الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القياس
(لأن الكلامَ لا يصحَ إلا بمعناه)؛ لأنه إذا لم يكن للفظ معنىً لا يكون كلامًا؛ لأن الكلامَ هو المفيدُ، وما لم يفدْ كان مهملًا، فصار كألحان الطير (ولا يوجد إلا عند شرطه)؛ لأن شرطَ الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء،
فلا يتصورُ وجودُ المشروط بدون الشرط، إذ لو وُجد بدونه لا يكون متوقفًا عليه فيلزم أن يكون متوقفًا عليه ولا يكون متوقفًا عليه في حالةٍ واحدةٍ وهو محالٌ، (ولا يقومُ إلا عند ركنه)؛ لأن ركنَ الشيء عينُ ذلك الشيء وثبوت الشيء بدونه محالٌ، (ولم يُشرع إلا لحكمه)؛ لأن الشيء إنما يخرج عن كونه عبثًا إذا كان له عاقبةٌ حميدةٌ، وإذا لم يكن له حكمٌ لم يكن له عاقبةٌ حميدةٌ.
["باب تفسير القياس"]
(وللقياس تفسيرٌ هو المرادُ بظاهر صيغته، ومعنىً وهو المرادُ بدلالة صيغته) ككلمة أفٍ تدل على الأذى بصيغتها، وتدل على حرمةِ الضرب بمعناها الذي هو معنى الصيغة وهو الإيذاءُ.
(هو اسمٌ لفعل يُعرف بظاهره) وهو إيقاعُ الخشبة على جسم حي (ولمعنى يُعقل بدلالته) وهو الإيلامُ، حتى إن من حلف لا يضربُ امرأته فخنقها أو عضَّها أو مدَّ شعرها يحنث.
وقد يسمى قياسًا؛ لأن كلَ واحد من المناظرين يقيسُ بأصله، (وقد يسمى هذا القياسُ نظرًا) قيَّد بقوله:"هذا" لأنه لا يُسمى التقديرُ اللغوي نظرًا.
الَمدرك: موضع الدرك، والدركُ هو العلمُ فبالقياس يُعلم الشيء، وهو دليلٌ على الشيء كالدخان يعلم به النارُ لا أن النارَ تثبتُ به، وعن هذا قالوا: القياس هو الإبانةُ وهى الإظهارُ، والإظهارُ يقتضى كون الشيء خفيًا، والحكمُ في الفرع كان خفيا، فبالقياس يُدرك ويُعلم، وكذلك (المفصِل) على هذا، فإن القياسَ موضع الفصل بين أن يكون حجةً وهى القياسُ وبين أن يكون هوى، أو هو يفصل بين الحلال والحرام، (فجعل الأصول) وهى الكتابُ والسنةُ والإجماعُ (شهودًا).
(هو شهادتها) أي شهادة النصوص، وهي كونها صالحةً للتعليل، حتى إذا كان النصُ غيرَ مدرَكٍ بالعقل كالمقدرات لا يصلح، أو كان مخصوصًا عن النص العام كشهادة خزيمة رضي الله عنه لا يصلح.
(ولا بد من صلاح الشهادة) وهو الوصفُ الصالحُ لمناط الحكم كما في لفظ الشهادة؛ فإن الشهادةَ مخصوصةٌ بلفظٍ خاصٍ وهو لفظُ أشهدُ لا كلُ لفظٍ يدل على العلم حتى لو قال: أعلمُ أو أتيقن لا يقبل.
وكذلك كل معنى في النصوص لا يكون مؤثرًا لإثبات الحكم في الفرع؛ بل المعنى هو الوصفُ الصالح لإضافة الحكم إليه.
وقوله: (وعدالته) وهي أن يظهرَ أثره في موضعٍ إما بالكتاب أو بالسنة
أو بالإجماع، وهذا كتعليلنا في إسقاط النجاسة من سؤر سواكن البيوت باعتبار ضرورةِ الطواف وكثرة الدوران فإن ذلك وصفٌ معدَّلٌ ظهرت عدالته بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتابُ: فقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ) فعُلم بهذا أن للضرورة تأثيرًا في التخفيف، وكذلك قوله تعالى:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم) حيث أثَّرت كثرة الطواف في سقوط الاستئذان.
