الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان المقالة الثانية
المراد من المقالة الثانية الأولى، سماها ثانية باعتبار الشرح والتقرير: وهذا لأنه ذكر قول أهل الطرد في التقسيم أولًا وذكر قول أئمة الفقه من السلف والخلف ثانيًا، ثم ذكر بيان قول أئمة الفقه متصلًا بالتقسيم، فوقعت المقالة الأولي وهو قول أهل الطرد ثانية في حق البيان فسماها ثانية لذلك.
(قسم في بيان الحجة) أي: في بيان حجية الطرد، أي حجية الطرد بماذا تكون؟ بمجرد الوجود عند الوجود أو كان العدم مع العدم شرطًا لصحة الطرد، أو كان الدوران عل وجه يكون النص قائمًا في الحالين، ولا حكم له؟
قوله: (فقال بعضهم: هو الوجود عند الوجود) أي: يوجد الحكم المتنازع فيه عند وجود هذا الوصف، يعني كلما وجد هذا الوصف وجد هذا الحكم وهذا حجة عندهم، (وزاد بعضهم العدم عند العدم) يعني: كلما عدم هذا الوصف هذا الحكم، ولكن هذا قول بألا يكون للحكم الشرعي إلا علة واحدة وهو باطل، لأنهم اتفقوا على أن الحكم الشرعي جاز أن يعلل بعلل شتى فما يفضي إلى انتفاء هذا فهو باطل.
(وزاد بعضهم) على هذا الذي ذكر (قيام النص في الحالين) والحكم غير مضاف إلى النص، وهذا باطل أيضًا، لأن شرط صحة التعليل أن يبقى
الحكم في الأصل بعد التعليل على ما كان قبله، فإذا كان بعد التعليل لا يضاف الحكم إلى النص كان ذلك مفسدًا للقياس، فكيف يجعل شرطًا لصحة التعليل؟ ولأن ركن القياس أن يكون الوصف مما اشتمل عليه النص، وإذا كان النص قائمًا ولا حكم له لم يكن الوصف مما اشتمل عليه النص فلم يكن ركن القياس موجودًا، والشيء لا يوجد مع فوات ركنه فكان فاسدًا، والفاسد لا ينتج إلا لفاسد، ونظيره ما قالوا في آية الوضوء في قوله تعالى:() يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ).
فإن فيها ذكر القيام إلى الصلاة، فجعل القيام إلى الصلاة موجبًا للوضوء، والموجب للوضوء الحدث وهو دائر معه وجودًا وعدمًا، والنص موجود في حالي الوجود والعدم، ولا يضاف الحكم إليه، فإنه إذا قام إلى الصلاة وهو غير محدث لا تجب الطهارة مع قيام النص، وإذا كان محدثًا تجب الطهارة وإن لم يقم إلى الصلاة.
وقولهِ: (بأن دلائل صحة القياس) أي: من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول على ما ذكره.
(إلا بمعنى معقول يوجب تمييزًا) وهو قوله: (أشهد).
(فكذلك) أي: نعم كذلك.
(ومجرد الاطراد لا يميز، وكذلك العدم عند العدم، لأنه يزاحمه الشرط) أي: إن الحكمة كما يدور مع العلة وجودا وعدما فكذلك يدور مع الشرط أيضًا وجودًا وعدمًا.
ألا ترى أن مالية المبيع شرط صحة البيع، وهي دائرة مع صحة البيع وجودًا وعدمًا، أي أينما وجدت المالية وجدت صحة البيع عند مباشرة البيع وأينما انعدمت انعدمت صحة البيع، وكذلك صحة الصلاة مع اشتراط
الطهارة أصلًا وخلفًا دائرة وجودًا وعدمًا، وكذلك في الشرط الصريح.
وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله: فإن من قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فاعتق مع هذا الكلام يدور مع الدخول وجودًا وعدمًا، واحدا لا يقول إن دخول الدار علة العتق بل هو شرط العتق، ثم هب كان الأصل هو دوران الحكم مع العلة ولكن مع هذا احتمال الدوران مع الشرط قائم، وبالاحتمال لا تثبت العلة.
(لأنه يقال له: وما يدريك أنه لم يبق له أصل مناقض أو معارض؟) فلابد له من أن يقول: لأني ما علمت له أصلًا مناقضًا أو معارضًا، فكان ماله الجهل مع أنه لا يمكن له استقراء جميع الأصول، لأن المعاني المستنبطة من الكتاب غير متناهية فكان استقراء جميع الأصول محالًا، (فلا يصح شرط عدمه) أي لا يصلح أن يجعل العدم شرطًا عند العدم لصحة العلة.
(لأنه يحل له القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب) أي: عند قلة
الغضب، (ولا يحل القضاء عند شغله بغير الغضب) بأن يكون حاقبًا أو جائعًا محوجًا، أو عطشان أو مهقمًا، (إلا أن هذا الشرط) وهو قيام النص ولا حكم له.
(وذلك غير مسلم) أي دعواهم في هذين النصين ب أنه لا حكم لهما.
(لأنه يفارقه بحاله) أي: لأن البدل يفارق الأصل بحالة وهي التلويث واشتراط عدم الماء.
