذا النقص بقبض ما يقابله) معناه إن غير العينية نقص بالنسبة إلى العينية.

ألا ترى أن بيع درهم عين بدرهم غير عين لا يجوز، وفي المسلم لما كان غير العينية في المسلم فيه ضروريًا جبر هذا النقص بقبض ما يقابله وهو قبض رأس المال في المجلس، وحيث لم يجبر هذا النقص في الثمن بقبض ما يقابله وهو المبيع، علم أن كون الثمن دينًا في الذمة هو الحكم الأصلي لا العارضي.

(فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطًا) يعني: "دراهم ودنانير اكر بتعيين معين شود حكم شرط شود" يعني أن الحكم الأصلي في البيع في جانب الآثمان وجودها ووجوبها في الذمة بسبب البيع وهذا حكم لها يثبت بالبيع، فلو صح التعيين كما في السلع لخرج وجود الثمن من أن يكون حكمًا للبيع وصار وجوده شرطًا لصحة البيع ومحلًا لوجوب الملك فيه كما أن وجود السلعة شرطً لوجوب الملك فيه فانقلب ما هو حكم لبيع شرطًا له.

فالحكم يقتضي التأخر والشرط يقتضي التقدم، والحكم أثر للبيع يظهر ذلك بعد صحته ووجوده، والشرط مصحح لجواز البيع يشترط وجوده قبله

ص: 1712

فأي تغيير أقوى من هذا، فتبين بهذا أنه ليس من هذا التعليل تعديه حكم النص بعينة بل إثبات حكم آخر في الفرع مخالفًا لحم النص.

(وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي فصار تغييرًا للحرمة المتناهية بالكفارة في الأصل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية).

بيان هذا أن الحرمة بإظهار حرمة تنتهي بالكفارة فكانت حرمة مؤقتة متناهية، والكافر ليس بأهل للكفارة على الإطلاق، لأنه ليس بأهل للصوم، أو لأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة وهو ليس بأهل للعبادة، فلو صح ظهار الذمي لثبتت الحرمة في حقه مطلقة لا مؤقتة، فلذلك قلنا: أنه لو ثبت هذا الفرع وهو ظهار الذمي بهذا الطرق يلزم تغيير حكم الأصل الذى هو ظهار المسلم حيث لم يثبت الحكم في الفرع على وفاق الحكم في الأصل.

(وذلك مثل ما قلنا في تعدية الحكم من الناسي في الفطر إلى الخاطئ والمكره).

فإن قلت: كيف جعلت صورة تعدية الحكم من الناسي إلى الخاطئ

ص: 1713

والمكره نظير الأصول الثلاثة المختلفة حيث جعلت هي أولا نظير مخالفة الشرط الثاني، وهو أن لا يكون معدولًا به عن القياس ثم جعلت نظير مخالفة كون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير ثم جعلت هاهنا نظير مخالفة كون المتعدي إلى فرع هو نظيره مع مخالفة كل واحد من هذه الأصول الثلاثة للآخر، فلو كان نظيرًا لأحد المخالفين لا يكون نظيرًا للآخر لوجود المخالفة بينهما.

قلت: جعلت هذه نظيرًا لكل واحد م هذه الأصول الثلاثة لانتزاع كل منها إلى ما يشابهه، فإن فيها ما يشابه كل واحد منها، وقد ذكرنا مخالفة كل واحد من ذينك الأصليين الأولين، فإن القول ببقاء الصوم مع فوات ركنه كان معدولًا به عن القياس فلا تجوز التعدية في مثله، وكذلك لو عديناها إلى الخاطئ والمكره لا يكون المعتدي حكم النص بعينه من غير تغير.

فإن حكم النص في الناسي وهو الأصل منسوب إلى صاحب الحق، وليس بمنسوب إلى صاحب الحق في الخاطئ والمكره، ثم لو قلنا مع ذلك بجوازه يلزم تغيير حكم النص، وهذا التعليل أيضًا متضمن لعدم كون حكم الفرع نظير لحكم الأصل فكانت نظيرة للثلاث بهذا الطريق، وليس ببعيد أن يجتمع في الشيء الواحد أوصاف مختلفة.

