المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب معرفة أحوال المجتهدينومنازلهم في الاجتهاد - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٤

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب معرفة أحوال المجتهدينومنازلهم في الاجتهاد

‌باب معرفة أحوال المجتهدين

ومنازلهم في الاجتهاد

ذكر في الكتاب مناسبة الباب فأغنانا عن ذكرها، فالاجتهاد: بذل المجهود لنيل المقصود.

ص: 1836

(بمعانيه) أي من حيث اللغة (ووجوهه) التي قلنا، وهي: الخاص والعام إلى آخر الثمانين.

(وعلم السنة بطرقها) وهي طرق الاتصال بنا من رسول الله عليه السلام من الآحاد والشهرة والتواتر.

(واختلف أهل المقالة الصحيحة) وهي المقالة التي قالها أصحابنا.

ص: 1837

يعني أنهم اتفقوا على أن المجتهد يخطئ ويصيب، فبعد ذلك اختلفوا في أنه

ص: 1838

يخطئ ويصيب ابتداء وانتهاء، أم يصيب في ابتداء اجتهاده ويخطئ انتهاءً؟

(لما كلفوا إصابة الحق) بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)، لأنه لا يجوز أن يقال كلفوا غير إصابة الحق؛ لأن الله تعالى منزه عن تكليف الخطأ، فثبت أنهم مكلفون إصابة الحق، ولايصح ذلك إلا بتعدد الحقوق.

(حتى تأدى الفرض) أي فرض التوجه.

(كما صح ذلك عند اختلاف الرسل) أي في زمان واحد، كما في لوط مع إبراهيم عليهما السلام، وعلى اختلاف الزمان كما في الخمر كانت حلالًا ثم صارت حرامًا في الزمان الثاني.

ص: 1839

(لأن دليل التعدد لم يوجب التفاوت) وهو قوله: "إن المجتهدين لما كلفوا" إلى آخره.

(وبطلت الدعوة) أي دعوة المجتهد الناس إلي قوله، والدعوة واجبة قال الله تعالى:(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ)، وقال تعالى:(ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ) والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل.

(وإذا اختص سليمان عليه السلام بالفهم وهو إصابة الحق بالنظر كان الآخر خطأ)؛ لأن ما قضى به داود عليه السلام كان بالرأي؛ إذ لو كان بالوحي

ص: 1840

لما حل لسليمان عليه السلام الاعتراض في ذلك.

فعلم أن كل واحد منهما اجتهد، والله تعالى خص سليمان عليه السلام بفهم القضية ومن عليه، وكمال المنة في إصابته الحق الحقيقي، ويلزم من ذلك أن يكون الآخر خطأ؛ إذ لو كان من داود عليه السلام ترك الأفضل لما وسع لسليمان عليه السلام التعرض؛ لأن الاقتيات على رأي من هو أكبر لا يستحسن فضلًا على الأب النبي.

(وقال ابن مسعود رضي الله عنه) في حديث المفوضة إلى آخره. ذكر في "المبسوط" في مسألة عقد النكاح بغير تسمية: وحجتنا في ذلك: "ما روي أن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذا فجعل يردده شهرًا، ثم قال: أقول فيه بنفسي، فإن يك صوابا فمن الله ورسوله، وإن يك خطأ فمن ابن أم عبد- وفي رواية: فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه

ص: 1841

بريئان -أرى لها مهر مثل نسائها. لا وكس ولا شطط، فقام رجل يقال له معقل بن يسار أو معقل بن سنان، وأبو الجراح. فقالا: نشهد أن رسول الله عليه السلام قضى في امرأة منا يقال لها بروع بمثل قضيتك هذه، فسر ابن مسعود بذلك سرورًا لم يسر قط مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله عليه السلام".

فوجه التمسك بهذا الحديث ظاهر وهو أنه أثبت تصور الخطأ في الاجتهاد، فعلى قول أولئك لا يتصور الخطأ فيه.

ص: 1842

(أما السبب فلأنا قلنا: إن القياس تعدية) أي إبانه مثل الحكم المنصوص في الفرع، فلا يصلح أن يكون القياس مغيرا لحكم النص؛ لأن القياس خلف عن النص فيثبت على وفاق الأصل، والحكم الحق في الأصل غير متعدد بالإجماع.