فإن ما حال الماء التطهير وعدم اشتراط عدم الماء (لا بسببه)، فإن سبب الوضوء وجوب الصلاة مع شرط الحدث، وشرط الحدث إن لم يذكر في الأصل ذكر في ذكر الخلف وهو قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فكان مذكورًا في الأصل أيضًا، لأن الخلف لا يفارق الأصل في حق السبب. (وهذا النظم والله أعلم). أي: وإنما ورد نظم القرآن على هذا الطريق، وهو أن يذكر الحدث في التيمم وفي أعظم الطهرين، ولم يذكر في الوضوء، (لأن الوضوء مطهر فدل على قيام النجاسة)، لأن المطهر ما يثبت الطهارة ف يقتضي ثبوت النجاسة ليصح إثبات الطهارة، لأن إثبات الثابت محال (بخلاف التيمم)، لأن التراب غير مطهر ذاتا، بل هو ملوث فلم يقتض ثبوت النجاسة فاحتاج السامع إلى أن يذكر الحدث صريحًا حتى يعلم أن ذلك شرط وجوب الطهارة كما في الوضوء.
(والوضوء متعلق بالصلاة) أي: متعلق بالصلاة من حيث السببية، فإن سبب وجوب الوضوء وجوب الصلاة، والحدث غير موجب بل شرط
للوجوب.
(وأما الغسل فلا يسن لكل صلاة فلم يشرع إلا مقرونًا بالحدث) ضرورة عدم تنوعه، ولا يقال بأن الغسل سنة للجمعة فيثبت التنوع، لأنا نقول: المدعى أنه لا يسن لكل صلاة فلم يتجه نقضًا، أو نقول: كونه سنة لصلاة الجمعة غير مسلم، لأن الغسل عندي لليوم لا للصلاة، ولئن سلمنا أنه للصلاة فالأصل في يوم الجمعة الظهر فلا يسن له.
ويجوز أن يكون مسنونًا لمعنى آخر غير الصلاة وهو أنه يوم اجتماع الناس فيحضر البدويون والقرويون فتوجد منهم الرائحة الكريهة فيسن الغسل دفعًا للأذى عمن يجاوره، أو الخطاب المذكور في قوله تعالى:(وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) لجميع المسلمين ووجوب الجمعة مختص بالبعض فثبوت الحكم على العموم أولي.
(فلان الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود أو كثرة أداء الشهادة)، فإن نظرت على الأصول هو أن هذا الوصف موجود في هذا الأصل وموجود
في هذا الأصل الآخر وكذا وكذا يوجب كثرة الشهود، والنظر إلى نفس الوصف وهو واحد يوجد في أصول كثيرة يوجب كثرة أداء الشهادة.
مثاله قولهم: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه، وهذا الوصف وهو الركنية موجود في غسل الوجه اليدين وفي غسل الرجلين فكل واحد من هذه الغسلات يصلح أصلًا بنفسه فكان فيه كثرة الشهودِ، إلا أن هذا الوصف لما كان واحدًا وهو الركنية يوجد في مواضع كثيرة كان فيه تكثير أداء الشهادة.
(بل بأهلية الشاهد) وهي أن يكون الشاهد حرًا عاقلًا بالغًا، (وعدالته) وهي أن يكون محترزًا عن محظور دينه (واختصاص أدائه) وهو أن يقول: أشهد. لا أن يقول: أعلم أو أتيقن، (ولأن الوجود قد يكون اتفاقًا) أي ولأن وجود الحكم عند وجود وصف من الأوصاف قد يكون بسبب اتفاق
الحال لا أن يكون لذلك الوصف اثر في إثبات ذلك الحكم.
ألا ترى أن للحنطة أوصافًا سوى الكيل والطعم، فإنها شيءِ، حب، جسيم أمر اللون، مشقوق البطن، ويجري الربا في بيع الحنطة بالحنطة على اختلاف الأصليين وفيها هذه الأوصاف.
ولا شك أن هذه الأوصاف مما لا تأثير لها في جريان الربا، بل جريان الربا في بيع الحنطة بالحنطة عند وجود هذه الأوصاف لم يكن لوجود بعض هذه الأوصاف أو لوجود كلها بل وجود هذه الأوصاف كان بسبب اتفاق الحال، ولم يضف الحكم غليها حتى لا تصلح التعدية منها إلى موضع آخر إذا وجد شيء من هذه الأوصاف في ذلك الموضع، ونظير هذا أيضًا في علم الكلام ما قاله أهل الإسلام: إن الله تعالى لا يجوز أن يكون جوهرًا خلافًا لما يقوله النصارى.
فإنهم قالوا: الجوهر في الشاهد قائم بالذات، فكان كونه قائمًا بالذات بمنزلة الجوهرية. ويعرف ذلك بالطرد والعكس يعني في الشهد كل جوهر قائم بالذات، وكل قائم بالذات فهو جوهر، فإذا ثبت كون الباري تعالى قائمًا بالذات ثبت كونه جوهرًا.
قلنا: الجوهر في الشاهد كما يدور مع القائم بالذات وجودًا وعدمًا ويطرد وينعكس، كذلك يطرد وينعكس مع وصف آخر ويدور معه وجودًا وعدمًا،
وهو أنه أصل للمتركبات ولا يجوز أن يكون لشيء واحد ماهيتان فلابد أن يكون أحدهما اتفاقيا والآخر لا، وكونه قائما بالذات في الشاهد من أوصاف الوجود وكونه أصلًا للمتركبات هو المؤثر في استحقاق اسم الجوهر لما عرف من اشتقاق اللفظ واستعمال أهل الكلام.