فتثبت الأحكام بحسب تلك الأوصاف كمن شرب خمر الذمي متعمدًا

ص: 1714

في نهار رمضان وهو صائم وكان حلف أن لا يشرب خمرًا ففيه تثبت أحكام ستة، وهو من حيث إنه شرب الخمر شيء واحد، وقد ذكرناه غير مرة في مواضع.

ألا ترى أن صاحب الكتاب وغيره كيف أدار قوله: مسح في الوضوء فلا يسن فيه التثليث على أصول مختلفة، لأن التيمم تلويث بحقيقته فلا يكون رافعًا للحدث حقيقة بخلاف الطهارة بالماء.

(فلما خلق من مائهما تعدى إليهما) فلذلك انتسب الولد بكماله إلى الأب وانتسب أيضًا بكماله إلى الأم، فيلزم من هذا أن يصير جزء المرأة جزء الزوج، وجزء الزوج جزء المرأة.

وهو معنى ما قال (كأنهما صارا شخصًا واحدًا) في حصول ما هو المقصود من النكاح، كزوجي باب وزوجي خف وهما باب واحد وخف واحد اعتبارًا لتعلق ما هو المقصود من النكاح بهما، فعلى هذا ينبغي أن تحرم

ص: 1715

المرأة على الزوج بصيرورتها جزء للزوج إلا أن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع.

ألا ترى كيف حلت حواء لآدم عليه السلام وهي جزؤه حقيقة قال تعالى: (وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا).

(ثم تعدي ذلك) أي التحريم بحرمة المصاهرة (إلى سببه) أي إلى سبب الولد (فصار عاملًا بمعنى الأصل) أي فصار الوطء عاملًا في إثبات حرمه المصاهرة بمعنى الولد لا بمعنى نفسه، أي الوطء عمل الولد لا عمل نفسه لقيامه مقام الولد كالتراب لما قام مقام الماء عمل النائب وهو التراب عمل المنوب وهو الماء، لأن الشيء إذا أقيم مقام غيره يعتبر فيه صفة الأصل لا صفة نفسه كالنوم يقوم مقام الحدث.

والسفر يقوم مقام المشقة، فلذلك لم يقل إن الوطء الحلال يصلح سببًا لاستجلاب كرامة حرمة المصاهرة لا الوطء الحرام، لأن الوطء قام مقام الولد لا باعتبار أنه حلال ولا باعتبار أنه حرام بل باعتبار كونه مفضيًا إلى الولد، وعن هذا ذكر في "الزيادات" أن الوطء في الموضع المكروه لا يوجب حرمة المصاهرة لعدم إفضائه إلى الولد.

ص: 1716

وكذلك أيضًا قال الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام -رحمهما الله-: إنه إذا مس امرأةً بشهوة فأنزل لا يكون هو موجبًا لحرمة المصاهرة فلما كان الاعتبار للولد، وفي الولد لا عصيان ولا عدوان، والوطء قائم مقامه كان الاعتبار للوطء نفسه من غير نظر إلى حله وحرمته في إيجاب حرمة المصاهرة.

وهو معنى قوله: (فلم يجز تخصيه لمعني في نفسه وهو الحل) يعني لا يجوز أن تكون حرمة المصاهرة مختصة بالوطء الحلال. (ولا إبطال الحكم) وهو حرمة المصاهرة لمعنى في الوطء وهو الحرمة، (وصار هذا مثل قولنا في الغصب) يعني أن ثبوت ملك المغصوب للغاصب ليس بالغصب عينه حتى يقال إنه حرام لا يجوز أن تثبت به نعمة وهي الملك بل نقول: إن الملك إنما ثبت للغاصب لكونه شرطًا لوجوب الضمان عليه والشروط اتباع، فكان ثبوت الملك شرطًا لما هو مشروع، وهو الضمان فأخذ حكمه لكونه تبعًا له.

