المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب بيان وجوه دفع المناقضة - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٤

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب بيان وجوه دفع المناقضة

‌باب بيان وجوه دفع المناقضة

(وهو) أي معنى الوصف.

(ألا ترى أنه إذا أحدث ولم يتلطخ به بدنه لم يكن) المسح أي

ص: 1895

(الاستنجاء) بالحجر (سنة).

والدليل عليه إن الاستطابة بالماء بعد إزالة عين النجاسة بالحجر فيه أفضل، ومعلوم أن في العضو الممسوح كالرأس والخف على الرجل لا يكون الغسل بعد المسح أفضل، بل إقامة الغسل مقام المسح فيه مكروه.

(كان ظاهرًا لا خارجًا)؛ لأن الخارج هو ما يفارق مكانه، لأن الجلد إذا تقشر عن موضع ظهر ما تحته فلا يكون خارجًا، كمن يكون في البيت إذا رفع البنيان الذي كان هو مستترًا به يكون ظاهرًا لا خارجًا، وإنما يسمى خارجًا من البيت إذا فارق مكانه من الباطن إلى الظاهر.

(وأما الدفع بمعنى الوصف وذلك نوعان:)

ص: 1896

(أحدهما- ثابت بنفس الصيغة) كمعنى الخروج من لفظ الخروج، ومعنى المسح من لفظ المسح.

(والثاني- بمعناه الثابت باللفظ دلالة) يعني أن اللفظ يدل على ما ذكرنا من التأثير وهو أن المسح مؤثر في التخفيف، وظهر أثره في الشرع كالتيمم والمسح على الخف والجوارب والجبائر.

ألا ترى أنه يكره الغسل في مسح الرأس، والتكرار يقرب إلى الغسل فلا يسن، فكان اللفظ دالا على ما ذكرنا من الأثر فكان هذا المعنى ثابت به لغة وهو معنى قوله: بمعناه الثابت به دلالة، وما ذكرنا يتأتى في جميع المعاني المستنبطة من النصوص، وقد ذكرنا هذا في قول النبي عليه السلام:"الحنطة بالحنطة" إلى آخره، وكذلك هذا في الخارج الجنس من غير السبيلين الدفع

ص: 1897

أولا بما قال في الكتاب، (ولا يلزم إذا لم يسل)، لأنه ليس بخارج.

والدفع بالمعنى الثاني أن الخارج النجس له أثر في زوال الطهارة وإثبات التطهير، وما لم يسل ليس له أثر في زوال الطهارة، لأنه في معدنه.

(كالبيع يضاف إليه) أي المدبر.

وقوله: (لكنه امتنع حكمه لمانع كالبيع) هذا اللفظ بظاهره خرج على وفاق قول من يقول بجواز تخصيص العلة.

وأما على قول العامة ففي غصب المدبر يجعل أن السبب لم يوجد أصلًا فلا يتصور نقضًا.

ص: 1898

(ولا يلزم مال الباغي وما يجري مجراه) وهو إتلاف المكره بالقتل مال غيره أو مال قطاع الطرق، وكذلك دم شاهر السيف، فوجه اللزوم هو أن إتلاف مال الغير لإحياء المهجة موجود ومع ذلك انتفت عصمة المتلف حتى لا يجب الضمان على العادل إذا أتلف مال الباغي.

وكذلك لا يجب ضمان المال على من أتلف مال غيره بسبب الإكراه بالقتل.

والجواب عنهما: أن عصمة مال الباغي بطلت لمعنى آخر، وهو بغيه وتعديه قبل أن يتلفه العدل فلم يكن بطلان عصمة ماله بسبب الاستحلال لإحياء المهجة حتى ينتقض.

وكذلك عدم وجوب الضمان في صورة الإكراه على المكره، لأن المكره هناك صار بمنزلة الآلة للمكره كالسيف والخنجر لانتقال فعله إليه، ولا يجب الضمان على الآلة فكان ما قلناه من العلة (مطردًا لا منقوصًا؛ لأن غرضنا التسوية بين هذا) أي بين الخارج النجس من غير السبيلين (وذلك حدث)

ص: 1899

أي ودم الاستحاضة حدث، فإذا لزم أي دام واستمر.

(لأن غرضنا أن أصل الذكر الإخفاء) يعني أن الغرض التسوية بين التأمين وبين سائر الأذكار في أن الأصل هو الإخفاء وذلك ثابت إلا أن جهر الإمام بالتكبيرات لا لأنها ذكر بل لإعلام من خلفه بالانتقال من ركن إلى ركن والجهر بالآذان والإقامة لذلك، ولهذا لا يجهر المقتدي بالتكبيرات ولا يجهر المنفرد بالتكبيرات ولا بالآذان والإقامة فيندفع النقض ببيان الغرض المطلوب بالتعليل وهو التسوية بين هذا الذكر وبين سائر أذكار الصلاة.

(ومن صلى وحده أذن لنفسه) ولا يجهر بل إنما يؤذن على مقدار أن يسمع آذانه بنفسه.

***

ص: 1900

باب الترجيح

(الكلام في هذا الباب أربعة أضرب) ، فوجه الإنحصار فيها هو الأمر الضروري، وذلك لأن الشروع في الكلام لا يصح بدون معرفة معناه، وتمام معرفة معناه إنما يستقيم أن لو ضبط جميع وجوهه.

وعند تعارض الوجهين من وجوه الترجيح لزم معرفة المخلص منه، لأن الأصل عدم التعارض، ووجوه الترجيح في نفسها لا يخلو من وجهين:

ص: 1901

صحيح وفاسد: فلذلك أتم وجوهها ببيان الفاسد منها وجه تقديم الصحيح منه على الفاسد ظاهر أن الصحيح موجود من كل وجه بخلاف الفاسد فإنه موجود من وجه دون وجه.

