الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حكم العلة
لما ذكر ركن القياس وما يتعلق به شرع في بيان حكم القياس؛ لأن حكم الشيء أثر ذلك الشيء، والأثر أبدا يعقب المؤثر، (وقد ذكرنا أن التعدية حكم لازم عندنا) أي في بيان النوع الثالث من شروط القياس والتعليل للأقسام الثلاثة الأول، وهي: إثبات الموجب أو وصفه، وإثبات الشرط أو وصفه، وإثبات الحكم أو وصفه.
فإن قلت: هذا الذى ذكره يؤدي إلى سد باب القياس؛ لأن القياس شرعا إنما يجري فى هذه الأشياء الثلاثة، ولما لم يجز فى هذه الأشياء لم يبق موضع شرعي يجري فيه القياس، فحينئذ كان هذا قولا بأنه لا يجري القياس شرعا فى شيء من المواضع مع أن الأقيسة جرت في هذه المواضع.
أما فى إثبات الموجب بالقياس فهو فيمن شرع في صلاة التطوع أو في صوم التطوع يلزمه الإتمام، ولو أفسد يجب عليه قضاؤه عندنا خلافا للشافعى.
وقد قال فيه مشايخنا بالقياس، وقالوا: أن الشارع باشر فيه فعل قربة مقصودة فيجب عليه إتمامه ويلزمه القضاء بالإفساد كمن أحرم لحج التطوع.
وأما في إثبات الشرط بالقياس فقد قال مشايخنا في وجوب الوضوء في الفصد أو الحجامة: إنه خارج نجس وصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير فكان كالخارج من السبيلين.
وأما في إثبات الحكم بالقياس فقد قال مشايخنا- رحمهم الله في جواز دفع القيم فى الزكاة: إنه ملك الفقير ملا متقوما بنية الزكاة فيجوز. كما لو أدى بعيرا عن خمس من الإبل، فعلم بهذا أن الأقيسة تجرى فى هذه المواضع.
قلت: هذا الذي أوردته من النظائر هى نظائر القسم الرابع ولا كلام فى صحته، وإنما الكلام فى القياس فى هذه المواضع ما إذا قال فيه بالرأي من نفسه من غير أن يكون له أصل يقيس عليه ما وقع فيه النزاع بعلة جامعة بينهما.
وأما إذا كان لما وقع فيه النزاع معنى معلوم يجمعهما فيقيس المعلل عليه بشرائطه المذكورة كان قياسا صحيحا جائزا سواء كان ذلك في إثبات الموجب أو وصفه، أو في إثبات الشرط أو وصفه، أو في إثبات الحكم أو وصفه لوجود ما يصح فيه القياس على ما يجيء فى آخر هذا الباب بقوله:((وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له فى الشريعة أصل)) إلى آخره.
(إنما يجب الكلام فيه) أي في إثبات الموجب (بإشارة النص أو دلالته أواقتضائه).
فإن قلت: لو ثبت الموجب بهذه الأشياء كان الحكم الموجب فيه قطعيا لما أن الحكم الثابت بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه قطعي على ما مر في باب وجوه الوقوف على أحكام النظم، والكلام هنا في القياس لا في الإشارة والدلالة والاقتضاء، وقد ذكرت نظير جريان القياس في الموجب بدون أن يثبت بإشارة النص وأختيها فكيف حصر ثبوت الموجب بهذه الأشياء الثلاثة مع ثبوته بالقياس؟
قلت: الحكم الثابت بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه هنا غير الحكم الثابت بتلك الأشياء الثلاثة في باب وجوه الوقوف على أحكام النظم، فإن الأحكام ثبتت هناك بمحض إشارة النص أو دلالته أو اقتضائه من كل وجه من غير شائبة غموض فيه، بل ثبتت بتلك الأشياء صريحا.
وأما ههنا فيثبت الموجب أو الشرط أو الحكم بنوع إشارة النص أو نوع دلالته أو نوع اقتضائه لا مطلقا.
ألا ترى أنه كيف أثبت موجب حرمة النسيئة بدلالة النص التي فيها غموض وخفاء لا يدركه بعض الفقهاء مع أن الحكم الثابت بدلالة النص هو ما يدركه الفقيه وغير الفقيه لوضوحه وإنارته.