ألا ترى أن النصين إذا تعارضا في الحظر والإباحة أو الإيجاب والنفي لا يثبت النفي والإثبات والحظر والإباحة، بل الحكم أن يجب التوقف فيه إلى أن يثبت رجحان أحدهما إن أمكن أو يعرف التاريخ، وإن لم يثبت شيء من ذلك يتهاترا، وهذا حكم مجمع عليه، فإذا تعذر تعدد الحقوق في الأصول بطل القول بتعدد الحقوق في الفروع.

والحكم يؤخذ من الأصل، فلما استحال احتمال الحظر والإباحة في الأصل استحال أن يثبت المتنافيان في الفرع، وهذا واضح بحمد الله تعالى وهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال!

ص: 1843

(وأما الاستدلال بنفس الحكم) فهو ما ذكر في المتن وهو ظاهر.

وأما الجواب عن قولهم: "كما صح ذلك عند اختلاف الرسل عليهم السلام في زمان واحد" فقلنا: إن الشيء الواحد جاز أن يكون حرامًا لشخص حلالًا لشخص آخر. كأم المرأة حرام على الختن حلال لغيره، وكذلك سائر المحرمات من الأم والبنت وغيرهما، وكذا المال لمالكه حلال، ولغيره حرام، فكذلك يجوز أن تثبت الحرمة في حق أمة، والحل في حق أمة أخرى.

وأما فيما نحن فيه فالأمة كلهم كشخص واحد فيستحيل أن يكون الفعل الواحد حرامًا عليهم حلالًا لهم أيضًا في ذلك الزمان؛ لأن الاستحالة إنما تثبت عند اتحاد الجهة والزمان والمحل فتعذر القول بتعدد الحقوق فيما نحن فيه.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يرد الوحي بأن يحرم نكاح المجوسية لمسلم

ص: 1844

ويحل له أيضًا، فإذا كان ذلك مستحيلًا بالوحي يستحيل أن يكون ثابتًا بالقياس؛ إذ هو مستنبط من النصوص وفرع له، ولا يجوز مخالفة الفرع الأصل، وأي مخالفة أقوى من هذا؟!

وقوله: (وصحة التكليف تحصل بما قلنا) جواب عن قولهم: وجب القول بتعدده تحقيقا لشرط التكليف؛ إذ لو لم يكن كذلك يلزم تكليف ما ليس في الوسع".

(إذا فرق القاضي بينهما نفذ الحكم وقد أخطأ السنة)؛ لأن السنة أن يفرق القاضي بينهما بعد الرابعة أو الخامسة من كل واحد منهما، وإنما نفذ حكمه باعتبار إقامة الأكثر مقام الكل، وهذا دليل شرعي في الجملة، وقضاء القاضي يجب صيانته عن البطلان، وإخطاؤه السنة دليل على أن المجتهد

ص: 1845

يخطيء في اجتهاده.

(فمن علم منهم حال إمامه وهو مخالفه فسدت صلاته) ولو كان كل واحد منهم مصيبًا في اجتهاده لما فسدت صلاته كما لم تفسد صلاة من صلوا بجماعة في جوف الكعبة وإن كان المقتدي يخالف إمامه في التوجه إلى الجهة.

(وأما قوله: إن المخطئ للقبلة لا يعيد صلاته) أي هذا دليل على أن

ص: 1846

المجتهد لا يخطئ.

قلنا: ليس هذا دليلا على أن المجتهد لا يخطئ؛ لما أن المتحرى للقبلة لا يكلف إصابة حقيقة الكعبة؛ لأن إصابة حقيقة الكعبة لا يمكن إلا بالمشاهدة عيانًا أو بالإخبار جهتها أو يعلم ذلك بالنجوم، وقد انعدمت هذه المعاني في حق من اشتبهت عليه القبلة، ثم لم يبق دليل سوى التحرى، فكان المتحري قبلة له.

ومن صلى متوجها إلى قبلته التي أمر بأن يوجه وجهه إليهما لا يعيد صلاته بعدما صلى كمن صلى متوجهًا إلى الكعبة عيانًا؛ وهذا لأن الأمر باستقبال الكعبة ابتلاء من الله تعالى في حق العباد؛ لأن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ذا جهة وفعل المكلف يقع إلى جهة لا محالة، والكعبة غير مقصودة بعينها.