وقوله: (إنه من أسباب الملك تبعًا لوجوب ضمان الغصب لا أصلًا) أي

ص: 1717

إن الغضب من أسباب الملك على وجه التبعية فيه صفة المتبوع وهو الضمان لا صفة التابع وهو ثبوت الملك للغاصب، (فثبت بشروط الأصل) أي فثبت الملك للغاصب بسبب شروط وجوب الضمان عليه، لأن وجوب الضمان على الغاصب للمالك يقتضي فوات الملك عن المالك، لأن الضمان جابر للغائب أجمعنا واتفقنا على وجوب الضمان على الغاصب.

ثم لو لم نقل بفوات الملك عن ال مالك يلزم أن نقوم بثبوت الجابر للمالك مع بقاء المجبور على ملكه، وهو لا يصح لاقتضاء ذلك اجتماع العوض والمعوض عنه في ملك رجل واحد وهو غير جائر.

(فكان هذا الأصل مجمعًا عليه في الحرمات التي بنيت على الاحتياط) يعني قيام السبب مقام المسبب في الشيء الذي بني على الاحتياط أصل مجمع عليه.

(فأما النسب فلم يبن على مثل هذا الاحتياط، فوجب قطع النسب عند الاشتباه) أي لم يثبت نسب الولد المخلوق من ماء الزنا للزاني إذ لو ثبت لاشتبهت الأنساب، فلا يدرى من الوالد لاحتمال أن تزني المرأة بعدد من الرجال فاشتبهت الأنساب، فالشارع قطع النسب عن الزاني لهذه الحكمة

ص: 1718

البالغة، (ولا يلزم على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الأخوة والأخوات ونحوهم) يعني لا يلزم على ما ذكرنا من التعليل هو أنهما صارا كشخص واحد أن تصير أختها كأخته وأخوه كأخيها، (لأن التعليل لا يعمل في تغيير الأصول) يعني أن تعليلنا يقتضي حرمة مؤبدة ممتدة، والأصول أثبتت حرمة أخوات الزوجة وأخوة الزوج مؤقتة متناهية والتعليل أبدًا يعتبر إذا لم يكن فيه تغيير النص، فلم تكن العلة عند وود النص موجودة معنى، فكان عدم الحكم لعدم العلة لا لوجود العلة، فلم يكن هذا تخصيص العلة.

وقوله: (في كفارة القتل العمد) أي عدى الشافعي وجوب الكفارة من القتل الخطأ إلى القتل العمد مع أن في القتل العمد نصًا في أنه لا كفارة فيه وهو قوله عليه السلام: (خمس من الكبائر لا كفارة فيهن -وعد منها- القتل العمد).

ص: 1719

(وكذلك في اليمين الغموس) حيث عد الشافعي وجوب الكفارة من اليمين المنعقدة إلى الغموس مع أن النص موجود في الفرع الذي هو الغموس بأنه لا كفارة فيه، وهو أيضًا من لك الخمس التي ذكرنا.

(وشرط الإيمان في مصرف الصدقات اعتبارًا بالزكاة) أي اشترط الشافعي صفة الإيمان في مصرف الصدقات الواجبة سوى الزكاة مثل صدقة الفطر أو الكفارات قلنا: لا يصح ذلك، لأن النص موجود في الفرع وهو يدل على جواز الصرف إلى الكافر، وهو قوله تعالى:(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ).

(ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات) أي عدى الشافعي اشتراط التمليك من الكسوة إلى الإطعام، مع أن في الفرع وهو الإطعام نصًا يدل على جوازه بدون التمليك.

وهو قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) والإطعام فعل متعد لازمه الطعم وهو الأكل وهو لا ينبئ عن الملك فلا يكون الإطعام تمليكًا بل إيكالًا، والإيكال لا يحتاج إلى اشتراط التمليك، فكان اشتراط التمليك

ص: 1720

شرطًا يخالف النص.