وأما السنة: فقوله عليه السلام: "الهرة ليست بنجسة فإنها من الطوافين عليكم والطوافات".
وأما الإجماعُ: فإن العلماءَ أجمعوا على أن ما ضاق أمره اتَّسع حكمه.
(واستقامته للحكم المطلوب) أي مطابقته الوصفَ لحكمه بأن لم يكن فيه فسادُ الوضع ولا المخالفة بينهما كما في الشهادة، فإن الرجلً إذا ادَّعى على آخر ألفَ درهم وشهد الشهودُ بأن له عليه ألفَ غنمٍ لم يصح لعدم الملاءمة بين الدعوى والشهادة.
(ولا بد من طالب للحكم على مثال المدعى وهو القائس) إلى آخره.
بيان هذا في قولنا: الخارجُ النجسُ من السبيلين ناقضٌ للطهارة، فالطالبُ أبو حنيفة رضي الله عنه والشاهدُ فيه قوله تعالى:(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ).
والشهادةُ: دلالةُ هذا النص على خروج النجاسة من البدن.
والصلاحيةُ: أن يكون هذا التعليلُ الذي ذكره هو صالحٌ لإضافة هذا الحكم إليه.
وصلاحيةُ النص هي: أن هذا النصَ غيرُ معدول به عن القياس.
والعدالةُ: ظهور أثره في موضعٍ من المواضع، وقد ظهر؛ فإنه إذا خرجت النجاسةُ من سرة إنسان تنتقض طهارته بالإجماع. ومعدّل ذلك أيضًا بقوله عليه السلام لتلك المستحاضة "توضئي لكل صلاة فإنه دمُ عِرق انفجر".
واستدلالُ أبى حنيفة رحمه الله بهذا الطريق هو الطلبُ والمطلوبُ إثباتُ انتقاض الوضوء.
والحاكمُ: القلبُ، والمحكومُ عليه: البدن بالعمل أو الخصم وهو الشافعي.
(والبدن بالعمل أصلًا)، لأن المقصودَ من القياس هو العملُ بالبدن؛
لأن القياسَ لا يوجب العلم قطعًا ليُجعل العقد أصلًا؛ بل جعل البدن أصلا في حق العمل، ويلزم منه عقد القلب ضرورةً لقوله تعالى:(ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فكان اعتقادُ القلب بصحته لضرورة وجوب العمل على البدن، فلذلك قال:"وهو القلبُ بالعقد ضرورةً".
وقوله: (ولا بد من حكمٍ هو بمعنى القاضي وهو القلب)؛ لأن القلبَ يحكم بكون هذا الوصف مؤثرًا في هذا الحكم فيحكم بثبوت هذا الحكم عند وجود هذا الوصف.
فإن قيل: ذَكر قبيل هذا بقوله: "ولابد من مقضي عليه وهو القلب": فلما كان القلب مقضيًا عليه كيف يصلح أن يكون قاضيًا والقاضي لا يقضي على نفسه؟
قلنا: نعم ذلك من حيث القصد.
وأما من حيث الضمن فيصح؛ لأنه حينئذ كان المقصودُ بالقضاء غيرَه فيتعدى إلى القاضي أيضًا بطريقة العموم كالقاضي يقضى بثبوت الرمضانية فإنه إذا جاء واحدٌ عدلٌ يشهدُ برؤية هلال رمضانَ في يوم كان بالسماء علةٌ فالقاضي يقضى بصحة شهادته وثبوتُ رمضانَ على العموم فيجب عليه
الصومُ أيضًا بطريقة الضمِن؛ لأن القاضيَ مثلُ العامة في حق وجوب التكليف عليه، وكذلك لو قضى بالملك للمدعي عند قيام الحجة يثبت حكمه على العموم فيثبت على نفسه أيضًا حتى لا يتمكن من دعواه لنفسه بعد حكمه للمدعي به.