ألا ترى أن عينها كانت ولم تكن قبلة. أعني حين كان التوجه إلى بيت المقدس، وعند اشتباه القبلة يصير غيرها قبلة على رجاء إصابتها عند الضرورة.

ص: 1847

ألا ترى أن غير جهتها يقينا يصير قبلة؛ كما في الحق الخائف عن العدو وفي حق المتنفل على الدابة، وإذا كان كذلك كان من يرجو إصابتها وقت التحري أن يكون جهة تحرية قبلة له أولى؛ لأن المقصود رضا الله تعالى وهو حاصل أينما توجه عند التحرى، وإلى هذا أشار قوله تعالى (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ).

(في حق نفس العمل مصيب) أي في حق نفس التحري مصيب وهو بمنزلة الطلب في ابتداء الاجتهاد، والمجتهد في طلب الحق باجتهاده مصيب، وهو معنى قوله:(فثبت أن مسألة القبلة ومسألتنا سواء، حتى إذا أخطأ) أي أخطأ يقينا بأن استدبر الكعبة من إطلاق الخطأ في الحديث، وهو قوله عليه السلام لعمرو بن العاص: "وإن أخطأت فلك .........................

ص: 1848

حسنة".

وكذلك في قول ابن مسعود رضي الله عنه حيث ذكر الخطأ مطلقًا من غير تقييد بالانتهاء، فكان شاملا للمقادير أجمع.

(واحتج أصحابنا رحمهم الله أي على قولهم بأن المجتهد إذا أخطأ فإنه مصيب في ابتداء اجتهاده، ولكنه مخطئ انتهاء فيما طلبه بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، فوجه التمسك به على مدعاهم هذا هو أن النبي عليه السلام قال له:"وإن أخطأت فلك حسنة" والمخطئ ابتداءً وانتهاء غير مستحق للحسنة، واستحقاق الحسنة باعتبار أنه مصيب في الطلب.

ص: 1849

وقال في "التقويم": والأجرة لا يجب إلا بالعمل على سبيل الائتمار بأمر الآمر، فثبت أن المخطئ للحق عند الله مؤتمر بعمله بأمر الله، والائتمار بالأمر يكون صوابًا لا محالة.

(وبقوله تعالى: (وكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا) أخبر أنهما جميعًا أوتيا من الله حكمًا وعلمًا، والخطأ المحض لا يكون حكم الله تعالى، فثبت أن تأويله أنه حكم الله تعالى من حيث إنه صواب في حق العمل لولا الوحي بخلافه.

(وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للمسروق والأسود-)

ص: 1850

وذكر في (التقويم) علقمة مكان الأسود، وذكر في (المبسوط) جندبا مكان الأسود -فقال: وإذا أدرك الرجل مع الإمام في ركعة من المغرب فلما سلم الإمام قام يقضي. قال: يصلي ركعة ويقعد، وهذا استحسان، وفي القياس: يصلي ركعتين ثم يقعد، لأنه يقضي ما فاته فيقضي كما فاته، وتأيد هذا القياس بالسنة وهي قوله عليه السلام (وما فاتكم فاقضوا)

ووجه الاستحسان أن هذه الركعة ثانية هذا المسبوق، والقعدة بعد الركعة الثانية في صلاة المغرب سنة، وهذا لأن الثانية هي التالية للأولى والتالية للأولى في حقه هذه الركعة.

وروي: أن جندبا ومسروقا ابتليا بهذا، فصلى جندب ركعتين ثم قعد، ومسروق ركعة، ثم قعد، ثم صلى ركعة أخرى فسألا ذلك ابن مسعود

ص: 1851

-رضي الله عنه فقال: كلاكما أصاب ولو كنت أنا لصنعت كما صنع مسروق.

وتأويل قوله: كلاكما أصاب أي طريق الاجتهاد.

فأما الحق فواحد غير متعدد، ثم ما يصلي المسبوق مع الإمام آخر صلاته حكما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله في حكم القراءة والقنوت هو اخر صلاته وفي حكم القعدة هو أول صلاته إلى آخره ذكره في المبسوط في باب الحدث.

(وأما قصة بدر؛ فقد عمل رسول الله عليه السلام بإشارة أبي بكر رضي الله عنه فكيف يكون خطأ) من النبي عليه السلام في اجتهاده ولم يكن الاجتهاد من النبي عليه السلام، ومن عمل باجتهاد غيره لا يقال للعامل به أنه أخطأ في اجتهاده.

وقال في "التقويم": إن رسول الله عليه السلام عمل برأي أبي بكر

ص: 1852

رضي الله عنه ولا بد أن يقع عمل رسول الله عليه السلام صوابا إذا أقر عليه، والله تعالى قد قرره عليه فقال تعالى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا) وتأويل العتاب والله أعلم (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) ولكن لك كرامة خصصت بها رخصة (لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ)

سبق بهذه الخصوصية لمسكم العذاب بحكم العزيمة على ما قاله عمر رضي الله عنه.

والوجه الآخر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) قبل الإثخان وقد أثخنت يوم بدر، فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء، ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة، فلولا الكتاب السابق في اباحة الفداء لك لمسكم العذاب.

(والمراد بالآية حكم العزيمة) وهو القتل.

(لقولهم بوجوب الأصلح)؛ لأن الأصلح أن يكون اجتهاد كل مجتهد

ص: 1853

صوابا (وأن يلحق الولي بالنبي) هذا أثر قولهم أيضا بوجوب الأصلح في حق العصمة، فالولي كل مسلم صالح، فإنهم يلحقونه بالنبي في حق الإفضال والإنعام عليه.

(والمتخار من العبارات عندنا أن يقال: إن المجتهد يخطئ ويصيب على تحقيق المراد به) معنى هذا أنا لا نقتصر على قولنا (يخطئ ويصيب) لاحتمال تأويل أنه يخطئ الأحق كما هو قول بعض المعتزلة، فقلنا يخطئ حقيقة كما هو الحق عند الله تعالى ليكون هذا خلافا للمعتزلة ظاهرا وباطنا، لأن قولنا (يخطئ ويصيب) مخالفة لهم ظاهرة.

وقولنا (على تحقيق المراد به) مخالفة باطنا، وهذا أولى؛ لأن مخالفة المبتدع على كلا الوجهين واجب.

ص: 1854

(ويتصل بهذا الأصل مسألة تخصيص العلل)؛ لأن في جواز تخصيص العلل تصويب جميع المحتهدين كما هو مذهب المعتزلة على ما ذكر بعد هذا في الباب المتصل بهذا بقوله: لأن ذلك يؤدي الي تصويب كل مجتهد، ولما كان أصل كل من هذين البابين راجعا إلى أصل واحد فاسد للمعتزلة وهو القول بوجوب الأصلح كانت مسألة تخصيص العلة متصلة بهذا الأصل الذي قالته المعتزلة أن كل مجتهد مصيب لكونهما شعبتي أصل واحد، والله أعلم.

ص: 1855

باب فساد تخصيص المعلل

اعلم أن المعنى من تخصيص العلة هو أن المعلل إذا جعل الوصف المعين علة للحكم المعلوم، ثم وجد ذلك الوصف بعينه ولم يوجب ذلك الحكم المعلوم. قال المعلل: خص ذلك الحكم من هذه العلة لمانع، فكانت العلة مخصوصا منها هذا الحكم.

ص: 1856

وقال بعض العلماء: هذه المسألة فرع لمسألة الاستطاعة.

قالت المعتزلة: الاستطاعة الحقيقية سابقة على الفعل، فقد وجد ما هو علة الفعل ولا فعل لمانع ذكروه فجاز أن توجد العلة ولا حكم لمانع.

ص: 1857

وقال أهل السنة والجماعة: الاستطاعة مقارنة للفعل، ويستحيل تقدمها على الفعل فلا يجوز أن تكون العلة موجودة ولا حكم لها كما في الاستطاعة مع الفعل.

وقال الإمام أبو منصور- رحمه الله: القول بجواز تخصيص العلة نسبة العبث إلى فعل الله تعالى، لأنه أي فائدة في وجود العلة إذا لم يكن لها حكم؟! والعلة ما شرعت إلا للحكم وبدونه لم تكن لشرعيتها عاقبة حميدة، وإذا خلال الفعل عن العاقبة الحميدة كان سفهًا- تعالى الله عن ذلك-.