(وشرط الإيمان في كفارة اليمين والظهار) أي عدى الشافعي اشتراط صفة الإيمان في الرقبة من كفارة القتل إلى كفارة اليمين والظهار مع أن فيهما نصًا مطلقًا يقتضي جواز تحرير الرقبة فيهما بدون صفة الإيمان فيها وهو قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إلى قوله: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) في اليمين، وقوله تعالى:(والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) في الظهار بدون ذكر الإيمان.

فكان اشتراط الإيمان في الرقبة فيهما شرطًا يخالف النص، فتقييد إطلاق النص تغيير له كإطلاق المقيد، فإطلاق المقيد باطل بالإجماع فكذا عكسه، لما أن المطلق مكن العمل من غير زيادة فيه، فكانت الزيادة بعد إمكان العمل به تغييرًا له لا محالة.

(وأما الشرط الرابع وهو أن يبقى حكم النص على ما كان قبل التعليل) أي لا يتغير حكم النص في نفسه بسبب التعليل، والذي ذكر قبله

ص: 1721

بقوله: ومن هذه الجملة أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير كان ذلك التغيير يلحق النص في حق الفرع كما في السلم الحال، وهذا الذي ذكره في الشرط الرابع تغيير يحلق النص في نفسه وهو باطل أيضًا.

وهذا لأنه لما ثبت أن التعليل لا يجوز أن يكون مغيرًا حكم الأصل في نفسه، ففي كل موضع لا يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله فذلك التعليل يكون باطلًا ل كونه مغيرًا لحكم الأصل.

كذا قاله الإمام شمس الأئمة رحمه الله.

(وقوله: كما أبطلنا في الفروع) إشارة إلى ما ذكر بقوله: "من ذلك ما قلنا إن السلم الحال باطل".

وكذلك ما بعده من الأحكام أي كما ذكرنا بطلان تعليل يوجب تغيير حكم النص في حق الفروع، فلذلك نذكر بطلان تعليل يوجب تغيير الحكم النص في حق نفسه، والمراد من النص الأصل ثم سواء كان ذلك الأصل بالنص أو بالإجماع. بيان ذلك أن التعليل لجواز السلم الحال يوجب أن يتغير

ص: 1722

حكم الأصل في حق الفرع، لأن من شرط جواز البيع الذي هو الأصل أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدور التسليم، ثم الأجل في الفرع وهو السلم قام مقام ذلك الشرط.

فالقول بجواز السلم الحال مسقط لذلك الشرط في حق الفرع، فكان ذلك تغيرًا لحكم الأصل في شرطه في حق الفرع. وأما القول باشتراط التمليك في طعام الكفارة بالتعليل فهو تغيير لحكم النص في نفسه والأصل وهو قوله تعالى:(فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) وهو ظاهر على ما ذكر في الكتاب إلا لا يبقى الإطعام إطعامًا بعد التعليل بالتمليك، فكان (تغييرا في نفس النص فوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة حدًا) أي من حيث الحد، وهو يبطل شهادة القاذف من حيث الفسق حتى قبل شهادته بعد التوب، فجعل بعض الحد حدًا، لأن كل الحد الجلد ورد الشهادة، فجعل هو الجلد كل الحد بالتعليل.

فقال: هو محدود في كبير فتقبل شهادته بعد التوبة كالمحدود في الزنا وشرب الخرم، والنص جعله بعض الحد، فعلى هذا كان قوله:"لأن الوقت من الأبد بضعه" تعليلًا لمعلل محذوف تقديره: وقبل شهادة القاذف بعد التوبة، والنص رد شهادته مؤبدًا، فكان تعليله تغييرًا للنص، لأن الرد

ص: 1723

المؤقت بعض الرد المؤبد، والنص رد شهادته مؤبدًا، أو معنى قوله:"فجعل بعض الحد حدًا" إن الله تعالى جعل رد الشهادة مؤبدًا مع الجلد كل الحد، فلما قبل الشافعي شهادة القاذف بعد التوبة كان ردًا لشهادته مؤقتًا من الأبد بعضه، فكان المعلل حينئذ مذكور وهو الأوجه لصحته بدون الإدراج.