(والعدم قد يقع، لأنه شرط) أي: عدم الحكم قد يكون، لأن ذلك الوصف شرط، يعنى أن عدم الحكم عند عدم الوصف لا يقتضي أن يكون ذلك علة، لأن الشيء ينعدم بعدم شرطه كما ينعدم بعم علته، فإن البيع كما ينعدم عند عدم ركنه وهو قوله: بعت واشتريت، كذلك ينعدم عند عدم مالية المبيع.
(ألا ترى أن وجود الشيء ليس بعلة لبقائه) حتى يقال وجد ولم يبق، فإن وجود الشيء لو كان علة لبقائه لما تصور الفناء كما لا يتصور البقاء على العدل حال الوجود، فلما لم يكن علة لبقائه في نفسه لم يصلح عالة للوجود في غيره بالطريق الأولي.
(وكذلك وجود الحكم، ولا علة لا يصلح دليلًا) أي: على فساد العلة لاحتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى.
ألا ترى أن البيع علة لثبوت الملك، ووجود الملك عند عدم البيع بأن يوجد الملك بالإرث أو بقبول الهبة لا يدل على كون البيع غير علة، لاحتمال ثبوت الحكم الشرعي بعلل شتى أي على طريق التناوب والبدلية بخلاف الحكم العقلي، فإنه لا يجوز أن يكون معلولًا بعلل شتى.
(ووجود العلة ولا حكم بنفسه لا يصلح مناقضًا، لاحتمال أن ينعدم الحكم بفوت وصف من العلة)، فكان انعدم الحكم لانعدام علته لا بوجود علته مع عدم الحكم، (فلا يكون مناقضة) وإن كان يتراءى ذلك كقولنا: مسح في الوضوء فلا يسن تثليثهِ، ولا يلزم عليه الاستنجاء وهو يتراءى مناقضًا، لأنه مسح ويسن تثليثه.
قلنا: إنه ليس بمسح بل هو إزالة النجاسةِ. ألا ترى أنه إذا أحد ولم يتلطخ به بدنه لم يكن الاستنجاء سنه على ما يجيء في باب بيان وجوه دفع المناقضة، وأشار إليه في "التقويم" إلى أن عدم الحكم مع وجود الوصف لا يدل على الفسادِ، لأن العلة قد توجد صحيحة دون الحكم لمانع أو نقصان شيء ليس هو من ركن العلة نحو البيع بشرط الخيار للبائع.
فالبيع موجود ولا حكم له للمانع، وكذلك النصاب موجود ولا حكم له قبل الحول، والحول ليس من ركن العلة ولا مانع له، لكن النصاب بصفة البقاء حولًا صار علة، فبدون صفة البقاء لا يعمل مع وجود ما هو ركن العلة بتمامه حتى صح تعجيل الأداء قبل الحول ولا ذكره.
(وقد دل عليه التعليل تخصيصا) أي: لا يكون ذكر الوصف بأنه عله لهذا الحكم تخصيصًا لتلك العلة بهذا الحكم، أي لا يكون تخصيصا بل يجوز أن يكون لهذا الحكم علة أخرى يثبت هذا الحكم بتلك العلة عند عدم هذا الوصف، لأن الحكم يجوز أن يثبت بعلل شتى على طريق البدلية كالملك يثبت بالشراء وبالإرث وبقبول الهبة، فكان انتصاب قوله:(تخصيصا) على أنه خبر يكون، لأن قوله:(ولا ذكره) معطوف على قوله: (فلان يكون مناقضة).
وقيل: المراد من التخصيص هذا هو تخصيص العلة المؤثرة المعروف خلافه بين عامة العلماء وبين القاضي الإمام أبي زيد رحمهم الله فإن ذلك
جائز عنده خلافًا لعامة العلماءِ، يعني لو ذكر الخصم الوصف مستدلًا بدليل على أن الوصف هو العلة لكن لم يثبت الحكم هنا به المانع لا يكون هذا عند عامة في باب فساد تخصيص العلة إن شاء الله تعالى، لكن الأوجه ما ذكرناه أولًا لسوق الكلام إليه، لأن الكلم في إبطال الاستدلال بالدوران على أنه علة وذلك إنما يحصل بما قلناه.
فالحاصل أنه نفى بهذه الأوجه الثلاثة صحة عليه الدوران وجودًا وعدمًا.
أحدها: أن وجود الحكم وليس فيه العلة المعينة التي وقع النزاع فيها لا يدل ذلك على فساد تلك العلة، لما ذكرنا من احتمال ثبوت الحكم بعلل شتى على طريق البدلية.
والثاني: عكسه وهو أن توجد العلة ولا حكم لها، فإنه لا يدل على فساد العلة لما ذكرنا من احتمال فوات وصف له بتوقف تلك العلة إلى وجوده في إثبات الحكم.
والثالث: تعليل الحكم بعلة لا يدل على التخصيص بتلك العلة، فإن من قال: ثبت لزيد ملك العقار لأنه اشتراه لا يوجد ذلك التخصيص ولا ينفي عليه الهبة والإرث في إثبات ذلك الحكم.