وقوله: (عبارة عن أحد المثلين) توسع في العبارة؛ إذ حقيقة الترجيح إثبات الرجحان وفيما نحن فيه هو إظهار فضل أحد المثلين على الآخر.

والدليل على ما قلته ما ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله بهذه العبارة، فقال الترجيح لغة: إظهار فضل في أحد جانبى المعادلة وصفا لا أصلًا أراد بقوله: ((وصفا)) تبعا لا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره كالوصف الحقيقى للمخلقو ،فإنه عرض لا يقوم بنفسه بل يقوم بالعين كالرجحان في الميزان.

فإن المرجح فيه لا يدخل تحت الوزن منفردًا أي لا يكون له وزن بطريق

ص: 1902

الأصالة حتى إن العشرة يوزن بمقابلة العشرة مع الأحبة، ولا توضع للعشرة مع الحبة حجر على حدة بل حجر العشرة مع الحبة ،وتعارض العشرة بالعشرة مع الحبة لوجود المساواة بينهما في أصل الوزن أولًا ،ثم يثبت الرجحان للعشرة مع الحبة على العشرة المنفردة ،والرجحان أبدًا يقع بما لا عبرة له عند عدم المزيد عليه ،والجبة وإن كانت عينا تقوم بنفسها لكن لما لم يوضع لها مع العشرة حجر على حدة في الوزن كانت تبعا للعشرة كالوصف الحقيقى تبع للعين بإعتبار أنه عرض لا يقوم بنفسه بل يقوم بالعين.

(وقوله: كالدانق ونحوه في العشرة)

قال الإمام شمس الأئمة رحمه الله نحو الحبة في العشرة.

وهذا قريب منه، فإن الدائق قيراطان، ذكره في ((المغرب)) وذكر في

ص: 1903

((الصحاح)) الدانق: سدس الدرهم، والدرهم: أربعة عشر قراطًا. قال النبى عليه السلام للوزان: ((زن وارجح تمامه ،فإنا معشر الأنبياء هكذا نزن)).

(ولم يجعله هبة) فوجه التمسك به على ما ادعاه هو أن النبي عليه

ص: 1904

السلام لم يعتبر الزيادة التى يقع بها الرجحان حتى أجاز الإرجاح في الوزن في قضاء الدين أو غيره، إذ لو اعتبر تلك الزيادة لكان تلك الزيادة هبة، ولما أجاز الإرجاح بها حينئذ لكون تلك الهبة هبة مشاعًا، وهبة المشاع لا تجوز فيما يقبل القسمة وهذا منه، أو لكونه إدخال الصفقة في الصفقة أي صفقة الهبة في صفقة قضاء الدين أوفى صفقة تسليم ثمن للبائع، وإدخال الصفقة في الصفقة منهي عنه.

(وإنما يقع) الترجيح (بوصف مؤكد لمعنى الركن) وذللك في أن يتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والآخر عدلين ، فإنه يترجح الذي شهد له العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده، وكذلك في النسب أو النكاح لو ترجح حجة أحد الخصمين باتصال القضاء بها، لان ذلك مما يؤكد ركن الحجة، فإن بقضاء القاضى تمام معنى الحجة في الشهادة وتعين جانب الصدق (ولذلك لم يقع الترجيح بشاهد ثالث على الشاهدين: لانه لا يزيد الحجة قوة) ، لأن

ص: 1905

القوة ما قام به القوة، وقيام شاهد ثالث بشاهدين لا يتصور، فلا تتصور زيادة القوة، والشاهد الثالث من جنس ما يقوم به الحجة فلا يجوز به الترجيح.

فإن قلت: الوصف الأول مسلم وهو أن الشاهد الثالث لا يتصور قيامه بشاهدين، وأما الوصف الثاني وهو أن الشاهد الثالث من جنس ما يقوم به الحجة فممنوع، لأن قبول شهادة الشاهد موقوف إلى وجود شاهد آخر بالنص ،فكان الواحد مما لا يقوم به الحجة.

قلت: لا نسلم، بل شهادة إمرأة واحدة تقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال وهو ظاهر، وذكر ((الإيضاح)): كما تقبل شهادة إمرأة واحدة في الولادة تقبل شهادة رجل واحد أيضًا عليها، وهذا كله شهادة بدلالة إشتراط لفظ الشهادة واختصاص مجلس القضاء والحرية والإسلام.

(وإنما يترجح النص بقوه فيه) على ما مر ذكره وهو: أن المحكم راجح

ص: 1906

على المفسر، والمفسر راجح على النص والظاهر.

(وكذلك قلنا نحن الشفعيين في الشقص الشائع) قيد بالشيوع ليكون متقفًا عليه. (المبيع بسهمين متفاوتين) بأن كانت الدار بين ثلاثة لأحدهم نصفها، وللآخر ثلثها، وللآخر سدسها، فباع صاحب السدس نصيبه إنهما سواء في استحقاق الشفعة.

(لأنه لم يرجح الكثير) ، لأنه لو رجح صاحب الكثير لما جاز مزاحمة صاحب القليل إياه في استحقاق الشفعة، ولما أعطى له شيئًا من الشفعة لم أن المرجوح بمقابلة الراجح بمنزلة المعدوم، والمعدوم لا نصيب له من شيء.

ص: 1907

(فكان هذا منه غلطًا بأن جعل حكم العلة متولدًا من العلة) كالثمر والولد ،وهما متولدان من الشجر والأم.