(وأثبت الرد بنفس القذف بدون مدة العجز، وهو تغيير لحكم النص) يعني أن الشافعي رد شهادة القاذف بنفس القذف بمنزلة سائر الجرائم المبطلة لشهادة كالزنا وغيره.

فإنه كما زنا أو شرب الخمر ترد شهادته بدون التوقف إلى شيء آخر فكذا في جريمة القذف كان تغييرًا للنص، لأن الله تعالى وقت وقف الرد إلى مدة العجز عن الإتيان بالشهود بقوله:(والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) وذلك لا يحصل بدون مدة العجز، فإثبات الرد بدون مدته تغيير لحكم النص بالتعليل.

ص: 1724

(وزاد النفي على الجلد وهو تغيير) وهذا عكس ما قبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، فإنه جعل الجلد بعض الحد، لأن كل الحد في حق زنا البكر عنده الجلد مع النفي، فكان الجلد بعض الحد، والله تعالى جعل الجلد كل الحد بقوله:(فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فالفاء للجزاء، والجزاء اسم لما تقع به الكفاية، والخصم لم يجعل الجلد كافيًا فيه فكان تغييرا للنص.

ص: 1725

(وذلك أن المستثنى منه إنما يثبت على وفق المستثنى فيما استثني من النفي) يعني أن المستثنى منه إذا حذف في الكلام إنما يجعل المستثنى منه من جنس المستثنى فيما استثني من النفي، وإنما خص النفي لأن حذف المستثني منه في الكلام إنما يصح في النفي لا في الإثبات.

والفرق فيه هو أن موضع النفي موضع التعميم، وعن هذا قيل: النكرة في موضع النفي تعم وفي الإثبات تخص، ولما كان كذلك استقام حذف المستثني منه في موضع النفي لا في موضع الإثبات، لأن أعم العام إنما يقدر عنه الحذف، ويجب أن يكون ذلك الأعم من جنس المستثنى، وذلك صحيح في موضع النفي لا في الإثبات.

ألا ترى أنك لو قلت: جاءني إلا زيد يجب عليك أن تقدر جاءني جميع بني آدم إلا زيدًا. إذ في تقدير ما دونه ترجيح أحد المتساويين على الآخر وهو باطل، لأنه يلزم ترجيحه بلا مرجح، ومجيء جميع بنى آدم إليك محال بخلاف قولك: ما جاءني إلا زيد، فإنه صحيح مستقيم، لأن تقديره: ما جاءني بنو آدم إلا زيد، ولا كلام في صحته فكذا عند الخلف، فظهر من هذا أصلًا: أحدهما- أن المستثني منه يجب أن يكون من جنس المستثنى.

ص: 1726

والثاني- أن حذف المستثنى منه إنما يصح في موضع النفي.

(وقوله عليه السلام: (لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء)). موضع النفي فكان حذف المستثني منه فيه جائزًا، والطعام ليس من جنس قوله:(إلا سواء بسواء) لأن المساواة معنى والطعام عين فلابد من إدراج أعم المعاني الذي هو من جنس المستثنى، فمن ضرورة هذا كان التقدير: لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال إلا حال التساوي.

وأحوال الطعام في البيع ثلاث: المجازفة، والمفاضلة، والمساواة فكان عموم الأحوال ثابتًا بالنص، وهذا العموم لا يثبت إلا في الكثير وهو الذي يدخل تحت الكيل إذ المجازفة إنما تحرم لاحتمال كون أحدهما فاضلًا على الآخر، وذلك لا يتصور إلا بعد اعتبار المساواة بينهما، وذلك إنما يكون بالمسوى.