(إلا أن هذا) أي: الطرد وجودًا وعدمًا، وهذا استثناء من قوله:(فلأن الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود) من حيث المعنى فكان هذا فاسدًا ِإلا أن هذه إلى آخره.
وقوله: (فلا يصلح حجة للإثبات) -إلى أن قال- (إلا أن يقع الاختلاف في حكم بسبب معين) أي التعليل بالنفي والعدم لا يصح حجة لإثبات شيء ما كان الاختلاف في السبب كما في إسلام المروي في المروي، فأنا اختلفنا مع الشافعي رحمه الله في سبب حرمة النسيئة فعنده الطم أو الثمنية، وعندنا القدر أو الجنسِ، فلذلك اختلفنا أيضًا معه في حكم هذه المسألة بناء على الاختلاف في السبب.
وأما إذا اتفقنا في سبب حكم بأنه لا سبب لذلك الحكم غير ذلك السبب المعين، فحينئذ يجوز التعليل بالعدم لانتفاء ذلك الحكم، لأنه لما كان السبب واحدًا كان عدم ذلك السبب دليلًا على عدم هذا الحكم بالضرورة.
(وهذا مثل ما علل محمد رحمه الله في ولد المغصوب) الذي ولد في يد الغاصب أنه غير مضمون، لأنه لم يغصب الولد، فإنه اتفقوا على أن ضمان الغصب لا ي ثبت إلا بالغصب، فعدم الغصب يدل على عدم الضمان ثم مع ذلك اختلفوا في حكم الضمان ههنا بعد اتفاقهم على أن سبب له سوى الغصب باعتبار اختلافهم في تفسير الغصب.
فعند الشافعي هو إن إثبات اليد المبطلة فيه قصدي وإزالة اليد المحقة فيه ضمني، وعندنا على العكس، وعند هذا وقع الاختلاف ف ي ولد المغصوبة فعندنا لا يضمن، لأنه لم يوجد فيه إزالة اليد المحقة، لأنه لم يكن في يد المالك حتى يزيله وعنده يضمن لثبوت اليد المبطلة فيه، لأن هذا الولد ملك مالك الأم وهو في يد غير مالكه بدون رضاه، فكان حد الغصب فيه موجودًا فيضمن.
(لأن ذلك لا يوجد بغيره) أي الخمس لا يوجد وجوبه بدون الإيجاف (بل هو من جنس ما يثبت معها) أي من الشبهات.
ألا ترى أن تفريق الصفقة في البيع يفسد البيع بأن يقول: بعت منك هذين العبدين بكذا فقبل أحدهما لا يجوز، ولو قبل نكاح إحدى امرأتين في مثل هذه الصورة صح، وكذا إذا جمع بين امرأتين أحدهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي حل له نكاحها.
وكذلك يثبت النكاح بالهزل والإكراه، والمال لا، (فكان النكاح فوق الأموال في هذا بدرجة) وهي ثبوت النكاح مع الشبهات وعدم ثبوت البياعات معها، ثم لما ثبت المال بشهادة رجل وامرأتين مع أنه لا يثبت مع هذه الشبهات كان النكاح أولي ان يثبت بشهادة رجل وامرأتين، إذ هو مما يثبت بالشبهات.
(وكذلك في أخواتها) أي وكذلك الحكم في أخوات مسألة النكاح، وهي: عتق الأخ بالملك، ولحوق المبتوتة طلاق، وعدم جواز إسلام المروي في المروي، وقلنا: إن الأخ يعتق بالملك وإن لم يكن بينهما بعضية، لأن في الأخوة معنى آخر أوجب عتقه وهو القرابة المحرمة للنكاح، وهذا المعنى يوجب العتق، لأنها لما صينت عن أدنى الذلين وجب أن تصان عن أعلاهما وهو ملك الرقبة بالطريق الأولى.
وكذلك قلنا: إن الطلاق يلحق المبتوتة أي المعتدة من طلاق بائن، لأنه بقي فيها أثر من آثار النكاح وهو العدة، فإنها محبوسة عن التزوج بزوج آخر للعدة، كما هي محبوسة عنه حال قيام النكاح فيقع عليها الطلاق كما لو كانت منكوحة، وكذلك نقول في إسلام المروي في المروي: يجوز أن يكون فيه معنى يوجب حرمته وهو اتحاد الجنسية، والجنسية بانفرادها تحرم النسيئة.
(عرف وجوبه) أي: ثبوته (على ذلك دلت مسائلهم) أي: مسائلنا ومسائل الشافعي رحمه الله.
(وهي أصل) أي: البراءة أصل (بل صار قول المدعي معارضًا) بقول المنكر على السواء، فلما كانا متعارضين على السواء لم يكن قول كل واحد منهما حجة على الآخر، ولكن كان حجة في حق نفسه، فجوزنا الصلح
وجعلنا بدل الصلح في حق المدعي اعتياضًا عن حقه، وفي حق المنكر كان لافتداء اليمين وقطع الخصومة، فلو لم يجز الصلح لكان قول المنكر حجة على المدعي، ولا يقال: لو جاز الصلح يجعل قول المدعي حجة على خصمه الذي هو المنكر؛ لأنا نقول: إن بدل الصلح من جانب المنكر كان لافتداء اليمين وقطع الخصومة لا لثبوت الحق عليه، (والشافعي جعله موجبًا) أي: جعل براءة الذمة موجبًا، والتذكير لتأويل الأصل، لأنه هو المذكور قريبًا منه.