وأما حكم الملك فلا يتصور تولده مع العلة ،لأن التولد يقتضى تأخر الولد عن الأم بأزمته، والحكم مع العلة يقترنان في الوجود كالضرب مع الألم والقطع مع الانقطاع.

فكذلك بطل جعل حكم العلة متولدًا من العلة ،وكذلك جعل الحكم منقسمًا على أجزاء العلة غلط أيضا، لأنه لم يثبت جميع أجزاء العلة لا يثبت الحكم أصلًا فجعل الحكم منقسمًا على أجزاء العلة قول بأن كل جزء من العلة علة لجزء من الحكم، وهذا باطل. (في ابني عم أحدهما أخ لأم)

ص: 1908

صورته أن يكون أخوان لأب وأم أو لأب لكل واحد منهما ابن ،فمات أحدهما وترك إمرأة وهى أم ابنه، فتزوج أخوه امرأته فولد له ابن، ثم مات هذا الأخ، ثم مات ابن الأخ المتوفى الأول وترك ابني عم أحدهما أخوه لأم.

(خلافًا لابن مسعود-رضى الله عنه) فإن ابن مسعود قال: يترجح ابن العم الذي هو أخ لأم: لأن لكل قرابة فيتقوى إحدى الجهتين بالجهة الأخرى بمنزلة أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب ،وإخذنا بقوله أكثر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين -لأن لعصوبة المستحقة بكونه ابن عم مخالف للمستحق للأخوة، ولهذا يكون استحقاق ابن العم العصوبة بعد استحقاق الأخ بدرجات.

والترجيح بقرابة الأم في استحقاق العصوبة إنما يكون عند اتحاد جهة

ص: 1909

العصوبة والاستواء في المنزلة كما في حق الأخرين ،فحينءذ يقع الترجيح بقرابة الأم: لأنه لا يستحق بها لعصوبة إبتداءًا ،فيجوز أن يتقوى بها علة لعصوبة في جانب الأخ لأب وأم: إذ الترجيح يكون بعد المعارضة والمساواة.

أما قرابة الأخوة فليست من جنس قرابة ابن العم حتى يتقوى بها لعصوبة الثابتة لابن العم الذي هو أخ لأم، بل يكون هذا النسب بمنزلة الزوجية، فيعتبر حال اجتماعهما في شخص واحد بحال إنفراد كل واحد من السيلين في شخص آخر: وقوله: (والمنزل واحد) وهو الأخوة.

(وليس كذلك فضل عدالة بعض الشهود على عدالة بعض) أي ليس مثل الرجحان الذي قلنا في الخبر بقوة الاتصال (مثاله) أي مثال الترجيح

ص: 1910

بقوة الأثر: (لأنه يرق ماءه على غنية وذلك حرام على كل حر) ، لأن الإرقاق إهلاك من وجه، لأن الرق أثر الكفر والكفر موت فكان الإرقاق إهلاكًا معنى.

ألا ترى أن الإمام في الأسارى يتخير بين القتل والإرقاق.

(فأما أن يزداد أثر الرق ويتسع حله فلا) ففسر ازدياد أثر الرق في التضييق في الحل إلى النصف: لان للرق أثرًا في التنصيف في النعمة والمحنة لا في التضعيف على ما يجئ بيانه إن شاء الله تعالى.

وأما أن يزداد أثر الرق في الاتساع في الحل فلا وعنده يلزم ذلك، لأن

ص: 1911

العبد قادر عنده على تزويج الأمة والحرة على ما ذكر في الكتاب، والحر ليس بقادر عليه، فيزداد أثر الرق في الاتساع في الحل على قود كلامه، لأنه يحل للعبد الحر والأمة، ولا يحل للحر إلا الحرة، فكان للحر نصف ما للعبد، فكان هذا نقض الأصول وعكس المعقول.

(حل لرسول الله عليه والسلام التسع أو إلى ما لا يتناهى).، قالت عائشة رضى الله عنها ((ما قبض رسول الله عليه السلام حتى أباح له من النساء ما شاء)).

وقوله: (لأن الإرقاق دون التضييع وذلك حائز بالعزل بإذن الحرة فالإرفاق أولى).

فإن قلت: لا نسلم قضية هذه النكتة، لأنه كم من شيء يجوز للإنسان أن يمتنع عن تحصيل أصله.

أم لو باشر في تحصيل أصله لا يجوز له أن يمتنع عن تحصيل وصه المرغوب، كصلاة التطوع فإن له أن بمتنع عن تحصيل صلاة التطوع في الأصل.

أما لو باشر في تحصيل صلاة التطوع كان عليه أن يحصل جميع شرائطها ورعاية أوصافها التى تلزم الكراهة عند فوتها، وكذلك النكاح كان للرجل أن

ص: 1912

يمتنع عن تحصيله ولو باشر تحصيله يجب عليه إحضار الشهود، وكذلك بيع الربا وسائر البياعات كان له أن يمتنع عن تحصيل أصله ولو باشر في تحصيل أصله يجب عليه تحصيل شرائط جوازه، فكذلك ها هنا جاز له أن يمتنع عن تحصيل أصل الولد بالتضييع بالعزل وغيره.