والدليل أيضًا على فساد تخصيص العلة هو أن دليل الخصوص يشبه

ص: 1858

الاستثناء ويشبه الناسخ كما مر تقريره، وهذا لا يتصور في العلل، لأن الاستثناء تصرف في اللفظ دون المعنى لما أن معنى قوله: لفلان على ألف درهم إلا مائة، ومعنى قوله: لفلان على تسعمائة سواء، والعلة ليست بصيغة فلا يجوز القول فيها يشبه الاستثناء، والنسخ على العلل لا يجوز، لأن العلة لا تجوز أن تكون ناسخةً أو منسوخًا فلا يمكن القول فيه بشبه الناسخ، والتخصيص لا يخلو عن هذين الشبهين ففسد القول بالتخصيص.

فإن قلت: يجوز أن يشبه دليل التخصيص بكل واحد من الاستثناء والناسخ، ثم يثبت له حكم ليس لهما كما في جاز تعليل دليل التخصيص وإن لم يجز تعليلهما على ما مر في باب بيان التخصيص.

قلت: إنما جاز هناك ذلك الحكم ل دليل التخصص من اجتماع الوصفين وهما وصف الاستبدال ووصف التبيين، وهذا لا يتصور في تخصيص العلة، لأن العلة أم معنوي فلم تكن لها صيغة موضوعة حتى يعمل فيها بشبهة الاستثناء، والناسخ خلاف دليل التخصيص فإنه لفظ مستبد بنفسه وليس فيه ما يمنع التعليل فكان قابلًا للتعليل.

وقوله: (فيأمن منه) أي من حكم الجرح.

ص: 1859

(وخيار الشرط) أي خيار الشرط للبائع).

(أما الدليل على صحة ما ادعينا من إبطال خصوص العلل) فالكتاب والمعقول.

أما الكتاب: فقوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به، وذلك الوجه أنهم إذا بينوا أحد هذه المعاني- وهو معنى الذكورة أو معنى الأنوثة أو معنى يجمعهما- أن الحرمة لأجله انتقض علتهم بإقرارهم بالحل في الموضع الآخر مع وجود ذلك المعني فيه، ولو كان التخصيص في علل الأحكام الشرعية جائزًا ما كانوا محجوجين، فإن أحدًا لا يعجز من أن يقول: امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع.

وقد كانوا عقلا يعتقدون الحل في الموضع الآخر لشبهة أو معنى تصور عنهم، وفي قوله:(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) إشارة إلى أن المصير إلى تخصيص

ص: 1860

العلل الشرعية ليس من العلم في شيء فيكون جهلًا.

وأما المعقول: فلأن العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا وبدون التعدية لا تكون صحيحة أصلًا، لأنها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذي يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدي إلى القول بأنها علة صحيحة من غير أن يتعدى الحكم بها إلى شيء من الفروع، وقد أثبتنا فساد هذه القول بالدليل- أي فساد القول بالعلة القاصرة- ثم إن كان تعدية الحكم بها إلى فرع دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها إلى فرع آخر توجد فيه تكل العلة دليل فسادها، ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة للعمل "كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.

(لأن ذلك يؤدي إلى تصويب كل مجتهد) إذ هذه المسألة فرع تلك، فمن قال بتصويب كل مجتهد احتاج إلى القول بتخصيص العلة، لأن العلة إذا وجدت ولا حكم لها تكون منقوضة فيكون المعلل مخطئًا ضرورة، وهو خلاف ما اعتقدوا، لأنهم يرون الأصلح واجبًا وخطأ المعلل ليس بأصلح فلا

ص: 1861

يكون المعلل مخطئًا على ذلك التقدير، فدعاهم ذلك إلى القول بجواز التخصيص، لأن عندهم عدم جواز أن تكون علة المعلل منقوضة ضرورة كون المجتهد مصيبًا، لأنه الأصلح في حق المجتهد.

وعندنا لما جاز خطأ المجتهد جاز انتقاض العلة لجواز الخطأ على المجتهد فهو معني قوله: (يؤدي إلى تصويب كل مجتهد)

وعندهم كما لا يجوز الفساد في الكتاب والسنة لا يجوز الفساد في العلل أيضًا، صار تخصيص العلة نظير تخصيص الكتاب والسنة عندهم، وعندنا لما جاز فسادًا العلة لم تكن العلة نظير الكتاب والسنة.