وقوله: (لتعدية أحكامها) أثَّر لفظُ التعدية على لفظ الإبانة وإن كان هو مجازًا احترازًا عن وهمٍ أن يثبتَ الحكمُ فيه قطعًا؛ لأن لفظ الإبانة يدل على أن الحكمَ في الفرع كان ثابتًا بالنص أيضًا لكن كان خفيًا فأظهره المجتهدُ بالقياس، فحينئذ يجب أن يثبتَ الحكمُ فيه قطعًا كما لو لحق خبرُ الواحد بمجمل الكتاب يثبت الحكم هناك قطعا.
(لا دليل من قبل العقل أصلًا) فإنهم قالوا: العقلُ ليس بموجب شيئًا (والقياسُ قسمٌ منه) أي من العقل.
("حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا")، فوجه التمسك أنه ذمهم على ذلك الفعل، فكان ذمُ النبي عليه
السلام إياهم بسبب ذلك الفعل دليلًا على أن ذلك الفعلَ قبيحٌ، والفعلُ القبيحُ لا يجوز أن يكون مَدركًا من مدارك أحكام الشرع؛ إذ في هذا الحديث وجوهٌ من المذامِّ من طرف السبب ومن طرف الحكم، أما من طرف السبب فإنه عليه السلام جعل فعلَ القياس من نتيجة فعلٍ من حيث أصله وفسد نسَبه، فإن الفعلَ الطيب إنما ينشًا من العِرق الطيب، وأما من طرف الحكم فهو ضلالٌ وإضلالُ، فالضلالُ بانفراده كافٍ في استجلاب وصف القبح فكيف ما لو اقترن بالإضلال؟.
ثم قوله: "فقاسوا" يحتملُ أن يكون قياسهم ما نقل من أصل عبادة الأصنام أن أسلافَهم المؤمنين كانوا قد صوَّروا صور الأنبياء والصلحاء الذين تقدَّموهم ليزدادوا حرصًا في طاعة الله برؤية صورهم وتذكُّرهم ما بلَغهم من مجاهدتهم وتحملهم لمشاق الدين، إلى أن نشأ أولادُ السبايا فيهم بعد انقراض أسلافهم الصالحين، فقالوا: كانت هذه الصورة يعبدُها أسلافنا فيجب علينا عبادتها أيضًا، فحينئذ كان معنى قوله:" فقاسوا ما لم يكن بما قد كان" أي قاسوا ما لم يكن من عبادة الأصنام في أسلافهم بما قد كان من وجود نفس الصور التي صورَّها أسلافهم للتذكير وزيادة الاتّعاظ والحرص في الطاعة برؤيتهم إياها لا لعبادتهم إياها، والله أعلم.
(وأما الدليلُ فشبهةٌ في الأصل) أي القياسُ دليلٌ فيه شبهةٌ في أصله، وبهذا القيد يحترز عن خبر الواحد، فإن الشبهةَ فيه في طريقه لا في أصله.
وأما القياسُ فالشبهةُ في أصله، وذلك لأن وصفَ القياس يثبت باجتهاد المجتهد، وهو يحمل الخطأَ في أصله؛ لمِا أن ذلك الوصفَ غيرُ منصوص عليه لا بالعبارة ولا بالإشارة ولا بالدلالة ولا بالاقتضاء فكان ثابتًا بالرأي ضرورةً، فلا يجوز إثباتُ الحكم وهو حقُ الله تعالى بما فيه شبهةً في أصله مع كمال قدرة صاحب الحق بخلاف خبر الواحد، فإن الشبهة فيه في طريق الاتصال برسول الله عليه السلام فلو تفحصت وتتبعت ناقلًا عن ناقلٍ إلى أن بلغَ إلى رسول الله عليه السلام، كان ذلك حجةً قاطعةً؛ لأن المسموعَ من في رسول الله عليه السلام حجةٌ قاطعةٌ، ولا كذلك القياس وقد ذكرناه في أقسام السنن.