(وقلنا في الشقص إذا بيع) وإنما وضع المسألة في بعض الشقص دون الجوار، ليتحقق خلاف الشافعي، لأنه لا يقول بالشفعة في الجوار (ملك الطالب) أي: ملك الشفيع.
(فإن القول قول المولي) وهو ثبوت الدخول حتى لا يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر، وهو أن الأصل عدم
الدخول، ولكن لما كان قوله في الحال محتملًا وقوله المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على المولى بما هو محتمل. كذا قاله الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
وقوله: (ذكرنا) إشارة إلى قوله: وعندنا هذا لا يكون حجة للإيجاب.
(حتى تعذر نسخه) كما يتعذر النسخ حال إثبات النص، فعلم بهذا أن في البقاء إثباتًا أيضًا.
(إن الدليل الموجب للحكم لا يوجب بقاءه كالإيجاد لا يوجب البقاء حتى صح الإفناء).
بيان هذا أن الدليل الموجب للحكم لو كان يوجب بقاءه لما احتمل الزوال، كالحكم في حال ثبوته لا يحتمل السقوط؛ لما فيه من الإستحالة وهو وجود المتنافيين كالإيجاد لما كان يوجب الوجود لم يحتمل الفناء حال وجوده، وحيث صح الإفناء في الزمان الثاني علم أن الإيجاد لايوجب البقاء.
ولهذا لايجوز النسخ في حال ثبوت الحكم؛ لأن النسخ رفع وإبطال ورفع الشيء في حال ثبوته محال، وجاز النسخ في حال البقاء وقت حياة النبي عليه السلام؛ لما أن الأمر في حال حياة النبي عليه السلام، فإن البقاء بدليله وهو تقرير النبي عليه السلام على ذلك على ماقال عليه السلام:"الحلال ماجرى على لساني إلى يوم القيامة، والحرام ماجرى على لساني إلى يوم القيامة".
ولأن كون النبي عليه السلام خاتم النبيين ثبت بدليل قطعي، والنسخ إنما يثبت بالوحي، ولا وحي بعده فلا يثبت النسخ أيضا بالدليل القطعي، فكان البقاء ثابتا بالدليل سوى الدليل الموجب للحكم.
وأما الجواب عن فصل الطهارة وأخواتها: إن حكم الطهارة وأخواتها مؤبد، ولهذا لا يصح توقيته.
فإنه إذا اشترى على أن يثبت الملك له سنة أو سنتين لا يجوز، وكذلك في النكاح، إلا أنه يحتمل السقوط بطريق المعاارضة على سبيل المناقضة؛ إذ المعارضة على نوعين:
معارضة خالصة: وهي المعارضة في الحكم مع بقاء الدليل على إثبات الحكم على خلاف مايقتضيه الدليل المعارض، فيحتاج المعلل إلى الترجيح.
وأما المعارضة على سبيل المناقضة: فهي مايعارض في الأول في الحكم على وجه ينقض الدليل الأول كما هو حكم المناقضة الخالصة، والذي نحن فيه من قبيل ذلك، فإن حكم البيع وهو الملك يسقط على سبيل المناقضة كأن البيع انتقض لا أن الدليل وهو البيع باق مع وجود مايسقطه.
وقوله: (هذا لأن ذلك) أي: لأن البقاء (بمنزلة أعراض تحدث) يعني أن الحكم فيما يحتمل البقاء بعد الوجود بمنزلة أعراض تحدث؛ إذ العرض لا يبقى وقتين، فكان البقاء في الزمان الثاني لا يكون للبقاء في الزمان الثالث، وهو يقرر ما قلنا: إن الموجب لحكم لا يوجب بقاءه، وإنما قال:"بمنزلة أعراض" ولم يقل: " لأن ذلك أعراض تحدث "؛ لما أن الأعراض حقيقة إنما تطلق في الإصطلاح على المعاني التي تقوم في الأعيان كالسواد، والبياض، والحركة، والسكون.
وأما البقاء في العين الباقي فمعنى راجع إلى ذات العين، إلا أن ذلك معنى أيضا يقوم بالعين الباقي فكان بمنزلة العرض الذي هو غير راجع إلى ذات العين بل مغاير له من كل وجه.
(فلا يصح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره) وهو البقاء الذي
هو العرض.
(ألا ترى عدم الملك لا يمنع الملك) ولوكان الموجب للعدم موجبا للعدم أيضا في ثاني الحال لما صح تملكه في ثاني الحال، وكذلك في عكسه (إن وجود الملك لا يمنع الزوال)، ولو كان الموجب للوجود موجبا للبقاء في الزمان الثاني لمنع الموجب للزوال عن إزالته.
(إنما صح لما ذكرنا) وهو ان الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه؛ وهذا لأن النسخ إنما صح في حال البقاء لا في حال الثبوت؛ لأن النسخ رفع والرفع إنما يرد على الثابت لا على حال الثبوت.
(لم تحتمل النسخ لبقائها) أي لبقاء دلائل الشرع (بدليل موجب) أي موجب للبقاء؛ لأن إزالة البقاء إنما تكون بالنسخ، وشرط صحة النسخ بقاء النبي عليه السلام، وثبت ختم النبوة بنبينا عليه السلام بالدليل القطعي، وهو
قوله تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)
فثبت أن بقاء دلائل الشرع كان بدليل قطعي موجب للبقاء، فلم يكن ذلك علينا حجة؛ لأن كلامنا في موجود لم يقم فيه دليل يوجب بقاءه كما في براءة الذمة عن الدين، وبقاء ثبوت الملك للشفيع الذي يطلب الشفعة بملك مافي يده.
