الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب وجوه دفع العلل الطردية
(وهو القسم الثاني من هذا الباب) أي باب وجوه دفع العلل الطردية من باب قسم وجوه دفع العلل الذي ذكر قبل هذا بسبع أوراق بقوله: العلل قسمان: طردية، ومؤثرة. فذكر هناك وجوه دفع العلل المؤثرة، وذكر هاهنا وجوه دفع العلل الطردية، فلما قدم هناك دفع العلل المؤثرة لزم تأخير وجوه دفع العلل الطردية، فسماه قسما ثانيا وإن كان هو في التقسيم وقع أولا.
(فهو أحق بالتقديم)؛ لأنه يرفع الخلاف، فالمصير إلى المنازعة عند تعذر المصير إلى الموافقة.
وأما عند إمكان الموافقة فلا معنى للمصير إلى المنازعة (فإن غير العبارة) أي من التثليث إلى التكرار، وإنما غير إليه؛ لأن التثليث لا يقتضي اتحاد المحل على اذكر في الكتاب، والتكرار يقتضي اتحاد المحل فيحصل مقصود الخصم بهذا التغيير، لكن لا نسلم ثبوت سنة التكرار في الأصل بطريق الأصالة.
وهو معنى قوله: ((لم نسلم ذلك في الأصل)) أي لم نسلم سنية التكرار في غسل الوجه بطريق الأصالة، بل صير إليه لضرورة ضيق المحل (وتكميله بإطالته في محله إن أمكن) أي وتكميل الركن إنما يكون بإطالة الركن إذا أمكن إطالته، وإمكان إطالة الركن إنما يكون إذا لم يستغرق الفرض جميع المحل كما في مسح الرأس، فإن فرضه يحصل بمسح ربع الرأس عندنا وبما ينطلق عليه اسم المسح عند الخصم، فأمكن تكميل ذلك الفرض باستيعاب جميع الرأس بالمسح لبقاء كل جانب من جوانب الرأس لإقامة المفروض من المسح، فكان استيعاب جميعه تكميلا له كما في إطالة القيام والركوع
والسجود في الصلاة، فإن فرض القيام يحصل بمجرد ما ينطلق عليه اسم القيام فإطالته بعد ذلك كان تكميلا له، وكذلك في الركوع والسجود، ثم يرد على هذا أن القيام والركوع والسجود بعد الإطالة يجب ألا يقع المطول بعد وجود مجرد القيام والركوع والسجود فرضا كما هو كذلك في مسح الرأس عند الاستيعاب حيث يقع هناك ما وراء الربع سنة.
والفرق بينهما ما ذكر في الكتاب بعد هذا بقوله: ((والجواب أن هذا خلاف الكتاب) أعني أن في مسح الرأس الباء في الكتاب دخلت في محل المسح فاقتضت تبعيض المسح، ولا كذلك في القيام وغيره فبقى على ما اقتضاه مطلق الكتاب من فرضية جميعه، ثم عدم إمكان تكميل الركن بالإطالة إنما يكون في محل إذا استغرق الفرض جميع المحل كما في غسل الوجه حيث لم يمكن العمل هناك بما هو الأصل في تكميل الركن وهو الإطالة؛ فلذلك صرنا في تكميله إلى التكرار للضرورة.
فعلم بهذا أن التكرار في غسل الوجه في حق التكميل لم يكن بطريق الأصالة، ولا ضرورة في حق مسح الرأس؛ لعدم استغراق الفرض جميع المحل فيعمل فيه بما هو الأصل في التكميل وهو الإطالة.
فعلم بهذا أن معنى قوله: (وهو أن لا أثر للركنية في التكرار أصلا) أي بطريق الأصالة (ولا أثر لها في التكميل لا محالة) أي لا اختصاص للركنية في التكميل لا محالة؛ لأن التكميل كما هو مسنون في الركن كذلك هو مسنون في الذي ثبت رخصة كمسح الخف، فإن مسح الخف ليس بركن في الوضوء. هكذا صرح به في ((التقويم)).
وهذا لأن الركن ما يقوم به الشيء وينعدم بانعدامه، ومسح الخف شيء يجوز الوضوء بدونه؛ لأنه لو غسل قدمه لا يحتاج إلى مسح الخف.
أما غسل القدم فهو ركن في الوضوء؛ لأنه لا يجوز الوضوء بدونه إما بذاته أو بخلفه وهو المسح، وكذلك هو مسنون في الذي ثبت سنة كالمضمضة، لكن تكميلها إنما كان بالتكرار لاستيعاب سنة المضمضة جميع المحل.
وكذلك هو مسنون في الذي ثبت أصالة كغسل الرجل، فكان تكميله أيضا بالتكرار لاستيعاب الأصل جميع محل الغسل.