وأما ما ذكرته من نظير إثبات الموجب بالقياس فأصله مستند إلى النص
وهو قوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، ولأن الحكم الذي ثبت هنا بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه ذلك النص هو النص الذي كان ثبوته غير قطعي بدلالة ما أورده من النظائر، بخلاف الأحكام الثابتة بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه في باب وجوه الوقوف.
ألا ترى أن الإمام شمس الأئمة- رحمه الله ذكر عبارة النص هنا أيضا مع تلك الثلاثة فقال: وإنما طريق إثبات الرجوع إلى النص أو دلالته أو إشارته أو مقتضاه- إلى أن قال -: وإنما أثبت أبو حنيفة رحمه الله ذلك أي أن الوتر بمنزلة الفريضة بالنص المروي فيه وهو قوله عليه السلام: ((إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر)).
ثم قال: فكذلك طريق إثبات كون الجنس علة الرجوع إلى النص ودلالته.
وهو أنه قد ثبت بالنص حرمة الفضل الخالي عن العوض إذا كان مشروطا بالعقد، وباشتراط الأجل يتوهم فضل مال خال عن المقابلة باعتبار صفة الحلول فى أحد الجانبين، ولم يسقط اعتباره بالنص؛ لكونه حاصلا بصنع العباد بخلاف صفة الجودة فإنها يسقط اعتبارها بالحديث وهذا ليس
في معناه فلا يلحق به، وبما أورده شمس الأئمة- رحمه الله من هذا الكلام هنا يعلم ما ذكرته من المعنيين:
وهو أن الدلالة التي ذكرت هنا ليست كدلالة النص التي مر ذكرها في الوضوح.
والثاني: إن المراد من النص النص الذي هو غير قطعي في إيجاب الحكم.
وقوله: (بما ذكرنا) إشارة إلى قوله: ((بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه)) ثم ذكر في (مسألة الجنس) بالدلالة (محرما بما ذكرنا من العلة) أي إذا كان القدر والجنس موجودين تثبت حرمة حقيقة الفضل، فكذلك في مسألتنا ينبغي أن تثبت بدلالته حرمة شبهة الفضل وهو فضل النقد على النسيئة.
فإن قيل: الفضل من حيث النقدية فضل من حيث الوصف فيجعل عفوًا
كالفضل من حيث الجودة.
قلنا: بلى لكن حصل فضل النقدية بصنعنا فيمكن الاحتراز عنه.
أما الفضل من حيث الجودة فضل حصل بصنع الله تعالى من غير واسطة فعل العباد فلا يمكن الاحتراز عنه فيجعل عفوا؛ لأنا لو اعتبرنا صفة الجودة لا يمكن المساواة في الكيل.
(وقد وجدنا في النسيئة) أي في عقد النسيئة بالنقد (شبهة الفضل وهو الحلول المضاف إلى صنع العباد) وهو النقد، وقد وجدنا شبهة العلة، وذلك لأن علة الربا القدر مع الجنس وبالقدر مع الجنس تثبت المماثلة صورة ومعنى.
وهو المراد بقوله عليه السلام: ((مثلا بمثل)) فبوجود أحد هذين الوصفين تثبت المماثلة، إلا إن المدلول في عقد النسيئة بالنقد غير ثابت؛ لأن المماثلة لم توجد على الكمال وهو المراد بالنص، فكان عند وجود أحدهما وجود شبهة العلة فتثبت حرمة شبهة الفضل ضرورة.
ولا يقال بأن حقيقة الفضل لا تحرم عند وجود أحد الوصفين فلا تحرم الشبهة بدلالة النص؛ لأننا نقول هذا الذي ذكرته نوع دلالة على الحل وما ذكرناه نوع دلالة على الحرمة فرجحنا جانب الحرمة بالنص، ولأن فيما ذكرنا رعاية المناسبة بين العلة وحكمها؛ إذ إثبات أحد جزئي الحكم الذى هو مناسب لأحد جزئي العلة من المناسبة. بيان ذلك بتمامه مذكور في
((الوافي))
(فأثبتناه بدلالة النص)؛ لأن النص يدل على ثبوت الحكم عند وجود العلة، وقد وجدت العلة على ما ذكرنا من التفسير فكان ثابتا بدلالة النص.