(ولا يُطاع اللهُ تعالى بالعقول والآراء)؛ لأن الطاعةَ إنما تقع عند العلم بكيفيات الفعل وكمياته، والعقلُ يقف على جُمل المحاسن والمساوي بأن شكرَ المُنْعِم حسنٌ وكفره قبيحٌ، ولا يقف على كيفيات الشكر وكمياته، يعني لا يقف بما يودَّى وبأي وصف يودَّى فلا تقعُ الطاعة بالعقل نفسه خصوصًا ما إذا كان الحكمُ في المقدرّات كإعداد الركعات ومقاديرِ الزكوات
والحدود وغير ذلك.
(ومنه ما يخالف المعقول) لا يريد بهذا ما يخالف العقل في الحسن والقبح من كل وجه، فأن ذلك لا يصح أصلًا لأن ما كان حسنًا عقلًا من كل وجه لا يرد الشرعُ بخلافه، وما كان قبيحًا عقلًا من كل وجه لا يرد الشرعُ أيضًا بخلافه؛ لأن السمعَ والعقلَ حجتانِ من حجج الله تعالى فلا يتناقضان، ولهذا لم يجز النسخُ فيما حَكَمَ العقلُ بحسنه أو بقبحه من كل وجه.
ألا ترى أن حسنَ شكرِ المنعم وقبحَ كفرانه مما يستحيل استنساخه، وإنما أراد به ما يخالف القياسَ الشرعي من كل وجه كبقاء الصوم مع وجود الأكل أو الشرب ناسيًا وانتقاضُ الطهارة بالقهقهة في الصلاة.
(أما على الوجه الأول) وهو قوله: "فلمعنى في الدليل وهو أن المطلوبَ حقُ الله تعالى فلا يجوز إثباته بما فيه شبهةً" فهذه الأمور حقوقُ العبادُ فإنهم ينتفعون بها في دنياهم.
(وأما في غير القبلة فلا يشكلُ) يعني أنه من حقوق العباد وكذلك أمرُ القبلة؛ لأن أصلَه معرفةُ أقاليم الأرض لحوائجهم التي تتعلق بها؛ لأنها تتقدم في إقليم وتتأخر في إقليم، وينتفعون بمعرفتها في سيَرهم في
تجاراتهم وغيرُ ذلك فصح إثباتها بالرأي لاضطرارهم وعجزهم بخلاف حق صاحب الشرع، فأن صاحب الشرع موصوفٌ بكمال القدرة فلا يصح إثباته بدليل فيه شبهةٌ في أصله.
(وأما على الوجه الثاني) وهو قوله: "ولمعنى في المدلول وهو: أن طاعةَ الله تعالى لا تنال بالعقول والآراء" فهذه الأمورُ تُعقل بالأسباب الحسية بالنظر إلى المتلفات وأمور الحرب.
وذكر الأمامُ شمس الأئمة رحمه الله: وأما على الثاني فلأن الأصلَ فيما هو من حقوق العباد ما يكون مستدركًا بالحواس وبه يثبت علمُ اليقين كما يثبت بالكتاب والسنة.
ألا ترى أن الكعبةَ جهتها تكون محسوسةً في حق من عاينها، وبعد البعد عنها بإعمال الرأي يمكن تسييرها كالمحسوسة وكذلك أمرُ الحرب، فالمقصود ُصيانةُ النفس عما يتلفها وقهرُ الخصم وأصلُ ذلك محسوسٌ، وما هو إلا نظيرُ التوقَّي عن تناول سمّ الزُعاف لعلمه أنه متلِفٌ والتوقي عن الوقوع على السيف والسكين لعلمه أنه ناقضٌ للبينة، فعرفنا أن أصلَ ذلك محسوسٌ،
فإعمال الرأي فيه للعمل يكون في معنى العمل بدليل لا شبهةَ في أصله، ثم في هذه المواضعِ الضرورةُ تتحقق إلى إعمال الرأي، فإنه عند الإعراض عنه لا نجد طريقًا أخرَ وهو دليلُ للعمل به لأجل الضرورة جوَّزنا العملَ بالرأي فيه، وهنا الضرورة لا تدعو إلى ذلك لوجود دليل في أحكام الشرع للعمل به على وجه يُغنيه عن إعمال الرأي فيه، وهو اعتبار الأصل الذي قررنا يعنى به استصحاب الحال.