فعلم بهذا أن الركن وغيره سواء في استحقاق التكميل، ولم يكن للركنية اختصاص بالتكميل. (بالمحظور) وهو الغسل أي غسل الرأس وهو محظور. (فقد أدى القول بموجب العلة إلى الممانعة) أراد بالممانعة ما ذكر من قوله:((لا نسلم ذلك في الأصل)) أي كان جوابنا في التعليل الأول للخصم بطريق القول بموجب العلة وفي التعليل الثاني له كان جوابنا له بطريق المنع.
(وذلك غير مسلم على مذهبهم)؛ لأن مسح الرأس في مذهب الشافعي وأصحابه إذا وجد على وجه الاستيعاب لجميع الرأس كان كله فرضا ولا توجد السنة، فلا بد بعد وجود الفرض أن توجد السنة وذلك إنما يكون بالتكرار، وعندنا لما أدى الفرض بما مسح بعض الرأس كان استيعاب جميع الرأس بالمسح بعد ذلك سنة، فلا يحتاج بعد ذلك في إقامة السنة إلى التكرار بخلاف غسل الوجه، فإن الفرض لما استغرق محله في المرة الواحدة لم يمكن جعل بعضه سنة فاحتيج إلى إقامة السنة إلى التكرار ضرورة.
وقوله: (وإذا كان كذلك لم يلزمه شيء من هذه الوجوه) أي وإذا كان فرض مسح الرأس يستوعب جميع الرأس إذا مسح كله عند الخصم لم يلزمه ما ذكرنا من أن المسح إذا وجد بكل الرأس كان قدر ربع الرأس فرضا وما بقي وهو ثلاثة أرباع الرأس كان بمنزلة التثليث بالمسح وهو أكثر، لأنه لما وقع مسح كل الرأس عند الفرض عنده لا يكون هذا القول الذي ذكرنا عليه حجة.
وقوله: (والجواب أن هذا خلاف الكتاب) أي جعل مسح جميع الرأس فرضا خلاف الكتاب، لأن الباء دخلت في محل المسح في الكتاب فاقتضت مسح بعض المحل لا استيعابه على ما ذكر في حروف المعاني.
فإن قلت: فمن أين وقع الفرق عندنا بين مسح جميع الرأس وبين إطالة القراءة حيث يقع في مسح الرأس ما وراء قدر الربع سنة وفي القراءة جميع ما أطال منها يقع فرضا؟
قلت: الفرق هو الذي ذكرت قبل هذا وهو أن الباء دخلت في محل المسح في الكتاب فاقتضت تبعيضه، ولا قيد في حق القراءة فدخل كل ما قرأ
تحت قوله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فوقع جميعه فرضا.
(لكنه لا يمنع وجود ما يعينه) يعني سلمنا أن كونه صوم فرض يوجب التعيين ولكنه ليس بمانع شيئا يعين الصوم، وهاهنا وجد ما يعينه وهو انفراده في الشرعية وعدم المزاحمة، (فيكون إطلاقه تعيينا)، لأن هذا متوحد في الزمان فكان كالمتوحد في المكان فيصاب بمطلق نية الصوم، لأنه لا صوم شرعا سوى صوم رمضان.
(ولأنه لا يصح عندنا إلا بتعيين النية) أي يشترط التعيين عندنا أيضا كما قلتم، ولكن يحصل ذلك بالإطلاق.
(وعندنا لا يجب القضاء بالإفساد) يعني لا يجب القضاء بالإفساد مجردا ولا بالفساد مجردا، لوجود وجوب القضاء في كلا الوجهين، بل بمعنى آخر سواهما وهو أن فوات المضمون يوجب ضمان المثل لا باعتبار أنه إفساد
ولا باعتبار أنه فاسد بل باعتبار كونه مضمونا عليه بالشروع وهو يوجب ضمان المثل عند الفوات.
ألا ترى أن المتيمم لو شرع في صلاة التطوع ثم رأى الماء فسدت صلاته وعليه القضاء.
فعلم بهذا أن القضاء غير مختص بالإفساد.
قلنا: (القرية عندنا بهذا الوصف) وهو الشروع والإفساد (لا تضمن، وإنما تضمن بوصف أنه يلتزم بالنذر) أي إنما تضمن هذه القربة وهي صلاة التطوع وصوم التطوع باعتبار أنه مما يلتزم بالنذر، فلذلك يجب بالشروع بخلاف الوضوء فإنه ليس مما يلتزم بالنذر، فلا يجب بالشروع، فكان هذا نظير الحج من حيث إنه لما كان يلتزم بالنذر التزم بالشروع بالإجماع فكذا نقول نحن في الصلاة والصوم.