(وكذلك الأمر المطلق في حياة النبي عليه السلام أي الأمر المطلق في حياة النبي عليه السلام في بقائه نظير حياة المفقود من هذا الوجه، إلا أن الفرق بينهما أن المفقود لم يجعل حيا في مال قريبه الذي مات؛ لأن الدليل لم يوجد
في حق حياته في الحال بخلاف النص وقت حياة النبي عليه السلام للحكم قطعا.
وإن احتمل النسخ مالم يعلم الناسخ؛ لأن الإبتلاء أصل في الأحكام الشرعية، والتكليف كان ثابتا بالنص، ومالم يعلم انتساخه بالدليل القطعي لم يرتفع التكليف عن المكلف بخلاف مال القريب المفقود؛ فإنه لم يكن ملكا له فلا يكون له أيضا ملكا باحتمال بقاء حياته، فكانا على طرفي نقيض.
وكذلك الأمر المطلق- إلى قوله: (يحتمل التوقيت) فإنه لو ورد الأمر من الشارع بقوله: فإن شرعية هذا الأمر إلى سنة أو سنتين بتبين مدة شرعية لكان جائزا.
ألا ترى أنه جاء التوقيت مجملا كما في قوله تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي: القتل والسبي.
وكذلك قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ) إلى قوله (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) أي: مخرجا بالرجم أو بالجلد، بخلاف البيع والشراء؛ لأنه لا يجوز التوقيت فيه لا مجملاً ولا مفسرًا.
(وكذلك حكم الطهارة وحكم الحدث لا يحتمل التوقيت)، فكان نظير الملك بالشراء، فإنه لا يجوز في الشراء أن يقول: اشتريت هذا العبد إلى سنة أو إلى سنتين، وكذلك في الطهارة لايجوز أن يقول: جعلت طهارتي هذه إلى وقت الظهر أو نحوه.
(إنه صحيح) أي إن شراءه صحيح (على اختلاف الأصلين).
أما على أصلنا (فلأن قول كل واحد منهما لا يعدو قائلة فلو لم يجز البيع لعدا قائله) وهو البائع؛ لأن قول كل واحد منهما حجة في حق نفسه، فإقرار المشتري بأنه حر لايظهر في حق البائع ولا يقال: إنه لو جاز لعدا قائله، وصار قول البائع: إنه عبد حجة على المشتري؛ حيث نفذ البيع ووجب على المشتري الثمن؛ لأنا نقول ليس كذلك، لأنه إنما يكون كذلك أن لو بقى العبد ملكا للمشتري بل إنه حر، فعلم أن قول البائع لم يظهر في حقه.
وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله: الشاهد بعتق العبد على مولاه إذا اشتراه صح الشراء ولزمة الثمن؛ لأن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم
يصر حجة على مولى العبد حتى جاز له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الإعتياض عنه بالبيع من الشاهد، وإن كان زعم الشاهد معتبرا في حق الشاهد، حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهة المشتري؛ حتى لا يكون ولاؤه له.
وقوله: (فصار حجه على خصمه) وهو المشتري حيث يثبت رقبته في حق المشتري ثم يعتق.
وقوله: (لأن من الغايات ما تدخل) أي في حكم المغيا، نحو قوله
تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) فإن المسجد الأقصى دخل تحت الإسراء، وكذلك قوله تعالى:(وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، وقول من قال: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، والكلام مسوق لحفظ القرآن كله فكان داخلا.
(ومنها ما لا تدخل) نحو قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وقوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)
(لأن الشك أمر حادث فلا يثبت بغير علة) يعني أن كل حادث يفتقر إلى السبب، والشك حادث فلا يثبت بغير سبب، وما قاله زفر لا يصلح سببا للشك، لأن مايدخل من الغايات في المغيا دخل بدليل، ومالا يدخل لا يدخل بدليل، فلا يصلح هذا متعارضا في غسل المرافق؛ لأن في غسل المرافق التعارض غير موجود؛ لأن شرط التعارض إتحاد المحل كما في سؤر الحمار فوقع التعارض هناك ولم يكن الترجيح فوقع التعارض من هناك ولم يكن الترجيح فوقع الشك ولا كذلك ههنا، (ولأنه يقال له: أتعلم أن هذا من أي القسمين؟)
وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله: قلنا له: هل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل، فإن قال: أعلم ذلك، قلنا: فإذن عليك ألا تشك فيه بل تلحقه بما هو من نوعه بدليل، وإن قال: لا أعلم ذلك.
قلنا له: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه، وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عند دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل.
(وهذا ليس بتعليل لا ظاهرا) أي طردا (ولا باطنا) أي مؤثرا (ولا رجوعا إلى أصل) أي ليس له مقيس عليه، وقيل: لا ظاهرًا أي لا قياساً
جليًا ولا باطنًا أي لا قياسا خفيا، وهو المسمى بالإستحسان، فالقياس متنوع إلى هذين النوعين، فما كان خارجا عنها لا يكون قياسا.