ص: 1727

ثم نقول: إن المسوى هو الكيل إما بالإجماع أو بحديث آخره وهو قوله عليه السلام: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا كيلًا بكيل)) وكذلك المفاضلة إذ فضل أحدهما على الآخر لا يتصور إلا بعد اعتبار المساواة بينهما بالكيل الشرعي على ما بينا.

وكذلك المساواة إذ التسوية بالمعيار هو المراد، لأن التسوية بينهما من حيث الحبات أو من حيث الوزن أو من حيث الجودة غير مرادة بالإجماع، ولن توجد هذه الأحوال إلا فيما تدخل تحت الكيل إلا أن التعليل منا وافق لما ذكرنا من الثابت بالنص، فكان هذا التغيير مضافًا إلى النص لا إلى التعليل، وهو معنى قوله:(فصار التغيير بالنص مصاحبًا للتعليل لا به) أي لا بالتعليل.

(وإنما سقط حقه) أي حق الله تعالى (في الصورة) أي في صورة الشاة بالنص وهو قوله تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).

ص: 1728

(ثم أمر بإنجاز المواعيد) أي أمر الأغنياء إنجازها

(وذلك لا يحتمله) أي وذلك المسمي لا يحتمل الإنجاز (بأن ينجزها) أي بأن ينجز المواعيد المختلفة (مجامعًا للتعليل) أي موافقًا له، لأن الزكاة عبادة محضة، لأنها من أركان الدين الخمسة على ما قال النبي عليه السلام "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلا الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة" إلى آخره، والدين كله لله تعالى.

وبهذا يتبين خطأ من يقول بأنه الزكاة حق الفقراء مستحقة لهم شرعًا، بل الزكاة محض حق الله تعالى -على ما قلنا- إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة -رحمة الله-.

فلا تجب للعبادة بوجه، لأن المستحق للعبادة الله تعالى على الخصوص، وهذا لأن الإيمان حق الله تعالى على الخصوص ولا مدخل العبد فيه بوجه، والزكاة مخصوصة بالإيمان فكانت مخصوصة بحق الله تعالى، ولأن النصاب

ص: 1729

لو كان جارية وحال الحول عليها جاز لمولاها أن يطأها، فلو كان للفقير فيها نوع حق عينا لما جاز لمولاها أن يطأها.

(وإنما التعليل لحكم شرعي) جواب شبهة ترد على قوله: "لا بالتعليل" بأن يقال: لما لم يكن التغيير بالتعليل وجب أن لا يعلل مسألة دفع القيم في باب الزكاة فقال: التعليل لم يكن للتغيير ولكن لإظهار حكم الشرعي (وهو كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير).

وكذلك قيمتها أيضًا صالحة للتسليم إلى الفقير مع إبقاء صلاحية دفع الشاة إلى الفقير أيضًا، فلا يكون تغييرًا بل جميع مواضع الأقيسة كذلك، فإن الحكم يثبت في الفرع بعد القياس مع بقاء صلاحية الأصل أيضًا لإثبات ذلك الحكم كما كان، فلا يكون هذا تغيير للنص بل قياسًا وهذا شائع بالاتفاق.

وهذا لأن معنى الصلاحية في الشاه للصرف إلى الفقير كونها ما لا متقوما، وهذا المعنى كما هو موجود في الشاة موجود في غيرها أيضًا فيتعدى منها على غير باعتبار صلاحية الصرف إلى الفقير، وهذا هو عين القياس فلا يكون تغييرًا للنص.

وإنما التغيير فيما قاله الشافعي في إطعام الكفارة وغير ذلك، فإنه لما علل

ص: 1730

الإطعام بالتمليك لم يبق النص بمعنى الإطعام مثبتًا للحكم، فكان الإطعام متغيرا بالتعليل بالتمليك.

(وأحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها)، فإن قيل:(الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب) وإذا ثبت الخبث في الصدقة فكيف يقبل الله الخبيث؟

قلنا: تمكن الخبث في الصدقة بعد تحقيق الصدقة بالوقوع في يد الفقير فكان الخبث حكمًا للصدقة، وحكم الشيء لا يمنع تحقق سببه كإرسال الطلقات الثلاث فإنه يخرج المحل عن محلية الطلاق، وكتمليك النصاب للفقير فإنه يخرج المحل عن محلية الصدقة، ومع ذلك لا يمنع تصدق النصاب للفقير فإنه يخرج المحل عن محلية الصدق، ومع ذلك لا يمنع تصدق النصاب ابتداءً لما قلنا، فكذلك ها هنا ثبوت الخبث حكم الصدق، فلا يمنع الصدقة.

فإن قيل: لما كان هذا بمنزلة تمليك النصاب للفقير وجب أن تكره الصدقة للفقير كما تكره هنا.

ص: 1731

قلنا: تكره هناك ولا تكره ها هنا، لأن هناك المتصدق كان متمكنًا من الخروج من عهدة التصدق من غير أن تلحقه الكراهية بأن يفرق النصاب على الفقراء على وجه لا يقارب الغنى التمليك، وها هنا لا يتمكن المتصدق من التصدق على وجه لا يتحقق الخبث في حكمه فلا يكره التصدق ها هنا، فلذلك افترقا وصار كثبوت حرمة المصاهرة باعتبار الجزية حتى تعدى إلى أمهات الموطوءة وبناتها، ولم يثبت في حقا لموطوءة نفسها لعدم إمكان الاحتراز عنها مع إرادة بقاء النسل بالنكاح.

فقلنا بأن حرمة المصاهرة لم تثبت في حقها لضرورة التوالد والتناسل ولا ضرورة في سائرها، فيثبت بعد الوقوع لله تعالى في ابتداء اليد، فإن الفقير في ابتداء القبض نائب عن الله تعالىِ.

ص: 1732

(فصار صلاح الصرف إلى الفقير حكمًا شرعيًا في الشاة، فعللناه بالتقويم)، لأن ذلك الحكم الشرعي كما هو موجود في الشاة موجود في قيمتها، فيجوز صرف قيمتها إلى الفقير كجواز صرف الشاة إليه، وكان هذا تعليلًا وافقًا للنص لا يتغير به حكم النص، فكان حكم النص بعد التعليل وقبله سواء.

وقوله: (لكونه ثناء مطلقًا احتراز من قوله: "اللهم اغفر لي".

(لكن الواجب إزالة العين النجس عن الثوب، والماء آلة) صالحة لإزالة النجاسة، وسائر المائعات الطاهرة مثل الماء في هذه الصفة، فبالتعدية إلى غيره

ص: 1733

لا يتغير هذا الحكم (وهو كون الماء آلة صالحة للتطهير).

(هذا حكم شرعي في المزيل) أي كون الماء لا ينجس في ابتداء ملاقات النجاسة حكم شرعي في المزيل وهو الماء والطهارة في محل العمل وهو الثوب حكم شرعي أيضًا.

وقوله: "والطهارة" معطوف على قوله: "هذا".

فإن قيل: إن كون الماء لا ينجس في أول ملاقاته للنجاسة في الثوب حالة الاستعمال حكم اختص به الماء بطريق الضرورة فكيف يتعدى منه إلى سائر المائعات؟

قلنا: الحكم إذا ثبت بطريق الضرورة لمعنى في محل ثم شاركه غيره في ذلك المعنى والضرورة تثبت الحكم فيه كثبوته في الأصل كما في حكم بقاء طهارة المستحاضة في الوقت تعدى إلى من هو في معناها كمن به سلس البول أو الجرح الذي لا يرقأ.

وإن كان حكم بقاء طهارة المستحاضة في الوقت حكمًا ثبت على خلاف القياس فكذلك هنا هنا إن كون الماء لا ينجس حالة الاستعمال وطهارة المحل لضرورة احتياج صاحب الثوب إلى طهارته وصلاحية الماء للتطهير لمعنى القلع

ص: 1734

والإزالة، فلما شاركه غير في هذين المعنيين ثبت حكم الماء فيه أيضًا كثبوته في الماء مع بقاء صلاحية الماء لذلك، إذ المشاركة في العلة توجب المشاركة في الحكم، وهذا لأن الثوب كان طاهرًا وقد جاوره النجاسة فبإزالتهما يحصل ما في الثوب من الطهارة لما أن النجاسة إذا زالت بقي الثوب طاهرا كالدرن في الثوب الأبيض.