(وحصل بما قلنا) أي بما قلنا من الحَجر عن القياس (المحافظةُ على النصوص بمعانيها) أي بأن يتفكر في معاني النص ويعملَ بإشاراته ودلالاته، فلو اشتغل بالقياس لجاز أن يتركَ العملَ بالإشارات والدلالات مع وجودهما بسبب اشتغاله بالقياس، وهذا لأن النصوصَ قوالبَ المعاني اللغوية، فيجب علينا التبحر فيها لنقف على مضمراتها وإشاراتها واستعاراتها وكناياتها وغيرِ ذلك، فكان هو العملَ بالنصوص بجميع معانيها لا العملَ بالقياس.
وقوله: (والجواب ما تبين) وهو قوله فيما بعده بصفحة: وبيانُ ذلك في الأصل في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
وقوله: ("قال: فإن لم تجد في كتاب الله تعالى") ولم يقل فإن لم يكن في كتاب الله؛ لأن الله تعالى بين كل شيء فيه حيث قال: (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)، ثم لم يذكر في هذا الحديث التمسك بالإجماع مع أن الإجماع في كونه حجة فوق القياس، لما أن الإجماع لم يكن حجة وقت حياة النبي عليه السلام.
(وقد روينا ما هو قياس بنفسه) كما في قوله عليه السلام: "فإنها من الطوافين عليكم" وكقوله عليه السلام للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق"وقوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه حين سأل عن القبلة للصائم، فقال عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ قال: لا.
قال: ففيم إذن"، وكذلك (عمل الصحابة) رضي الله عنهم بالقياس مذكور في الكتاب بعد هذا.
وكان شيخي رحمه الله يفيد (في قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بقوله: قوله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ) بيان العقوبة، وقوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان الجناية، وقوله:(مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ)
بيان غلظ الجناية، وقوله:(مِنْ دِيَارِهِمْ) بيان غلظ العقوبة.
وقوله: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) دلالة على تكرار هذه العقوبة).
فإن قيل: لفظ الأول لا يدل على التكرار بدليل ما إذا قال: أول عبد أشتريه فهو حر؛ فاشترى عبدًا يعتق من غير توقف إلى تكرار شراء عبد آخر.
قلنا: هذا طرد لا نقض؛ لأن اسم الأول وإن كان يدل على التكرار فهو لا يقتضي أن يتوقف حكمه إلى وجود الثاني.
ألا ترى أن الكلمة التي هي موضوعة لتكرار الفعل وهي كلمة كلما لا تقتضي وجود الفعل الثاني في حق الحنث، فإنه إذا قال: كلما تزوجت امرأة هي طالق فتزوج امرأة تطلق وان لم يوجد تكرار التزوج، فأولى أن لا يقتضي وجود الفعل الثاني في الكلمة التي فيها دلالة على تكرار الفعل، وهذا لأنه قال:"لما قال أول عبد أشتريه فهو حر" دل ذلك على أن شراء العبد يوجد منه مره بعد أخرى، ولكن لا يتوقف حثه على وجود شراء آخر؛ لأن شراء العبد قد وجد وهو شراء العبد الواحد سابقًا على غيره، فإن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه غيره فقد وجد ذلك فيحنث.
(ودعانا إلى التأمل) ثم الاعتبار؛ لأن الله تعالى أمرنا بالاعتبار بقوله:
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)، والأمر بالشيء أمر به وبما هو من لوازمه كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة، والاعتبار لا يكون إلا بأن يكون التأمل سابقًا على الأعتبار فكان الدعاء إلى الاعتبار دعاء إلى التأمل لا محالة سابقًا ثم إلى الاعتبار.
وبيان ذلك في الأصل: أي في الأصل الذي هو موجب للقياس.
(ويدل عليه) أي على إضمار فعل الأمر.
(قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء") والنهي عن الشيء كان امرًا بضده خصوصًا فيما إذا لحقه الاستثناء، والبيع وإن كان مباحًا في نفسه، يجب مراعاة شرطه إذا قصد المكلف مباشرته كالنكاح وهو مباح في نفسه لكن إذا أقدم عليه يجب عليه إحضار الشهود، وكذلك صلاة التطوع وإن كانت غير واجبة فعند القصد إلى أدائها يجب مراعاة شروطها من الطهارة وستر العورة وغيرهما، فكذلك هاهنا يجب صرف الأمر المدلول الذي هو مقتض لوجوب إلى حال البيع التي هي شرط لا إلى نفس البيع.
(والحنطة اسم علم لمكيل) يعني اسم علم لنوع من طعام له صلاحية أن يكال في قدر يدخل تحت الكيل كما يقال: الماء مرو وإن لمل تكن قطرته مروية وهي ماء لكن له صلاحية الإرواء عند الانضمام إلى قطرات أخر، وقوله:("مثلًا بمثل" حال لما سبق) وهو: "بيعوا" الذي هو مدلول غير مذكور، (والأحوال شروط) كما إذا قال الرجل لعبده: إن كلمت فلانًا قائمًا فأنت حر، فكلمه قاعدًا لم يعتق، ولو كلمه قائمًا عتق؛ لأنه بمنزلة قوله: إن كنت قائمًا وقت التكلم معه، وكقولهم: ادخل الدار غاضًا بصرك فكان الواجب غض البصر عند الدخول، فعلم بهذا أن الأحوال شروط.
(والمراد بالمثل القدر) أي القدر الشرعي وهو المقدر بالكيل (لما روي في حديث آخر: "كيلًا بكيل") أي مكان قوله: "مثلًا بمثل" لما أن المماثلة من حيث الوزن أو من حيث الحبات غير مراد حتى إذا باع كيلًا من حنطة وزنه عشرة أمنًا بنصف كيل من حنطة وزنه أيضًا عشرة أمنا لا يجوز وإن كانا متساويين من حيث الوزن، فلو كانا متساويين من حيث الكيل ومتفاضلين من حيث الوزن يجوز، وكذلك لو كانا متساويين من حيث الكيل
ومتفاضلين من حيث الحبات يجوز أيضًا
(والمراد بالفضل الفضل على القدر) أي على القدر الشرعي، (والمراد بالمماثلة إنما هو القدر بالنص) أي القدر الشرعي وأقله نصف صاع، (فكذلك الفضل عليها ما لا محالة) أي الفضل الذي هو موجب للحرمة، وإنما يكون بالفضل الذي هو فضل على المماثلة الشرعية بالكيل، وأدنى المماثلة الشرعية مقدر بنصف صاع.
وحاصلة أن الأحوال الثلاثة من المساواة والمفاضلة والمجازفة إنما تعتبر بحسب الكيل الشرعي وأقله نصف صاع، حتى لو باع حفنة من حنطة بحفنة منها أو بحفنتين يجوز، وكذلك فيما دونهما وفيما فوقهما إلى أن بلغت الحنطة إلى نصف صاع، وإذا بلغ كلا العوضين أو أحدهما نصف صاع والآخر اقل منه كيلًا أو أكثر منه كيلًا لا يجوز، وإن كانت تلك الزيادة لا تبلغ
الكيل، نص على هذا في "الذخيرة" و"المحيط" والمعنى ي نوع بيع الجنس بالجنس فقال: في كل منها أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع وذلك مدان حتى لو باع مدين من الحنطة بثلاثة أمنًا من الحنطة فصاعدًا لا يجوز، وكذلك إذا باع منوين من الشعير بثلاثة أمنًا من الشعير فصاعدًا لا يجوز.
قلت: والمن الواحد مما لا يدخل تحت الكيل ومع ذلك ذكر عدم الجواز مع
زيادته على أحد المتساويين بالكيل من الحنطة والشعير.
علم بهذا أن في الزيادة على المتساويين بالكيل لا يشترط الكيل في إيراث عدم الجواز.