(وأما صفة السبب) أي صفة الموجب (فمثل صفة السوم في الأنعام أيشترط للزكاة أم لا؟) فعند مالك لا يشترط، وعندنا يشترط، وهو يتمسك بظاهر إطلاق قوله عليه السلام:((في خمس من الإبل شاة (). ونحن نتمسك بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: ((ليس في الحوامل والعوامل صدقة)).
(ومثل صفة الحل في الوطء لإثبات حرمة المصاهرة) عندنا ليس بشرط وعند الشافعي شرط فإنه يتمسك بقوله عليه السلام: ((الحرام لا يحرم
الحلال)).
ونحن نتمسك بقوله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) فالنكاح للوطء حقيقة، فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن، فالتقييد يكون الوطء حلالا زيادة فلا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس.
(في صفة القتل الموجب للكفارة)، فعندنا صفة القتل الموجب للكفارة الخطأ لا غير، وعند الشافعي القتل مطلقا سواء كان عمدا أو خطأ، وهو يتمسك ههنا بدلالة النص ويقول: لما أجمعنا بوجوب الكفارة في القتل الخطأ مع قصوره في الجناية كان وجوب الكفارة في القتل العمد أولى لكماله في الجناية، ونحن نتمسك بقوله تعالى:(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، وبقوله عليه السلام:((خمس من الكبائر لا كفارة فيهن -وذكر منها- القتل العمد)).
وكذلك مثل هذا التمسك من الجانبين في صفة اليمين الموجبة للكفارة، وهو يتمسك في وجوب الكفارة في الغموس بدلالة النص، ونحن نتمسك
في عدم وجوبها بهذا الحديث
(ومثل صوم الاعتكاف) ففي الاعتكاف الواجب عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله يشترط الصوم لصحة الاعتكاف، وعند الشافعي لا يشترط. هو يتمسك بما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال:(ليس على المعتكف صوم)
ونحن نتمسك بما روى عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهما قالا: ((لا اعتكاف الا بصوم))
وأما إذا كان الاعتكاف تطوعا ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة -رحمهما الله -: لا يكون الا بالصوم ولا يكون أقل من يوم لإطلاق الحديث، فكان الصوم للاعتكاف كالطهارة للصلاة.
وفي ظاهر الرواية يجوز النفل من الاعتكاف من غير صوم؛ لأن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول وفي الواجب لا يجوز.
هذا كله من ((المبسوط)) وكذلك فى غيرها كل واحد من الطرفين يتمسك في مثل هذه الصور في تقرير مذهبه إما بالنص أو بإشارته أو بدلالته أو باقتضائه.
(ومثل الشهود في النكاح) فعند مالك لا يشترط وعند عامة العلماء يشترط.
(ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق) فعند الشافعي شرط حتى إذا خالعها ثم طلقها فى العدة لا يقع عنده، وعندنا يقع، وكذلك النكاح ليس بشرط لصحة تعليق الطلاق بالنكاح عندنا، وعند الشافعي شرط صحة التعليق بالشرط النكاح.
(فمثل اختلافهم في الركعة الواحدة) أى البتيراء؛ فإنها ليست بصلاة مشروعة عندنا، وعند الشافعي مشروعة.
(وفي صوم بعض اليوم) أي الصوم النفل ببعض اليوم مشروع أم لا؟ فعند الشافعي مشروع حتى صحت نيته بعد الزوال عنده.
(وفي حرم المدينة) فعند الشافعي للمدينة حرم، وعندنا لا حرم لها حتى حل صيدها، وقطع أشجارها عندنا وعنده لا يحل، (فمثل الاختلاف في صفة الوتر) أنه سنة أو واجب؟ (وفي صفة الأضحية) أنها سنة أو واجبة؟
(وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم أنه وثيقة لجانب الاستيفاء)، فعندنا هو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، وعند الشافعي هو أمانة ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه.
(وكاختلافهم في كيفية وجوب المهر) فعندنا في عقد النكاح بغير تسمية
المهر يجب مهر المثل بنفس العقد.