أما لو باشر في تحصيله لا يجوز له أن يمتنع عن تحصيل وصفة المرغوب وهو الحرية كما في النظائر: حيث لم يلزم من جواز الإمتناع عن الأصل جواز الإمتناع عن تحصيل وصف الكمال ،فكيف يثبت تحقيق الأولى؟

قلت: نعم كذلك، إلا أن الذي نحن بصدده ليس هو نظير ما ذكرته من المسائل، فإن ما ذكرته من المسائل ليس لها وجود شرعًا بدون تلك الشرائط التى ذكرتها، فكان في التزام أصلها شرائطها التى لا يوجد أصلها إلا بها ،فيجب عليه تحصيل تلك الشرائط لالتزامها معنى بحكم عقد الإسلام.

وأما الذي نحن بصدده فللأحرار وجود وللأرقاء وجود حسًا وشرعًا، فلم يلزم مباشرة الأصل من تحصيل الوصف، ولا شك أن وجود الأصل وهو المتبوع أولى من وجود وصفه الذي هو التبع، فلما جاز له الامتناع عن تحصيل الأصل بالتضييع بالعزل جاز له الإمتناع عن تحصيل وصفه الذي هو التبع بالطريق الأولى: لأن مرتبة التبع أدنى من مرتبة الأصل، والأولوية إنما تنشأ من دنو مرتبة التبع فينا للأصل وجود بدون ذلك التبع شرعًا، والذي

ص: 1913

نحن فيه منه.

(فإن نكاح الامة جائز لمن يملك سرية يستغني بها عنه) أي يستغني بتلك السرية عن إرقاق الولد: لأنها إذا ولدت عن مولاها يثبت النسب، ويكون الولد حرًا ،وكذلك من كان له أم ولد كان له أن يتزوج أمه مع غنيته عن إرقاق مائه ، فعلم بهذا ،فعلم بهذا أن وصفة هذا ضعيف في حاله.

(لأن الرق من الموانع أي في الجملة) ألا ترى أن نكاح الأمة على نكاح الحرة ممنوع فكانت رقية الأمة مانعة لمن تحته حرة عن تزوجها.

(وكذلك الكفر) أي من الموانع ،حتى لا يجوز للمسلمة أن تتزوج

ص: 1914

الكتابي وإن كان عكسه جائزًا.

(وأثرهما مختلف) أي أثر الرق وأثر دين الكتابى مختلف، فإن أثر الرق التنصيف، وأثر دين الكتابى الخبث في الاعتقاد لا التنصيف.

وأما الجواب عن قوله: ((فإذا اجتمعا الحق بالكفر)) ، فقلنا: لا نسلم أن

ص: 1915

كفر الكتابية يتغلظ برقها في حكم النكاح، بل الأمة الكتابية كالمسلمة في الحل بملك اليمين، فإنه لو كان يتغلط عند الاجتماع لم تحل بملك اليمين كالمجوسية لما قلنا من سقوط حرمة الإرقاق لما قلنا إنه يحل له العزل فالإرقاق أولى، لأن في العزل تضييع الأصل والوصف، وفي الارقاق تضييع الوصف، فلما جاز العزل وجب أن يجوز الإرقاق بالطريق الأولى.

فعلم بهذا أن نكاح الامة ليس بضروري، ولأن الرقيق في النصف الباقى مساو للحر، فكما أن نكاح الحرة يكون أصلًا مشروعًا لا بطريق الضرورة، فكذلك نكاح الأمة في النصف الباقى لها ونعتبره بالعبد بل أولى، لأن معنى عدم الضرورة في حق الأمة أظهر منه في حق العبد، فإنها تستمتع بمولاها بملك اليمين، والعبد لا طريق له سوى النكاح، ثم لم يجعل بقاء ما بقى في حق العبد بعد التنصيف بالرق ثابتًا بطريق الضرورة، ففي حق الأمة أولى.

(لكنه في حكم الاستحباب مثل نكاح الحرة الكتابية) يعني يستحب نكاح الحرة، ولا يستحب نكاح الأمة لا أن جواز نكاح الأمة ضروري، بل هو مطلق على ما قلنا كما قلنا في نكاح الحرة المسلمة مع نكاح الحرة الكتابية، يعني أن نكاح المسلمة مستحب، ونكاح الكتابية غير مستحب لكنه مطلق لا ضروري.

ص: 1916

فكذلك ها هنا (سوى بينهما) أي سوى بين الردة وإسلام أحد الزوجين في وقوع الفرقة يعنى بتعجيل الفرقة قبل الدخول في الفصلين وبعد الدخول عند انقضاء العدة في الفصلين، وعندنا إذا أسلم أحد الزوجين لا تقع الفرقة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول، بل يعرض الإسلام على الآخر، فإن أسلم فهما على نكاحها، وإن أبى فرق القاضى بينهما وفى ردة أحدهما تتعجل الفرقة قبل الدخول وبعده لما بينهما من المنافاة فيفوت الغرض الأصلى من النكاح وهو الإزدواج بطريقة الموافقة.

(كما في الإيلاء واللعان والجب والعنة) فإن فيها فوات

ص: 1917

أغراض النكاح، وفي اللعان يفوت أغراض النكاح، لأنه نزل عليهما أحد المكروهين إما الغضب أو اللعن، وفي موضع ينزل اللعن أو الغضب إرتفعت البركة لا محالة فيفرق القاضى بينهما إن امتنع الزوج عن التفرق.