وأما ما وقع في فوائد الإمام بدر الدين الكردي رحمه الله في شرح قوله: "فكذلك الفضل عليها لا محالة" بقوله: أي لا يكون الفضل حرامًا ما لم يكن مكيلًا؛ لأن السابق كيل بكيل، والمراد منه أن يكون القدر والفضل معهودًا، فوجب أن يكون من جنس السابق، فيلزم من هذا أن يكون الفضل قدرًا أي كيلًا وقع على خلاف هذه الروايات التي ذكرت في هذه الكتب.
(وبالإجماع فيمن باع قفيزًا جيدًا بقفيز ردئ وزيادة فلس) أي على أن يكون الفلس بمقابلة الجودة لا يجوز، وما يكون مالًا متقومًا يجوز الاعتياض عنه شرعًا.
علم بهذا أن الجودة غير متقومة عند المقابلة بجنسها (ولما علم أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعته في ذاته) أي لا في صفاته؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بصفات الأموال الربوية مع قيام عينها، ولما كان الانتفاع بأستهلاك أعيانها لم يعتبر صفاتها وصارت العبرة لذواتها، فلذلك هدرت جودة صفاتها
نفهم من مخاطباتنا؛ الاشتغال بطلب المعنى غير مفيد لجواز أن تكون مخاطباتنا خالية عن معنى مؤثر وحكمة حميدة بخلاف خطاب الشرع.
ألا ترى أن هناك التعليل لا يصح وإن كان التعليل منصوصًا، فإنه لو قال: أعتق عبدي هذا فإنه أسود لم يكن للمخاطب أن يعدي الحكم إلى غيره بهذا التعليل، وفي خطاب الشرع لو كان التعليل منصوصًا يثبت حكم التعدية بالاتفاق كقوله عليه:"الهرة ليست بنجسة، فإنها من الطوافين عليكم والطوافات".
(وإنما التعليل لإثبات حكم الفروع). هذا جواب لقول من قال بأن النص موجب بصيغته، وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه، فكان تغيير الحكم المنصوص.
قلنا: ليس ذلك بتغيير لحكم المنصوص؛ بل الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص كما كان قبل التعليل، والتغيير لحكم المنصوص إنما يكون إذا لم يبق الحكم المفهوم من النص قبل التعليل بسبب التعليل كما في تعليل الشافعي قوله تعالى:(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) بالتمليك حيث لم يبق مفهوم الإطعام الذي هوعبارة عن جعل الغير طاعمًا بالإباحة مرادًا.
وأما الذي نحن بصدده فيبقى النص موجبًا لحكمه كما قبل التعليل، وإنما التعليل لتعدية الحكم إلى محل آخر لا نص فيه، فكان هذا تعميمًا لحكم
(فكان الفضل على المماثلة فيها) أي في الأرز والدخن والجص (فضلًا خاليًا عن العوض مثل حكم النص بلا تفاوت) أي مثل حكم النص في الأشياء الستة المنصوصة من الحنطة والشعير وغيرهما.
(وهو كما ذكرنا من الأمثلة) أي القياس نظير ما ذكرنا من الأمثلة في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلما كان الاعتبار هناك مأمورًا به كان الاعتبار في القياس الشرعي أيضًا مأمورًابه لمساواتهما في الاعتبار.
وفي "التقويم" فإن الله تعالى كما بين إهلاك قوم بكفرهم وأمر الباقين بالاعتبار بهم لينزجروا عن الكفر فلا يهلكوا فكان اعتبارًا واجب العمل به، وكذلك إذا بين اسمًا أو صفة فعلق به حكمًا من أحكامه وجب الاعتبار به في أصل آخر ووجب إثبات الحكم فيه متى وجد الوصف فيه، فإنه لا فرق بين
حكم هو تحليل أو تحريم بوصف هو كيل وبين حكم هو هلاك تعلق بوصف هو كفر.
(إثبات الأحكام بظواهرها تصديقًا)، فإن إثبات انتقاض الطهارة بالخارج من السبيلين بظاهر قوله تعالى:(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الغَائِطِ) فرض تصديقه، حتى يكفر جاحده، (وإثبات معانيها طمأنينة)، فإن إثبات انتقاض الطهارة بالخارج النجس من غير السبيلين واجب للعمل به لطمأنينة القلب به لوجود علة جامعة بينهما، (وثبت به) أي وثبت بإثبات معاني النصوص (تعميم أحكام النصوص).