وقوله: (ولا رجوعا إلى الأصل)؛ لأنه قال: كما إذا مسه وهو يبول فجعل نفس مس الذكر مقيسا، وجعل مس الذكر مع وصف آخر مقيسا عليه وهو الأصل، وبذلك الوصف يقع الفرق بين الأصل والفرع فلم يبق إلا قياس مس الذكر بمس الذكر، فصار كأنه قال: مس الذكر فينقض طهارته كما إذا مس الذكر وهذا باطل.
(وكذلك) هذا التقرير في قولهم (لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب كما إذا أدى بعض بدل الكتابة)؛ لأن بهذا الوصف وهو أداء بعض البدل وقع الفرق بين المتنازع وبينه، فلم يبق إلا قوله: لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب؛ لأنه مكاتب وهو معنى قول المصنف رحمه الله (فلا يبقى إلا
الدعوى).
وأما الاحتجاج بوصف (مختلف فيه فمثل قولهم فيمن ملك أخاه) أنه لا يعتق؛ (لأنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق كابن العم).
قلنا: هذا وصف مختلف فيه فلا يصح الاحتجاج به على الخصم، فإن التكفير بتحرير الأب يصح ومع ذلك يعتق عندنا، وفي الأخ ماقال من صحة التكفير بتحريره لا نقول كذلك فإن عنده صحة التحرير بعدما ملكه، فإن عنده الأخ لا يعتق بالملك؛ فلذلك يصح تكفيره بالإعتاق باختياره.
وعندنا لا يصح اعتاقه بهذا الوصف، فإنه يعتق قبل أن يعتقه كما ملكه جبرا بدون اختيار المشتري، وكون الوصف مختلفا فيه وهو أنه جعل صحة التكفير بإعتاقه وصف عدم العتق بالملك، فكان فيه إشارة إلى أن عدم صحة التكفير بالإعتاق علة إثبات العتق بالملك، وعندنا في العتق بالملك لا يحتاج إلى هذا الوصف، فكان وصف العتق بالملك مختلفا فيه.
وكذلك في المسألة الثانية جعل صحة التكفير بالإعتاق علة فساد الكتابة، فكان فيه إشارة إلى أن الكتابة إنما تصح إذا لم يصح التكفير بإعتاقه، وعندنا لا يشترط لصحة عقد الكتابة عدم صحة التكفير بالإعتاق، بل يصح عقد الكتابة مع أن التكفير صحيح بإعتاقه
…
(فكان شرطا لجواز الصلاة كالثلاث) أي ثلاث آيات عندهما شرط جواز الصلاة، فيجب أن يكون سبع آيات وهي الفاتحة شرط جواز الصلاة
أيضًا؛ لما أن بين الثلاث والسبع مناسبة وتعلقا في مشروع من العبادات وهو صوم المتعة، فإن المتمتع أو القارن إذا لم يجد الهدي صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
(ولأن الثلاث أحد عددي مدة المسح) إلى آخره. بهذا التعليل يحتج الشافعي على أبي يوسف ومحمد رحمهم الله ويقول: الثلاث أحد عددي مدة المسح، فلا تصح به الصلاة كالواحدة. يعني أجمعنا واتفقنا معا أن الآية الواحدة لا تجوز بها الصلاة، فيجب ألا تجوز الصلاة بثلاث آيات أيضا؛ لما أن بين عدد الثلاث والواحدة مناسبة وتعلقا في مشروع من العبادات وهو مدة المسح، فإن مدة مسح المسافر ثلاثة أيام ومدة مسح المقيم يوم واحد، فكان حكم الثلاث كحكم الواحدة، فلما لم تجز بالواحدة وجب ألا تجوز بالثلاث، (ولأن الثلاث أو الآية) إلى آخره. يحتج بهذا التعليل الشافعي
على أبي حنيفة رضي الله عنه على معنى أن كلا من ثلاث آيات أو آية واحدة ودون الآية ناقص عن السبع في العدد، فكان بينهما مناسبة من حيث النقصان عن عدد السبع، فكان بينهما مناسبة من حيث النقصان عن عدد السبع، فلما لم تجز بما دون الآية بالإتفاق وجب ألا تجوز أيضا بثلاث آيات أو آية واحدة.
(ولأن هذه عبادة) والإشارة إلى الصلاة، يعني ينبغي أن يكون لها سبع آيات وهي الفاتحة من أركان الصلاة، كما أن سبعة أشواط من الطواف من أركان الحج.
(لأن لا دليل بمنزلة لا رجل في الدار، وهذا لا يحتمل) يعني أن قوله: لا رجل في الدار يدل على نفي الرجل في الدار، وكذلك في نظائره أن قوله:"لادليل" يدل على انتفاء الدليل على ما هو موضوع النفي، فيستحيل أن يدل قوله:"لا دليل" على وجود الدليل؛ إذ لو دل ذلك عليه لدل قوله: لا رجل في الدار على وجود الرجل فيها إذ لا فرق بينهما، وفي ذلك إبطال الحقائق وإبطال الوضع.
فإن قلت: ليس المراد من قلهم: "أن لادليل" حجة للنافي أن يدل قولهم: لا دليل على وجود، بل المراد منه أن النافي لا يحتاج إلى إقامة الدليل على ما أدعاه من النفي، فيثبت النفي بدون إقامة الدليل عليه فلما ثبت ما ادعاه بدون إقامة الدليل عليه كان هو بمنزلة الدليل.