فبالغسل يزول الدرن فيظهر ما كان في الثوب من البياض، وكذلك صلاحية كون الماء مزيلًا للنجاسة لكونه مائعًا رقيقًا قابلًا للانعصار بالعصر وغيره إذا شاركه في هذا المعنى من كل وجه يثبت ذلك الحكم فيه أيضًا كثبوته في الماء.

(لأن عمل الماء لا يثبت ف ي محل الحدث إلا بإثبات المزال، وذلك أمر شرعي ثبت في محل العمل غير معقول).

بيانه أن اتصاف العضو بالحدث والنجاسة أمر شرعي فيه غير معقول، أي غير مدرك بالعقل معنى نجاسته، لأن هذه الأعضاء ليس بنجسه حقيقة ولا يتنجس الماء القليل بملاقاة هذا العضو إذا لم يكن له نية قربة.

ص: 1735

وكذلك جاز أكل المحدث بيده طعامًا مائعًا، فكان ما ثبت من النجاسة في هذه الأعضاء غير مدرك بالعقل وعمل الماء لا يظهر في هذه الأعضاء إلا بإثبات المزال أي بإثبات زوال ما كان في هذه الأعضاء مما يمنع التقرب إلى الله تعالى، وهذا العمل ثبت عند استعمال الماء الذي لا يبالي بخبثه.

إذ الناس لا يبالون بخبث الماء بالوضوء وبصبه في موضع النجاسات، فلم يجز إثبات هذا الحكم فيما يبالى بخبثه، وهو في نفسه أمر غير معقول المعنى بخلاف النجاسة الحقيقة إذ هي عين محسوسة، فإذا زالت عن موضعها لا تبقى فيه، وهو معقول فتعدى من الماء إلى غيره لوجود معنى الإزالة في ذلك الغير.

وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله وليس في أعضاء المحدث عين يزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانعًا حكميًا من أداء الصلاة غير معقول المعني، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعني، وقد بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر.

(ولا يلزم أن الوضوء صح مع هذا بغير النية). وجه الورود وهو أن وجوب طهارة هذه الأعضاء بالوضوء لما كان غير معقول لكون هذه الأعضاء

ص: 1736

محكومة عليها بالطهارة شرعًا لما ذكرنا كان الوضوء بمنزلة التيمم في كون وجوب الطهارة به غير معقول لعدم حصول الطهارة بكل واحد منهما عقلًا، فكان وجوب الطهارة فيهما مع ذلك أمرًا تعبديًا فتجب النية في الوضوء حينئذ كوجوبها في التيمم.

فأجاب عنه بقوله: (لأن التغير ثبت في محل العمل بوجه لا يعقل فبقي الماء بطبعه من الوجه الذي يعقل) أراد به أن تغير العضو من الطهارة إلى النجاسة معنى لا يعقل إلا أن الماء عامل بطبعه وهو معقول فلا يفتقر إلى النية، لأن ما كان طبعًا لشيء لا يتغير بالنية.

والتطهير والإزالة طبع للماء فيعمل عمله حيث ما وجد استعماله فيه فلا يفتقر إلى النية كالنار للإحراق والسكين للقطع بخلاف التراب، لأن طبعه التلويث لا الإزالة فاحتيج إلى النية ليعمل عمل الماء لا لأن النية غيرت طبعه حقيقة لكن الشرع لما أقامه مقام الماء عند إرادة الصلاة عمل عمل الماء في إثبات الطهارة وإرادة الصلاة به هي النية، فلهذا تشترط النية في التيمم دون الوضوء، والله أعلم.

ص: 1737