فإن قيل: التعليل لذلك النص كون حكم النص وهو انتقاض الطهارة منحصر في الخارج من السبيلين، وبالتعليل يثبت فيه وفي غيره الذي يشاركه في الوصف الجامع بينهما وهو الفصد والحجامة.
وكذلك في مسألة الربا، فإن قبل التعليل كون حكم النص منحصرًا في الأشياء الستة وبعد التعليل ثبت فيها وفي غيرها الذي يشاركها في الوصفين الجامعين من القدر والجنس كالأرز والجص والنورة.
(جمعًا بين الأصول والفروع)، فالأصول: ثبوت انتقاض الطهارة في الخارج من السبيلين، والفروع: ثبوت انتقاض الطهارة في الفصد والحجامة، (وما للخصم إلا التمسك بالجهل)، فإنهم يتمسكون في النصوص باستصحاب الحال ومآل استصحاب الحال إلى الجهل؛ لأن المتمسك باستصحاب الحال يقول: لم يثبت الحكم الحادث هنا؛ لأنا لم نعلم ما يوجب ذلك الحكم، كما إذابيع شقص من الدار فطلب الشريك الشفعة فأنكر المشتري ملك الطالب فيما في يده الذي يطلب به الشفعة.
قال الشافعي: تجب الشفعة بغير بينة لأنا لم نعلم بيع شقصه وهو جهل منه.
(وفي التعيين احتمال) أي وفي تعيين وصف معين من سائر الأوصاف احتمال أن لا يكون ذلك الوصف مناط الحكم، واحتمال أن يكن هو مناط الحكم كما عينا القدر والجنس في علة الربا، ووصف الخارج النجس من بدن الإنسان في انتقاض الطهارة، ومثل ذلك جائز في الشرعيات بالإجماع.
(كالنصوص المحتملة) لما ذكرنا ولما ذكره الخصم كالمشترك وغيره كقوله
تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ)
(وثبت أن طاعة الله تعالى لا تتوقف على علم اليقين) أي بالإجماع، فإن العام الذي خص منه البعض غير موجب لعلم اليقين كقول الله تعالى:(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية، وقوله تعالى:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ومع ذلك يجب العمل بهذه الآية طاعة لله تعالى، وكذلك خبر الواحد موجب للعمل طاعة لله تعالى مع أنه غير موجب لعلم اليقين.
وأما ما أشاروا إلى الفرق بين القياس وخبر الواحد بقولهم:
"وأما الدليل فشبهة في الأصل" فإن ذلك لا يجدي لهم؛ لأن دعواهم هي أن لا يطاع الله بدليل فيه شبهة كما أن صاحب الحق وهو الله تعالى كامل القدرة، فكان قادرًا على أن يقيم الدليل الذي لا شبهة فيه ويطاع به، فينتفض قولهم هذا بخبر الواحد والآية المؤولة؛ لأن فيهما شبهة، ثم بعد ذلك لا يتفاوت أن تكون الشبهة في أصله أو وصفه، فيجب أن لا يطاع الله
تعالى بدليل فيه شبهة؛ لأن صاحب الحق كامل القدرة، فلما أجمعنا على أن الله تعالى يطاع بموجب خبر الواحد والآية المؤولة علمنا أن الله تعالى يطاع بدليل فيه شبهة؛ لأن المراد من الطاعة الابتلاء، وذلك لا يتفاوت بدليل فيه شبهة أو لا شبهة فيه، ولم يمتنع عن ذلك اتصاف الله تعالى بكمال القدرة فانتقض أصلهم.
وأما ما رووا من الأحاديث التي فيها مذمة الرأي فإن مراد رسول الله عليه السلام فيها الرأي الذي ينشأ عن متابعة هوى النفس أو الرأي الذي كان المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس.
فأما الرأي الذي يكون المقصود به إظهار الحق من الوجه الذي قلنا لا يكون مذمومًا.
ألا ترى أن الله تعالى أمر به في إظهار قيمة الصيد بقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.