وعند الشافعي في أحد قوليه لا يجب المهر بنفس العقد، وإنما يجب المهر بالفرض بالتراضي أو بقضاء القاضي، وحتى إذا مات أحدهما قبل الدخول فلا مهر لها عنده، ومشايخهم يختلفون ف يما إذا دخل بها فأكثرهم على أنه يجب المهم بالدخول، ومنهم من يقول: لا يجب بالدخول أيضًا. والمسألتان الأخيرتان وهما مسألة الرهن والمهر في "المبسوط".
(ولا يلزم اختلاف الناس بالرأي في صوم يوم النحر).
قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: قلنا: لأنا وجدنا أصلًا متفقا عليه في كون الصوم مشروعًا فيه وهو سائر الأيام فأمكن تعدية الحكم بتعليله على الفرع، ثم يبقى وراء ذلك الكلام في أن النهي الذي جاء لمعني في صفة هذا اليوم، وهو أنه يوم عيد عمله يكون في إفساد المشروع مع بقائه في الأصل
مشروعًا، أو في رفع المشروع وانتساخه، وهذا لا نثبته بالرأي وإنما نثبته بدليل النص وهو الرجوع إلى موجب النهي أنه الانتهاء على وجه يبقى للمنتهي اختيار فيه كما قررنا.
(ألا ترى أنهم اختلفوا في التقابض في بيع الطعام بالطعام) إنما أطلق الطعام ليكون متناولًا للطعامين من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، فالخلاف فيهما واحد. ذكر هذه المسألة في "المبسوط" في الباب الأول من كتاب البيوع بعد ستة وثلاثين ورقا فقال: وإذا اشترى طعامًا بطعام مثله وترك الذي اشترى ولم يقبضه حتى افترقا فلا باس به عندنا.
وعند الشافعي- رحمه الله يبطل العقد، والتقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام ليس بشرط سواءً كان من جنسه أو من خلاف جنسه عندنا، وعند الشافعي شرط، فقال: إن العقد جمع بين البدلين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه عينا يحرم التفاضل بينهما فيشترط فيه القبض في المجلس كبيع الذهب بالفضة.
وقلنا: إن القبض حكم العقد فلا يشترط اقترانه بالعقد كالملك، فإن
الملك يجوز أن يتأخر عن حالة العقد بخيار الشرط أو نحوه.
(كما في سائر السلع)، فلما كان للذي ذكر من الدعوى أصل مقيس عليه، وله علة جامعة بينه وبين المقيس جاز القياس فكان هو حينئذ نظير القسم الرابع، فالمنصف- رحمه الله ذكر نظير القسم الرابع في مسألة التقابض في بيع الطعام بالطعام.
والإمام شمس الأئمة- رحمه الله ذكره في الاختلاف في مسح الرأس ف قال: وأما بيان القسم الرابع، فنحو الاختلاف في المسح بالرأس أنه هل يسن تثليثه؟ فإنه يوجد في الطهارة ما هو مسح ولا يكون التكرار فيه مسنونًا فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع المختلف فيه، ويوجد في أعضاء الطهارة ما يكون التكرار فيه مسنونًا بالاتفاق فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين.
ثم الكلام يقع بعد ذلك في الترجيح، وكذلك إذا وقع الاختلاف في اشتراط تعيين النية في الصوم، فإن هناك أصلًا متفقًا عليه يتأدى به الصوم بمطلق النية وهو النفل الذي هو عين مشروع في وقته فيمكن تعليل ذلك
لتعدية الحكم به إلى الفرع، وهناك أصل في الصوم الذي هو فرض لا يتأدى إلا بتعيين النية وهو صوم القضاء فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام في الترجيح بعد ذلك.
(فاقتصرنا على الإشارة إلى الجمل) أي إلى هذه الجملة التي ذكرنا.
(وأما النوع الرابع) وهو النوع الرابع الذي ذكر في أول هذا الباب بقوله: والرابع هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بأوصاف معلومة.
(فعلى وجهين في حق الحكم)، وإنما انحصر على هذين الوجهين، لأن الحكم إذا تعلق بالمعنى فلا يخلو إما أن يكون المعني جليًا أو خفيًا، فإن كان جليًا سميناه قياسًا، وإن كان خفيا سميناه استحسانا، وهذا.