(وبزيادته أو نقصانه تتبدل العلة فتجيب نسبة العدم إلى عدم العلة)، فإن عدم العلة ينقصان وصف لا يشكل، لأن المجموعة لما صار علة لم تكن علة بانتفاء وصف منه، لن الشيء ينتفي بانتفاء جزئه كانتفاء حرمة الفضل عند انتفاء جزئي علة الربا من القدر والجنس.

ص: 1862

وكذلك نقول: إن الموجب للزكاة شرعًا هو النصاب النامي، وهو الحولي عرفناه بقوله عليه السلام:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" والمراد نفي الوجوب، فإذا كانت العلة بهذا الوصف علة موجبة شرعًا عرفنا

ص: 1863

أن عند انعدام هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة، ولا يلزمنا جواز الأداء، لأن العلة الموجبة غير العلة المجوزة للأداء كما في رؤية الله تعالى فإنها جائزة عقلًا واجبةً شرعًا.

وأما عدم العلة بزيادة الوصف فمثل الأكل ناسيًا، ف إن الأكل ونحوه علة الفطر، لأنه ضد، وقد زاد على هذا في الكل ناسيًا لم يبق هو علة الفطر، لأن وقوعه غير جناية مضاف إلي صاحب الحق فانعدمت العلة فكان الأكل لم يوجد، فلهذا قلنا ببقاء الصوم، لا لأن العلة موجودة والحكم منعدم.

وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعًا البيع المطلق، ومع شرط الخيار لا يكون مطلقًا، بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم كالمعلق بالشرط، وقد بينا أن المعلق بالشرط غير المطلق فكان البيع ف ي حق الحكم معدومًا، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان وصف.

ص: 1864

(فالذي جعل عندهم دليل الخصوص جعلناه دليل العدم) يعيني أن النص الذي يخالف تلك العلة عندهم دليل خصوص تلك العلة، وعندنا ذلك النص دليل عدم العلة، لأن شرطة صحة العلة ألا تكون العلة معارضة للنص، فإذا وجد النص على خلاف العلة فات شرط العلة فانتفت العلة ضرورة، وكذلك في نظائرها من الإجماع والضرورة.

(وإنما يلزم الخصوص على العلل الطردية) كما في تعليل الشافعي: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين والرجلين. فخصت تلك العلة في مسح الخف فإنه ركن أيضًا ومع ذلك لم يسن التثليث فيه، (لأنها قائمة بصيغتها) يعيني أنها صارت عللا لصورة الأوصاف لا لمعانيها، فإذا وجد صورة الوصف ولا حكم وجب القول بالتخصيص لا محالة كما وجدت صيغة العموم من الكتاب والسنة ولا حكم في البعض.

وقوله: (فلزم على هذا أنه لم يحرم الأخوات) أي فيشكل على هذا

ص: 1865

التعليل عدم حرمة الأخوات أي بطريق التعاقب لا بطريق الجمع.

ألا ترى أن عثمان ذا النورين- رضي الله عنه تزوج بنتي رسول الله عليه السلام على طريق التعاقب فسمي به ذا النورين، أنه مخصوص بالنص، وهو قوله تعالى:(وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ) وقولة تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) وهي لم تجعل علة عند معارضة النص.

(وفي هذا معارضة)، لأن في النص الموجب لحرمة المصاهرة ذكر الأمهات والبنات أي بطريق العبارة، والآباء والأبناء خاصة أي طريق الدلالة، فامتداد الحرمة على الأخوات والعمات والخالات يكون تغييرا وإثباتًا لحرمة أخرى، لأن المقصود غي الممتد، وإنما يعلل المنصوص على وجه لا يلزم منه تغيير المنصوص، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع قيام العلة.

وكذلك إن ألزم أن الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب بينهما أمس فالتخريج هكذا، نقول: إنه إنما أتعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد النص، وهو قوله تعالى:(وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ).

ص: 1866

وقوله تعالى: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شيءتُمْ).

الطوية: الضمير والاعتقاد، والله أعلم.

ص: 1867