وحاصله أن في الصلاة والصوم جهة أن كلا منهما لا يضمن بالشروع
وهي كونه مما لا يمضي في فاسده فمن هذا الوجه لا يكون ملزما كالوضوء، وفيه أيضا جهة كونه مما يلتزم بالنذر فمن هذه الجهة يجب بالشروع كالحج، وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي قاله الخصم لا يمنع اللزوم باعتبار الوصف الذي قلنا، ولا بد من إضافة الحكم إلى الوصف الذي هو ركن تعليله فإن لم يجب باعتبار وصف فهو لا يدل على أنه لا يجب باعتبار وصف آخر.
(العبد مال فلا يتقدر بدله كالدابة) يعني أن رجلا إذا قتل عبدا خطأ يجب عند أبي يوسف والشافعي-رحمهما الله- قيمته بالغة ما بلغت كما في الدابة وغيرها، (وعندنا لا يتقدر بدله بهذا الوصف) أي بوصف المالية، لكن في العبد معنى آخر سوى المالية وهو الآدمية فيتقدر بدله عندنا باعتبار وصف الآدمية لا باعتبار وصف المالية.
(وهذا كلام حسن) أي القول باعتبار الجهتين بأن يقال: بجهة يتقدر بدله وبجهة لا يتقدر بدله.
(إن الموجود قد يكون ببعض صفاته حسنا وببعض صفاته رديئا)، وهذا يكثر أمثلته في المحسوسات والمعقولات والمشروعات، فإن السم رديء
من وجه وهذا لا يشكل حسن وجه وهو أنه يقهر به العدو، وكذلك فعل الإنسان يقبح من وجه ويحسن من وجه كفعل العبد المشترك بين اثنين إذا كان مأمورا به من أحدهما منهيا عنه عن الآخر، فإذا وجد يتصف بما ذكرنا من الصفتين.
وكذلك الإنسان إذا وصف إنسانا بعيب فيه ويظهره لغيره ليحترز ذلك الغير عنه ولا يقع في بلية، كرجل أراد أن يزوج ابنته من ذلك الرجل وهو لا يقف على ما فيه من أخلاقه السيئة فيخبره غيره بما فيه من أخلاقه السيئة، كي لا تقع ابنته في بلية يكون هذا الإخبار عنه غيبة من وجه فيقبح وحسنا وجه لهذا المعنى إذا لم يكن في غرضه الغيبة بل هي في غرضه إصلاح حال الغير، وله نظائر كثيرة.
(ومن ذلك قولهم: أسلم مزروعا في مزروع) - إلى قوله: (وذلك لا يمنع وجود الفساد بدليله) وهو أن الجنس بانفراده يحرم النساء فيفسد عندنا لهذا الوصف لا لكونه مزروعا في مزروع كما إذا قرن بهذا السلم شرطا مفسدا يفسد بالاتفاق لا لكونه مزروعا في مزروع بل بقران شرط مفسد فكذلك هاهنا.
وكذلك يجوز أن يفسد العقد بترك قبض رأس المال في المجلس مع أنه أسلم مزروعاً في مزروع، فإذا جاز أن يفسد هذا العقد مع وجود هذا الوصف
باعتبار معنى آخر بالاتفاق، فلماذا لا يجوز أن يفسد باعتبار الجنسية؟ فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة بان الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه ذلك.
وكذا نقول في (المختلعة) إن الطلاق إنما يلحقها عندنا باعتبار (أنها معتدة عن نكاح صحيح)، وبقوله:"نكاح صحيح" يحترز عن الطلاق في العدة عن نكاح فاسد فإنه لا يقع فيه الطلاق وإن كانت معتدة.
وكذا (قولهم: تحرير في تكفير) بموجب إيمان المحرر لكن (إطلاق صاحب الشرع) وهو قوله تعالى: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يسقط وصف الإيمان وجوبا يعني لا يجب بصفة الإيمان لكن يستحب ويستحسن.
(كالدين يسقط) يعني أن الموجب لوجوب الدين في الذمة لا يمنع إسقاط الدين بوجه آخر هو أن يسقط صاحب الدين بالإبراء فإنه يسقط وإن
كان الموجب لثبوت الدين موجودا وهو البيع والإجارة والإقراض وغير ذلك، فكذلك هاهنا وإن كان سبب الوجوب ثابتا لكن صاحب الدين أسقط حقه.
(إنها أخذ مال الغير بلا تدين) أي بلا اعتقاد أنه حلال له، بخلاف الحربي إذا أخذ مال المسلم أو الباغي بتأويل أو العادل إذا أخذ مال الباغي حيث لا يجب الضمان، لأنه أخذ تدينا على اعتقاد أنه حلال له (فيوجب الضمان) كالغضب.
(فكذلك استيفاء الحد) يعني يسقط الضمان استيفاء الحد كالإبراء، ويرجع الخلاف إلى أن الحد هل يسقط الضمان عن السارق أم لا؟