وكذلك في الإيلاء يفوت الغرض من النكاح وهو الإزدواج بينهما، لأنه آذاها بمنع الوطء عنها لفظًا، فإذا مضى على موجب تلفظه يقع الطلاق جزاء لظلمه عليها، وكذلك في الجب والعنة يفوت الغرض الأصلى من شرعية النكاح وهو التوالد والتناسل وقضاء الشهوة بطريق الحل بالنكاح، ثم لو استديم النكاح مع ذلك ربما تميل المرأة إلى غير الزوج فتقع في الزنا فتفسد الفراش، فيفرق القاضى بينهما دفعًا للضرر عنها، وحصل من هذا كله أن سبب الفرقة في هذا كله هو دفع ضرر الظلم عنها: لان ما هو المقصود بالنكاح وهو الاستمتاع فائت شرعًا، فيجعل تفريق القاضى بعد عرض الإسلام على الذي يأبى منهما سببًا لذلك وهو قوى الأثر، ويظهر ذلك بالرجوع إلى الأصول ،فغن التفريق باللعان وبسبب الجب والعنة والإيلاء كان ثابتًا بإعتبار هذا المعنى.

(وأما الردة) فهي غير موضوعة للفرقة بدليل صحتها ،حيث لا نكاح للمرتد، وبه فارق الطلاق وإذا لم تكن موضوعة للفرقة عرفنا أن حصول

ص: 1918

الفرقة بها لكونها منافية للنكاح حكماص، وذلك وصف مؤثر، ومع وجود المنافي لا يبقى النكاح، كالمحرمية بالرضاع والمصاهرة سواء داخل بها أو لم بدخل بها، ولأن حال الاتفاق دون حال الاختلاف فلم تصح التعدية إليه في تضاد حكمين.

بيانه أن ارتداد أحدهما اختلاف في الدين وخلاف بينهما، وارتدادهما اتفاق على الكفر ،فلم تصح التعدية من الوفاق إلى الخلاف، لأن الخلاف ليس نظير الوفاق بل هو ضده، فكان فيه تعدية من أحد الضدين إلى الضد الآخر وهو لا يجوز مع أن حكمهما مختلف ،فإن الاتفاق على الكفر لا يمنع إبتداء النكاح ولا بقاءه، الاختلاف يمنع ابتداء النكاح.

فعلم بهذا أن الاتفاق على الكفر دون الاختلاف فيه في منع النكاح فلا تضح التعدية منه إلى ما فوقه.

ص: 1919

((وهذا أكثر من أن يحصى).

ومن ذلك الأكثر ما علل الشافعى في عدد الطلاق أنه معتبر بحال الزوج، لأنه هو المالك للطلاق، وعدد الملك معتبر بحال المالك.

وقلنا نحن: الطلاق تصرف يملك بالنكاح فيتقدر بقدر ملك النكاح ،وذلك يختلف باختلاف حال المرأة في الرق والحرية، لأن الملك إنما يثبت في المحل باعتبار صفة الحل، والحل الذي بتبنى عليه النكاح في حق الأمة على نصف منه في حق الحرة فبقدر ذلك يثبت الملك، ثم بقدر الملك يتمكن المالك من الإبطال، كما أن بقدر ملك اليمين التمكن من إبطاله بالعتق حتى إذا كان له عبد واحد يملك إعتافًا واحدًا ،فأن كان له عبدان يملك إعتاقين.

وكذلك يظهر أثرها بالرجوع إلى الأصول حيث يختلف باختلاف حالها كما في القسم والعدة.

ص: 1920

(وكان من قضية الركن إكماله بالإطلالة في الركوع والسجود) لا تكراره بخلاف السجدة الثانية، لأن الكلام في التكرار بطريق السنة إكمالًا للفرض، والسجدة الثانية فرض على حدة ليست بمكملة الأولى.

وبقوله: (وفي كل ما لا يعقل تطهيرًا) احترز عن مسح الإستنجاء.

(وذلك وصف خاص في الباب) أي قوله: ((صوم فرض)) وصف خاص في باب العبادة.

وقولنا: عين يعم العبادات وغيرها من الودائع والغصوب، يعني أن

ص: 1921

الوديعة إذا ردت إلى صاحب الوديعة يخرج المودع عن العهدة بأى جهة ردت لتعين حقه، وكذلك المغضوب والمبيع بيعاص وفاسدًا إذا ردا يخرج من عليه ردهما عن العهدة باى جهة ردا سواء علم صاحب الحق به أو لم يعلم.

وقوله: (وعقد الإيمان) - روي بكسر الهمزة والياء التحتانية بنقطتين- يعنى إذا أقر بالإيمان بالله تعالى بأي وجه وجد الإقرار منه طوعًا أو كرهًا في حال السكر أو في حال الصحور يحكم بأنه مؤمن بالله تعالى: لتعين فرضية الإيمان عليه، فبالإطلاق يتأجى هذا الفرض وإن لم تعين الفرضية، لأن تعين الفرض عليه يغنى عن التعيين كما قلنا في صوم رمضان -وروي بفتح الهمزة- على أنه جمع بين يمين بمعنى الحلف، يعني إذا حلف بالله أنه لا يدخل هذه الدار مثلا ً ثم دخل ناسيًا أو مخطئا أو مكرهًا، فإنه يحنث لتعينه في يمينه.

وقوله: (ونحوها) كالسيف المحلى بالذهب أو بالفضة إذا بيع بجنس الحلية ،وقد أدى بعض ثمن السيف في المجلس ثم افتراقًا يتعين المؤدى للحلية سواء أطلق أو عين أو قال من ثمنهما لتعين بدل الحلية بالقبض، وعلى هذا مسائل الصرف كثيرة.

(إنها لا تضمن مراعاة لشرط ضمان العدوان) يعني أن شرط ضمان العدوان المماثلة.

ص: 1922

قال الله تعالى: (قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)، وقال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) فلا تضمن المنافع لفوت شرطه وهو المماثلة: لأن العرض لا يماثل العين وهو الذهب والفضة وهذا ظاهر.

(أن ما يتضمن بالعقد يتضمن بالإتلاف) أي أن المنافع مما تضمن بعقد الإجازة يجب أن تكون مضمونة بالإتلاف كما في الأعيان، وإن كان فيه فضل أي في الضمان فضل وهو العينية بالدراهم أو الدنانير على المضمون وهو المنافع، فإنها عرض، ولكن ذلك الفضل إنما يجب على المتعدي وهو الغاضب.

ص: 1923

(أو إهدار على المظلوم) أي أنه ولم نوجب الضمان على الظالم مع تلك الزيادة يلزم إهدار أصل حث المغضوب منه، (ولأنه إهدار وصف) وهو إهدار العينية على الظالم (أو إهدار أصل) وهو إهدار أصل حق المغضوب منه (فكان الأول أولى) أي الإهدار الأول من النكتتين أولى من الثاني في النكتتين، فكان قوله:((فكان الأول)) راجعًا إلى الاول من كل واحدة من النكتتين.

والدليل على ما ذكرته ما ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله مفسرًا جيث قال: ثم هوى أي الشافعى- يزعم أن علته أقوى في ثبات الحكم المشهورد به عليه من وجهين:

أحدهما: أنه إذا لم يكن بد من الإضارا بأحدهما فمراعة جانب المظلوم وإلحاق الخسران بالظالم بإيجاب الزيادة عليه أولى من إهدار حق المظلوم.

والثاني: أن في إيجاب الضمان إهدار حق الظالم فيما هو وصف محض، وإذا قلنا لا يجب الضمان كان فيه إهدار حق المتلف عليه في أصل المالية، ولا شك أن الوصف دون الأصل.

ص: 1924

(ووضع الضمان على المعصوم) أي إسقاط الضمان عنه (مثل العادل يتلف مال الباغي) وماله معصوم بدليل وجوب الحفظ على الإمام (والفضل على المتعدي غير مشروع): لأن الظالم لا يظلم ولنتصف منه مع قيام حقه في ملكه، فمراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الأصل.

ألا ترى أن في القصاص الذي يبنى على المساواة التفاوت في الوصف، كالصحيحة مع الشلاء تمنع جريان القصاص، ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم وإلى ترجيح جانب الأصل على الوصف، يعني لو كان يد القاطع صحيحة ويد المقطوع شلاء فبقطع اليد الشلاء لا تقطع يد القاطع الصحيحة قصاصًا، لأن الأكمل لا يستوفى بالأنقص، ولم يقل فيه بالقطع مع أن فيه إهدار وصف في حق الظالم.

فعلم بهذا أن إهدار الفضل على المتعدى غير مشروع سواء كان ذلك في الأصل أو في الوصف، فعرفنا أن قوة القبات فيما قلنا.

وقوله: (بدون واسطة فعل العبد) احتزاز عن عقد الإجازة، فإن الجور فيه وهو إهدار الوصف بواسطة فعل العبد.

ص: 1925

(وذلك سائغ حسن) أي عدم إيجاب الضمان فيما لا يضمن بسبب عجزنا عن درك المماثلة جائز حسن كما في سجدة التلاوة إذا لم يسجد في الصلاة، وكالصلاة إذا فاتت في أيام التشريق في حق التكبير، وكذلك في حقوق العباد ما إذا أتلف مال الغير من ذوات القيم كما في الحيوانات فإن حق المتلف عليه في الصورة ساقط لعجزنا عن إثبات المماثلة في الصورة.

(والتأخير أهون من الإبطال) أي تأخير حق المغصوب منه إلى دار الجزاء أيسر من إبطال وصف مال الغاصب وهو العينية في الدراهم والدنانير، (وهذا كذلك في عامة الأحكام) أي تأخير حق المظلوم إلى دار الجزاء بسبب العجز عن إثبات المماثلة لحقه جائز ثبت ذلك.

كذلك في عامة الأحكام كما في الشتم الذي لا يوجب حد القذف، وكالضربة الواحدة التي هي غير موجبة للأرش والقصاص والغيبة والبهتان.

ثم قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله وعلى هذا قلنا: إن ملك النكاح لا يضمن بالإتلاف في الشهادة على الطلاق قبل الدخول، وملك القصاص

ص: 1926

لا يضمن بالإتلاف في الشهادة على العفو يعني أنه مؤخر إلى دار الجزاء.

(وأما ضمان العقد فباب خاص) جواب عن قوله: ((ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف)) (فكان ما قلناه أولى)؛ لأنه عام منسحب على أصول كثيرة وهو من أسباب الترجيح.

(وأما الرابع- فهو) ترجيح بعدم الحكم عند عدم الوصف.

ص: 1927

(لأن ما قلنا ينعكس في بني الأعمام)؛ لأن قرابة بني الأعمام لما لم تكن محرمة للنكاح انعدم حكم العتق فيهم بالملك: (لأن وضع الزكاة في الكافر) أي في الكافر الأجنبي لا يحل.

(أنه مبيع عين) أي أن كل واحد من الطعام مبيع عين، فكان بمعنى ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله لأنه عين بعين، وينعدم هذا الحكم وهو عدم اشتراط التقابض عند انعدام هذا الوصف وهو العينية، فإن في باب الصرف اشتراط القبض من الجانبين؛ لأنه دين بدين، وفي السلم اشتراط القبض في رأس المال؛ لأن المسلم فيه (دين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه حرم ربا الفضل) كالذهب بالذهب والفضة بالفضة.

ص: 1928

(ولا ينعكس تعليله). ألا ترى أنه يشترط قبض رأس المال في المجلس في السلم وإن جمع العقد هناك بدلين لا يحرم التفاضل إذا قوبل كل واحد منهما بجنسه، فإنه لو جعل رأس مال السلم الثوب يشترط قبضه في المجلس أيضا، وإن كان لا يحرم التفاضل عند المقابلة بجنسه.

وأما القسم الثالث: وهو بيان المخلص عند تعارض وجوه الترجيح (إن كل موجود مما يحتمل الحدوث)، وبقوله:((مما يحتمل الحدوث)) يحترز عن ذات الله تعالى، فإن اسم الموجود ينطلق عليه وهو متعال عن احتمال الحدوث.

ص: 1929

(لأن هذا راجح في ذات القرابة)؛ لأن قرابة الأخوة مقدمة على قرابة العمومة.

(والعم راجح بخالة) وهي قلة الواسطة في الذكر؛ لأنك تقول: هناك هو ابن ابن أخيه لأب وأم، وهاهنا تقول: هو عمه.

(لاستوائهما في الذات) أي في ذات قرابة الأخوة، (وكذلك العمة مع الخال لأب وأم) يعني أنهما إذا اجتمعا فللعمة الثلثان باعتبار أن المرجح في حقها معنى في ذات القرابة وهو الإدلاء بالأب، وفي الأخرى معنى في حالها

ص: 1930

وهو اتصالها من الجانبين بأم الميت.

(لأن الصنعة قائمة بذاتها من كل وجه) أي موجودة من كل وجه، ولا يراد بالقيام هاهنا ما يراد بقولهم: العين قائم بذاته، بل يراد ما يراد بقولهم العرض قائم بالعين أي موجود فيه، وبيان وجود الصنعة من كل وجه هو أن الثوب بعد الخياطة تغير هيئته واسمه المقصود منه، فتبدل الهيئة والاسم دليل على المغايرة صورة، وتبدل المقصود دليل على المغايرة معنى، وإذا ثبتت المغايرة صورة ومعنى إلى الثاني كان الثاني موجودا من كل وجه؛ إذ وجود الشيء الحادث إنما كان بصورته ومعناه.

فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام الأول؛ لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين، وإذا انعدام الأول بفعله صار ضامنا عليه وقد ملكه بالضمان.

ص: 1931

(وهي من ذلك الوجه تضاف على صنعة الغاصب) أي والعين من حيث الحدوث تضاف إلى صنعة الغاضب لتسمية العين باسم مصنوع كالقميص. والقباء دون الثوب، وهو المعنى متيلإه له: والصنعة قائمة من كل وجه والعين هالكة من كل وجه، فكان الترجيح للموجود على المعدوم.

وذكر في ((المبسوط)) فإن قيل: صاحب الثوب صاحب أصل، والغاصب صاحب وصف وهو جان، فكان مراعاة جانب الأصل أولى، فلماذا ينقطع حق صاحب الأصل؟

قلنا: لأن هذا الوصف قائم من كل وجه، والأصل قائم من وجه مستهلك من وجه؛ لأن الأصل كان ملكا للمغصوب منه مقصودا، والآن صار تبعا لملك غيره والتبع غير الأصل، ولهذا صار بحيث يستحق بالشفعة بعد أن كان منقولا لا يستحق بالشفعة، وانعدم منه سائر وجوه الانتفاع سوى هذا.

ص: 1932

وإنما يترجح الأصل إذا كان قائما من كل وجه كما في مسألة الساحة، فإنها قائمة من كل وجه، صالحة لما كانت صالحة له قبل البناء تستحق بالشفعة كما كانت من قبل، فلهذا رجحنا هناك اعتبار حق صاحب الساحة.

وقوله: (ونحوها) كما إذا غصب الحنطة فطحنها أو غصب الحديد فاتخذه سيفا أو صفرا فاتخذه آنية.

(ضم الربح على أصله) وإن بعد من الحول؛ لأن المرجح هنا معنى في الذات وهو كونه نماء ثمن الإبل ليسقط بمقابلته اعتبار الحال في المال الآخر وهو القرب من الحول، وفي الأول وهو المال المستفاد لما استوى الجانبان فيما يرجع على الذات صرنا على الترجيح باعتبار الحال.

ص: 1933

وأما الرابع: أي الرابع من التقسيم الأول المذكور في أول باب الترجيح وهو قوله: (والرابع في الفاسد من وجوه الترجيح)(ترجيح القياس بقياس آخر)؛ لأن كل واحد منهما حجة شرعية لثبوت الحكم بها، فلا يكون إحداهما مرجحة للأخرى بمنزلة زيادة العدد في الشهود، وقد ذكرنا أن ما يصلح علة لا يصلح مرجحا، نظير هذا ما لو علل المعلل من طرف الشافعي في أن صائم رمضان لو أكل أو شرب متعمدا لا تجب الكفارة.

فقال: هذا أكل حرام عليه ناقص الأثر فلا يلحق بالوقاع في الغلظة كما لو وجدا في غير الملك، فإن الأكل هناك غير ملحق بالوقاع في إيجاب الحد فكذلك الأكل هاهنا لا يلحق بالوقاع في إيجاب الكفارة، ولأن كل واحد منهما مفسد للصوم، فلا يلحق هو بالوقاع كما في الحج، فإن الأكل هناك غير ملحق بالوقاع في إفساد الحج فكذلك هاهنا لا يلحق بالوقاع في إيجاب الكفارة.

ثم قال: قياسي الأول يرجح بقياسي الثاني، هذا وأمثاله لا يصح لما قلنا عن القياس علة بنفسه فلا يصلح أن يكون مرجحاً.

ص: 1934

فإن قلت: على هذا يجب عليك أن تفرق بين ثلاثة أشياء وهي: ترجيح القياس بقياس آخر، والترجيح بغلبة الأشباه، والترجيح بكثرة الأصول، فإن هذه كلها يتراءى أنها عبارة عن معنى واحد فبين أنها هكذا أو هي أشياء متغايرة المعاني متلازقة المباني.

قلت: بلى هي أشياء متغايرة المعاني متلازقة المباني. أما ترجيح القياس بقياس آخر فهو كما أريتكه من ترجيح الشافعي قياسه الأول بالثاني، فلكل واحد من القياسين وصف على حدة وأصل على حدة مع اتحاد الحكم وهو عدم إلحاق الأكل بالوقاع.

(وأما غلبة الأشباه) فهي أن يكون لوصفه أصل واحد، ولكن لذلك الأصل أوصاف جمة تشترك بين المقيس والمقيس عليه، كما قال الشافعي في: أن الأخ لا يعتق بالملك؛ لأن قرابة الأخ قرابة غير الولاد فلا يعتق بالملك كابن العم إذا ملك، وابن العم وهو المقيس عليه واحد لكن له أوصاف جمة يشترك الأخ فيها مع ابن العم على ما ذكر في الكتاب من جواز (وضع الزكاة وحل الحليلة وقبول الشهادة ووجوب القصاص من الطرفين).

وأما الترجيح بكثرة الأصول فهو: أن يؤخذ الترجيح من قوة الوصف بأن

ص: 1935

يظهر أثر ذلك الوصف لزيادة قوته في مواضع جمة كظهور أثر المسح في إثبات التخفيف في مواضع مختلفة، وكما قال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- في الأب: إنه لا يملك تزويج ابنته الصغيرة بأقل من صداق مثلها.

قالا: لأن ولاية الأب عليها مقيدة بشرط النظر، ثم معنى الضرر في هذا

ص: 1936

العقد ظاهر فلا يملكه الأب كما لا يملك بيع مالها بالغبن الفاحش، وظهر أثر هذا الوصف أيضا في تزويج أمتها، فإن الأب لا يملك تزويج أمة الصغيرة بأقل من مهر مثلها، وظهر أيضا في حق الاعتراض، فإن ابنته لو زوجت نفسها بمثل هذا المهر فللأولياء الاعتراض.

وفي غلبة الأشباه لما كان كل شبه وصفا على حدة ولكل واحد حكم على حدة كحل الحليلة، ووضع الزكاة، وقبول الشهادة، وجريان القصاص، كان كل واحد منها بمنزلة قياس على حدة؛ فلذلك شبه ذلك بترجيح القياس بقياس آخر، فيصير هو كترجيح القياس بقياس آخر، ولم يقل هو ترجيح القياس بقياس آخر؛ لأن المقيس عليه متحد فلا يكون هو ترجيح قياس بقياس آخر حقيقة.

وحاصلة أنه إذا اتحد الحكم والوصف مع اختلاف الأصول كان الترجيح به ترجيحا بكثرة الأصول وهو صحيح؛ لأن ذلك يدل على قوة ثبات الوصف في استدعاء ذلك الحكم الذي ادعاه المعلل، ولو اختلف الوصف والأصل مع

ص: 1937

اتحاد الحكم كان الترجيح به ترجيحا بقياس آخر وهو فاسد؛ لما ذكرنا، ولو اختلف الحكم والوصف مع اتحاد الأصل كان الترجيح به ترجيحا بغلبة الأشباه فكان فاسدا أيضا؛ لأن ذلك بمنزلة ترجيح القياس بقياس آخر، فكان ترجيح القياس بقياس آخر كترجيح الخبر بالخبر والكتاب بالكتاب.

والترجيح بكثرة الأصول كان بمنزلة ترجيح الخبر بسبب الشهرة وهو صحيح، فاغتنم فروق هذه الأصول، فإن مثل هذا لا يحصل إلا بإتعاب النفس بترك التواني وإحياء الليالي.

وقوله: (وما يجري مجراه) أراد به ترجيح أحد القياسين بالخبر فإنه فاسد؛ لأن القياس متروك بالخبر ولا يكون حجة في مقابلته، والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا، وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد؛ لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص.

(يقضي على العام) أي يترجح عليه، ولأن معنى الخصوص والعموم يتبنى على الصيغة وذلك يكون في النصوص.

ص: 1938

اتحاد الحكم كان الترجيح به ترجيحا بقياس آخر وهو فاسد؛ لما ذكرنا، ولو اختلف الحكم والوصف مع اتحاد الأصل كان الترجيح به ترجيحا بغلبة الأشباه فكان فاسدا أيضا؛ لأن ذلك بمنزلة ترجيح القياس بقياس آخر، فكان ترجيح القياس بقياس آخر كترجيح الخبر بالخبر والكتاب بالكتاب.

والترجيح بكثرة الأصول كان بمنزلة ترجيح الخبر بسبب الشهرة وهو صحيح، فاغتنم فروق هذه الأصول، فإن مثل هذا لا يحصل إلا بإتعاب النفس بترك التواني وإحياء الليالي.

وقوله: (وما يجري مجراه) أراد به ترجيح أحد القياسين بالخبر فإنه فاسد؛ لأن القياس متروك بالخبر ولا يكون حجة في مقابلته، والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا، وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد؛ لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص.

(يقضي على العام) أي يترجح عليه، ولأن معنى الخصوص والعموم يبتني على الصيغة إنما يكون في النصوص.

ص: 1939

جعل نظمه حجة) وهو الكتاب، والله أعلم.

* * *

ص: 1940