وهذا لأن الدليل إنما يحتاج إليه لإثبات المدعي فلما ثبت مدعاه بهذا القدر سماه دليلا، ثم إنما لا يحتاج النافي إلى إقامة الدليل لكونه متمسكا بالأصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع ووجوب التمسك بالأصل إلى أن يظهر الدليل المغير طريق في الشرع.
ولهذا جعل الشارع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر؛ لأنه متمسك بالأصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده، وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وهذا مؤيد بالنص في أقوى المناظرة وهو إثبات التوحيد خيث علمنا الله تعالى الإحتجاج فيه بلا دليل علي نفي الشرك بقوله:(وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) قلت: لا يصح هذا التأويل منهم أيضا؛ لأن النفي من النافي دعوى شيء وهو أمر وجودي فلا بد له من دليل وجودي عليه.
والدليل عليه قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فقد علم الله تعالى رسوله مطالبة النافي بإقامة البرهان وهو اسم للدليل الوجودي، وذلك تنصيص على أن قولهم:"لا دليل" لا يكون حجه.
وأما ما قالوا من مسألة المدعي والمنكر فهو دليلنا، فإن الشارع لم يجعل مجرد إنكار المدعي عليه حجه له على المدعي بوجه ما، حتى إنه بعدما حضر مرة وجحد وطلب المدعي من القاضي إحضاره مرة أخرى أحضره القاضي، وإذا طلب المدعي أن يكفله بنفسه أو بالعين الذي فيه الدعوى أجبره القاضي على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على ذلك، فلو كان " لا دليل " حجة للنافي على خصمه أو بمنزلة الحجة له لم يبق للمدعي عليه سبيل بعد إنكاره.
فأما جعل الشرعه القول في المنكر، فذلك باعتبار دليل من حيث الظاهر وهو أن المدعي به عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله: لا يكون حجمه على خصمه وإن حلف حتى لا يصير المدعي مقضيا عليه بشيء فإنه لو أتى ببينة بعد تحليف المدعي عليه جاز للقاضي أن يقضي له، ولكنه لا يعترض له ما لم يأت بحجة يثبت بها الحق عليه.
وأما ما ذكروا من النص فإن الله تعالى عالم بالأشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفي عليه خافية فإخباره أنه لا برهان لمن يدعي الشرك حصل
لنا علم اليقين بأنه لا دليل على الشرك بوجه، فكان هو بمنزلة قوله تعالى:(قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية.
ثم نقول لهذا القائل: قولك: " لا دليل " شيء نقوله عن علم أو لا عن علم؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت عن ذلك، قال الله تعالى:(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطوا بِعِلْمِهِ) الآية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا كيف يصلح أن يكون حجة على الغير؟ إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
(ولا يلزم ما ذكر محمد رحمه الله) إلى آخره لما قال محمد: لا خمس في العنبر.
قيل له: لم قال: لأنه بمنزلة السمك؟ قيل له: وما بال السمك لم يجب فيه الخمس؟ قال لأنه بمنزلة الماء، وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الأصل في
خمس الغنائم، وإنما يجب فيما يصاب مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة.
والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط؛ لأن قهر الماء يمنع قهر آخر على ذلك الموضع، ثم القياس ألا يجب الخمس في شيء، وإنما يجب الخمس في بعض الأموال بالأثر، فبين أن ما لم يرد فيه الأثر يؤخذ بالقياس، فكان هذا احتجاجا بالقياس، إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة رحمه الله.
فعلم بهذا أن ما ذكره محمد رحمه الله احتجاج بالقياس لا احتجاج بلا دليل.
فإن قلت: لو نظرنا إلى ما ذكرته كان احتجاجا بالدليل، ولو نظرنا إلى قوله:"ولم يرد فيه آثر " كان احتجاجا بلا دليل، فلم رجحت جانب ما يدل على الدليل على جانب ما يدل على غير الدليل؟
وقوله: (ولهذا صح هذا النوع من صاحب الشرع)، فالمراد بصاحب الشرع الله تعالى لا النبي عليه السلام، قلت: ترجيحا لجانب الموجود على المعدوم؛ لأن القياس موجود في الحال، والأثر الذي يوجب الخمس غير موجود في الحال، فلا يجوز ترك الدليل الشرعي الذي يوجب الععمل في الحال لأجل دليل معدوم يحتمل أن يوجد في ثاني الحال.
بدليل قوله تعالى (قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) وكذلك قوله: (إذ لا يجري عليه السهو ولا يوصف بالعجز) دليل على ما قلت، لأن النبي عليه السلام يجري عليه السهو.
وأولى الدليل فيه قوله: (فأما البشر) ألى آخره، فإنه دليل قاطع على ماقلت؛ لأن النبي عليه السلام بشر، ومن ادعى أنه يعرف كل شيء نسب إلى السفه أو العته، وكيف يتمكن أحد من هذه الدعوى مع قوله تعالى:(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلًا).
وإذا علمنا يقينا أن المحتج بلا دليل لم يبلغه جميع أنواع العلم عرفنا أن
استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج فيما نص الله تعالى عليه؛ لأن الله تعالى عالم بالأشياء كلها قال الله تعالى:(قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية.