المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في تعليل الأصول - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٤

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌فصل في تعليل الأصول

‌فصل في تعليل الأصول

تفسير تعليل الأصول هو أن حكم النصوص في الأصل معلول بعلة، (واختلفوا في هذه الأصول) أي في الكتاب والسنة والإجماع، أي اختلفوا في أن الأصل في النصوص ماذا؟ كونها معلولة بعلة أو غير معلولة بها؟

(وهذا أشبه بمذهب الشافعي)؛ لأنه يكتفي بدلالة التمييز ولا يشتغل بكون هذا النص معلولًا بعينه.

ولهذا قال: إن حرمة الخمر معلولة اكتفاء بكون الأصل في النصوص هو التعليل، وكذلك جعل استصحاب الحال في حق الدفع والإثبات باعتبار أن الأصل عدم ثبوت الأمر الحادث، وهاهنا أيضًا الأصل هو التعليل فتشابها باعتبار الأصل، وقولنا مثل قول الشافعي في أن الأصل في

ص: 1661

النصوص هو التعليل، لكنا نقول: ومع ذلك (لا بد قبل ذلك من قيام الدليل) على أن النص المعين معلول ولا نكتفي بكون الأصل في النصوص التعليل، وكان هذا مثل قولنا في شريك أو جار يطلب الشفعة عند سماع بيع شريكه أو جاره بدار في يده أنها ملكة، وأنكر المشتري كون الدار التي يطلب بها الشفعة أنها ملكة أنه يجب عليه إقامة البينة، على أن الدار التي يطلب بها الشفعة ملكه في الحال، وإن كان الأصل هو أن تكون الأملاك في يدك الملاك، فنحن لا نكتفي بذللك الأصل في هذا؛ لأن الشفيع هاهنا محتاج إلى إثبات الملك ابتداءً، فاستصحاب الحال لا يصلح لذلك؛ بل هو للدفع لا للإثبات، وهذا لأن الخصم لو تمسك في هذا بالأصل بأن الأصل في النصوص التعليل.

نحن نقول: وإن كان ذلك كذلك لكنا قد وجدنا في النصوص نصوصًا غير معلولة فجاز أن يكون هذا النص المعين من تلك النصوص لما أن النص مع أصالته في التعليل لم يسقط احتمال كونه غير معلول فلم يبق لذلك حجة على الخصم كما قلنا في استصحاب الحال في مسألة الشفعة حيث لم تكن الأصالة هناك حجة على المشتري.

(بأن النص موجب بصيغته) في المنصوص عليه بالإجماع، (وبالتعليل

ص: 1662

ينتقل حكمه إلى معناه)؛ لأنه لو لم ينتقل لا يمكن التعدية، والمعنى من التعدية هو أن نقول: الحكم في المنصوص عليه مضاف إلى النص المعلل بهذا الوصف، لكن لهذا الوصف لا له أثر في إثبات الحكم في المنصوص عليه، وإنما يظهر أثره في الفرع، وهذا الوصف موجود في الفرع فيثبت مثل هذا الحكم في الفرع، (وذلك بمنزلة المجاز من الحقيقة) أي إضافة الحكم إلى معنى النص بمنزلة المجاز، وإضافة الحكم إلى النص بمنزلة الحقيقة لما أن الحقيقة هي ما وضع الواضع اللفظ لمعنى، فكان ذلك المعنى موجب ذلك اللفظ وضعًا، فكذلك هاهنا إن الحكم واجب بالنص وضعًا، فلذلك كان هو بمنزلة الحقيقة.

والمجاز: هو أن يراد به غير ما وضع له، فكذلك ههنا لما كان الحكم ف الأصل مضافًا إلى النص وضعًا كان إضافته إلى المعنى لم تكن وضعًا فكان إضافته إلى المعنى مجازًا، ولما كان كذلك لم يعدل إلى المجاز إلا بدليل، فكذلك هاهنا لا يعدل إلى المعنى في إضافتة الحكم إليه إلا بدليل، فجاء من هذا أن الأصل في النصوص غير التعليل لتبقى الحقيقة على حقيقتها وهي إضافة الحكم إلى النص

(ألا ترى أن الأوصاف متعارضة) أي أن بعض الأوصاف تقتضي حكمًا ضد ما تقتضيه الآخر.

ألا ترى أن تعليل قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" بالطعم يقتضي الحل في بيع الجص والنورة متفاضلًا، وتعليل ذلك الحديث بالقدر والجنس

ص: 1663

يقتضي الحرمة في بيعهما متفاضلًا، والتعليل بالكل غير ممكن؛ إذ وجود هذه الأوصاف بجميعها غير ثابت في غير المنصوص؛ لأنه لو وجد الجميع كان هو عين المنصوص لا غيره فيؤدي ذلك إلى إنسداد باب القياس، (وبكل وصف محتمل) أي يحتمل أن لا يكون ذلك الوصف الذي عينه المعلل مناط الحكم، (فكان الوقف أصلًا) أي الامتناع عن التعليل كان أصلًا.

(مثل رواية الحديث)، فإن اجتماع رواة الأحاديث لما كان متعذرًا قبلنا رواية كل واحد من العدول ولم نشترط الاجتماع، فكذلك هاهنا لما تعذر العمل باجتماع أوصاف النص جعلنا كل وصف علة.

فإن قلت: نفهم من خطاب الشرع ما نفهم من مخاطباتنا، ومن يقول لغيره: أعتق عبدي هذا لم يكن له أن يصير إلى التعليل في هذا الأمر، فكذلك في مخاطبات الشرع لا يجوز المصير إلى التعليل حتى يقوم الدليل، وهذه شهة ترد على قولنا أيضًا وقول الشافعي، فلابد من جواب شاف يشفي مرض جهل السائل؛ قلت: ليست مخاطبات الشرع في حق التعليل مثل ما

ص: 1664

وصارت العبرة لذواتها (وسقط اعتبار القيمة للجودة شرطًا لا علة) يعني أن شرط تحقق المساواة بينهما سقوط اعتبار القيمة؛ إذ مع اعتبار القيمة لا تتحقق المساواة، فإنه إذا باع قفيزًا جيدًا من حنطة بقفيز رديء من حنطة حتى يساوي هو قفيزًا جيدًا منها بذلك المضموم في القيمة، فحينئذ لا تبقى المساواة بينهما كيلًا.

علم بهذا أن سقوط اعتبار القيمة للجودة ليكون شرط تحقق المساواة لا أن يكون سقوط اعتبار الجودة علة تحقق المساواة؛ لأن سقوط اعتبار الجودة أمر عدمي وتحقق المساواة أمر وجودي، فيستحيل تحقق الأمر الوجودي من الأمر العدمي، فلذلك يصلح أن يكون تحقق المساواة أثر العدم بل علة تحقق المساواة القدر والجنس لا غير، وسقوط اعتبار الجودة شرط تحقق المساواة.

(صارت المماثلة ثابتة بهذين الوصفين) وهما القدر والجنس.

فإن قيل: وجوب التسوية حكم النص فكيف أضيف وجوب التسوية إلى القدر والجنس بل التسوية توجد بهما كما في أركان الصلاة؛ أن الصلاة توجد بالأركان المعهودة ولا يضاف وجوب الصلاة إلى أركانها بل يضاف إلى الوقت نفس وجوبها وإلى النص وجوب أدائها؟

قلنا: الشرع أثبت المساواة بقوله: "إلا سواء بسواء" والمساواة لا تثبت إلا بالقدر والجنس، فكان القدر والجنس مثبتين حكم الشرع ومحصلين له فأضيف الوجوب إليهما لكونهما آخر المدارين.

ص: 1665

النص في حق وجوب العمل في الأصل والفرع لا تغييرًا.

(لأنه ما شرع إلا للقياس مرة) أي لأن التعليل ما شرع إلا لتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع كما هو مذهب العامة، (وللحجر أخرى) عند الشافعي أي التعليل يكون لحجر المعلل عن تعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه وللتعليل بالعلة القاصرة مرة أخرى كما هو مذهب الشافعي، (وهذا يسد باب القياس أصلًا)، والإشارة راجعة إلى قوله:"وللحجر الصحي" فإن فائدة التعليل بالعلة القاصرة للمنع عن القياس عنده، ثم لا شك أن الوصف الذي يثبت الحجر عن التعدية غير الوصف الذي يثبت به حكم التعدية فما لم يتميز أحد الوصفين من الآخر بالدليل لا يجوز تعليل النص، وكذلك لو كانت الأوصاف كلها متعدية لا يمكن التعليل بكلها لما ذكرنا، فلابد لمن يكون أحد الأوصاف هو العلة، ثم ذلك الوصف مجهول، والمجهول لا يصلح استعماله

ص: 1666

مع الجهالة لتعدية الحكم فلابد من دليل التمييز بينه وبين سائر الأوصاف حتى يجوز التعليل به، (شاهدًا للحال) أي معلولًا بعلة؛ (لأنا قد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول) كما في قوله عليه السلام:"تم على صومك" فإن صوم الناسي عن الصوم حتى أكل ولم يفسد صومه شرعًا مع فوات الركن حقيقة غير معلول، فلا يستقيم أن يقاس عليه صحة صلاة الناسي على صلاته حتى فوت ركنًا من أركانها لما أن نص الصوم نص غير معلول بعلة، (لكن هذا الأصل) وهو كون النص معلولًا.

(على مثال استصحاب الحال) يعني أن بعض النصوص لما كان غير معلول، والأصل في النصوص هو التعليل على ما بينا- كان هذا الأصل على مثال استصحاب الحال، فيكون حجة في حق الدفع لا في حق الإثبات، كما إذا غاب الحي يجعل حيًا في الدفع حتى لا يورث ماله، واحتمال موته لا يقدح في هذا الأصل، ولو مات قريب حاضر لا يرث الغائب المفقود، ويعتبر احتمال موته؛ لأن الحاجة إلى إثبات المال له فلا يكتفي بالأصل، فكذلك هاهنا الأصل في النصوص التعليل نظرًا إلى الدليل؛ لأن النص حجة من حجج الله تعالى، وكذلك العقل حجة من حجج الله تعالى، والأصل أن يكون في حجج الله تعالى الموافقة لا المخالفة، ونعني بكون النصوص في

ص: 1667

الأصل معلولة كونها موافقة للعقل، فكان التعليل هو الأصل فيها لهذا فلا يترك هذا الأصل لاحتمال كونها غير معلولة ولا يكون حجة في الفرع للإثبات بكونها أصلًا في التعليل؛ لأن الحجة إلى الإثبات فلابد من دليل هو حجة ملزمة.

(مع قيام الاختصاص في بعض الأمور) مثل النكاح بغير مهر وحل تزوج التسع وحل صوم الوصال.

(فأما هاهنا فإن النصوص نوعان: معلول وغير معلول).

فإن قلت: فلم لا يصح أن يقال في أفعال النبي عليه السلام إنها أيضًا على نوعين: ما يقتدى به، وما لا يقتدى به كحل تزوج التسع وغيره مثل ما ذكر ذلك في النصوص بأنها نوعان مع أن النصوص المعلولة أكثر من نصوص غير معلولة، فكذللك في أفعال النبي عليه السلام وإن كانت أفعاله التي يتبع فيها أكثر من أفعاله التي لا يتبع فيها لما أن القلة أو الكثرة غير مانعة من القول

ص: 1668

بالتنويع كما في النصوص على ما ذكرنا.

قلت: إنما لا يصح ذلك في أفعال النبي عليه السلام؛ لأن القول بالتنويع إنما يصح إذا كانت الأصالة ثابتة في الطرفين جميعًا وصح ذلك في النصوص، فإن احتمال كون النص غير معلول ثابت في كل نص مثل احتمال كونه معلولًا فيكون هذا بمنزلة المجمل فيما يرجع إلى الاحتمال، والعمل بالمجمل لا يكون إلا بعد قيام دليل هو بيان فكذلك تعليل النصوص،

وأما النبي عليه السلام فما بعث إلا ليأخذ الناس بهديه، فكان الاقتداء به هو الأصل، وإن كان قد يجوز أن يكون هو مخصوصًا ببعض الأشياء والخصوصية في حقه في ذلك الشيء بمنزلة دليل التخصيص في العموم، والعمل بالعام مستقيم حتى يقوم دليل التخصيص، فكذلك الاقتداء به في أفعاله، ولأن الدليل الموجب لعلم اليقين قد قام على جواز الاقتداء به مطلقًا، وهو قوله تعالى:(قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وههنا الدليل هو صلاحية الوصف الموجود في النص، وذلك إنما يعلم بالرأي، فلا ينعدم به احتمال كون النص غير معلول.

والدليل الواضح في الفرق بينهما هو أن كون النص غير معلول مثل كونه معلولًا فيما يرجع إلى معنى الابتلاء، بل الابتلاء بالنص الذي هو غير معلول أظهر بالنسبة إلى النص الذي هو معلول، فلما تحققت المساواة بينهما في معنى الابتلاء صح أن يقال: النصوص على نوعين: معلولة، وغير معلولة.

ص: 1669

وأما أفعال النبي عليه السلام فالتي خصت به مع التي لم تخص به لم يتساويا لظهور أصالة أفعال التي يقتدي هو فيها بالدليل القطعي على ما ذكرنا، فلما لم يظهر أصالة كلا الطرفين على السواء لم يصح أن يقال: أفعال النبي عليه السلام على نوعينن، بل الأصل هو كون أفعاله التي يقتدي هو فيها.

وأما أفعاله التي لا يقتدي هو فيها بمنزلة دليل التخصيص في العموم على ما ذكرنا، ولأن حال النبي عليه السلام لم يختلف في كونه مقتدى به؛ لأنه لا يوجد نبي غير مقتدى به، ويمكن أن يقال يوجد نص غير معلول، فلما كان كذللك لم يحتج في أفعال النبي عليه السلام إلى إقامة الدليل في أنه فيه مقتدى به أم لا؟ واحتج في النصوص إلى الدليل بأن هذا النص معلول بعلة.

(ومثال هذا الأصل) أي الأصل الذي قلنا وهو أن لا يكتفي بأن الأصل في النصوص كونها معلولة بل يحتاج إلى إقامة الدليل في كل نص على حدة بأنه معلول.

(إن حكم النص في ذلك معلول) أي حكم النص الذي هو الربا في المذكور وهو الذهب والفضة معلول بالوزن.

(على أن النص بعينه معلول) أي هذا النص المعين معلول بالوزن،

ص: 1670

والنص هو قوله عليه السلام: "الذهب بالذهب يداَ بيد".

(تضمن حكم التعيين) أي حكماَ هو التعيين، وهذا من قبيل إضافة العام إلى الخاص كعلم النحو.

(وذلك من باب الربا) أي اشتراط التعيين من أنواع أحكام الربا أي يلزم من تفويته شبهة الربا وهي النسيئة وهي حرام.

(ألا ترى أن تعيين أحد البدلين) إلى آخره. هذا لإيضاح أن التعيين من باب الربا، فإن تعيين احد البدلين (شرط جواز كل بيع) ليتعين به المبيع، وتحصيل المبيع قبل العقد وتعيينه شرط جواز كل بيع.

(احترازاَ عن شبهة الفضل الذي هو ربا)؛ لأن للنقد مزية على النسيئة عرفاَ وعادة، وأيد هذا المعنى قول النبي غليه السلام:"إنما الربا في النسيئة" والتأكيد بالحصر راجع إلى استدامة الربا في وجود الوصفين أو

ص: 1671

الوصف الواحد، فإن حرمة النسيئة ثابتة عند وجود القدر والجنس أو عند وجود أحدهما بخلاف ربا الفضل إنما هو عند وجود القدر والجنس لا غير.

فأما إذا كانا نسيين فلا ربا بينهما؛ لأنهما متساويان، لكن لا يجوز ذلك لكونه ربا؛ بل الحديث:"نهى عن بيع الكالي بالكالي" لكون العقد غير مفيد شيئا فكان في معنى العبث وهو حرام، أو لأن وجود المبيع وتعينه قبل عقد البيع شرط صحة العقد (وقد وجدنا هذا الحكم) وهو اشتراط التعيين (متعدياَ عنه) أي عن اشتراط تعيين الذهب والفضة بالإجماع إلى تعيين الطعام في بيع الطعام بالطعام عند الشافعي.

(بشعير بغير عينة) أي نسيئة.

(لما قلنا) أي من تعيين الآخر أنه شرط احترازاَ عن شبهة الفضل الذي هو ربا.

فعلم بهذه الجملة أن حكم النص متعد، لأنا لا نعني بالتعليل سوى أن هذا الحكم موجود في غير هذا النص بالتعليل، وقد يوافق لذلك حكم النص والإجماع، وذلك دليل صحة التعليل، وبهذا يخرج الجواب لقول من يقول بأن الحكم فيما ذكر من الأمثلة جاز أن يثبت بالنصوص؛ لأنا نقول: هذا لا يضرنا؛ لأن حاجتنا إلى إثبات أن هذا الحكم غير مقتصر على المنصوص

ص: 1672

عليه وهو بيع الثمن بالثمن، وقد دللنا على عدم الاقتصار على المنصوص عليه فيتفتح علينا باب التعدي، فحينئذ كان ما ورد من النصوص موافقاَ للتعليل.

(وإذا ثبت التعدي فى ذلك ثبت أنه معلول) يعني أن حكم النص وهو التعيين في نص الذهب بالذهب والفضة بالفضة لما لم يكن مخصوصاَ بهذه الأشياء التي هي أثمان على أن حكمه وهو التعيين لم ينشأ من الثمينة، فلم تكن الثمينة مانعة بدليل ثبوت هذا الحكم في غير هذا النص.

فعلم بهذا أنه معلول؛ لأنه لا يتعدى بدون التعليل، والشافعي علل بالثمينة ليكون ذلك مانعاَ من إلحاق غيره به، وبما ذكرنا يظهر ضعف قوله.

(فإذا ثبت فيه ثبت في مسألتنا) أي فإذا ثبت التعليل باشتراط التعيين في حديث الذهب والفضة بما عللنا بالقدر والجنس.

(لأنه هو بعينه ربا) أي التعليل بالقدر والجنس يوجب المساواة، فعند فوتها يلون الربا لفوات القدر بفوت المساواة (بل ربا الفضل أثبت منه) أي ربا الفضل أقوى رباَ من ربا النسيئة؛ لأن ربا النسيئة ربًا من حيث المعنى وهو أن النقد حير من النسيئة، وهو ربا من حيث المعنى، وربا الفضل ربا حقيقة ومعنى؛ لأن مناَ من الدهن منين منه رباَ حقيقة ومعنى، فكان هو أقوى في كونه رباَ، فلما ثبت ربا النسيئة بقوله عليه السلام:"يداَ بيد" في حديث الذهب والفضة فلأن يثبت ربا الفضل فيه أولى، ويلزم من هذا أن يكون قوله

ص: 1673

عليه السلام: "الذهب بالذهب يداَ بيد" أن يكون معلولَا بالوزن الذي ينشأ منه المساواة؛ لأن المساواة في الوزن انتفاء حقيقة الفضل وبالنقد تنتهي شبهة الفضل، فلما وجب نفي شبهة الفضل وبالنقد وجب عليه نفي حقيقة الفضل بالوزن المستوي بالطريق الأولى.

(فإن النص أوجب تحريم الخمر لعينها) وعينها لا توجد في سائر الأشربة، فكيف يتعدى حكمها إلى سائر الأشربة، (وليست حرمة سائر الأشربة ونجاستها من باب التعدي) هذا جواب لقولهم: إن حكم الخمر في حق حرمة الشرب والنجاسة قد تعدى منها إلى سائر الأشربة فيجب أن يتعدى حكمها إلى الأشربة في حق الحد أيضاَ.

قلنا: إنما تثبت حرمتها ونجاستها بدلائل فيها شبهة من أخبار الآحاد ، والحرمة مما تثبت بالشبهات بخلاف الحد ، مع أن القياس لا يجري في الحدود، ولأن وجوب الحد في سائر الأشربة لو كان بطريق التعدي من الخمر إليها لوجب على وفاق ما وجب في الخمر ولم يجب كذلك ، وإن الحد يجب في الخمر بشرب قطرة منها، وفي سائر الأشربة لا يجب ما لم يسكر.

(ومثال هذا الشاهد) إلى آخره أي مثال ما ذكرنا من المسألتين. أعني مسألة الذهب بالذهب ومسألة الشاهد في صفتيه أعنى الجهل ببعض أحكام

ص: 1674

الشرع وصفة الرق فإنه لما قبلت شهادته مع صفة الجهل ببعض أحكام الشرع بطل الطعن بالجهل، وتقييدنا بالجهل ببعض أحكام الشرع يفيد في حق الشاهد المسلم؛ لأنه لو كان جاهلَا بجميع حدود الشرع كان جاهلَا بأشرف حدود الشرع وهو الإيمان، فلا تقبل شهادته حينئذ على المسلم.

أما لو كان الشاهد كافراَ يشهد الكافر فهو مجرى على ظاهر قوله مع صفة الجهل بحدود الشرع ، فإنه إن لم يعلم بحدود الشرع كلها تسمع شهادته على الكافر.

وحاصلة أن الشاهد (لما قبلت شهادته مع صفة الجهل بحدود الشرع بطل الطعن بالجهل) يعني أن الشاهد إذا كان حراَ عاقلَا بالغاَ عدلًا قبلت شهادته وإن كان جاهلَا بحدود الشرع ، وبطل طعن الخصم بأنه جاهل بحدود الشرع لما أنه تقبل شهادته مع ذلك ، فكذلك ها هنا أن نص الشافعي لتعليلنا بالوزن بتعليله بالثمينة يعني أن الجهل بحدود الشرع كما لا يصلح أن يكون مانعاَ لقبول الشهادة كذلك التعليل بالثمينة أيضاَ لا يصلح أن يكون مانعاَ من التعليل بالوزن الذي هو شهادة النصوص.

وأما لو وقع طعن الخصم في الشاهد بالرق صح هذا الطعن منه ويحتاج المدعى إلى إقامة البنية على حرية الشهود، ولا يسمع منه الاستدلال بكون الأصل في الآدمي هو الحرية ، فكذلك لا يسمع من الشافعي دعواه بأن نص

ص: 1675

الخمر معلول بمخامرة العقل أي بتغطيه ، فيتعدى حكمها إلى سائر الأشربة في وجوب الحد والحرمة. لما أن الأصل في النصوص التعليل ما لم يقم الدليل على انه في الحال معلول بالإجماع بعلة من العلل ولا يتمكن من ذلك لما أن حرمة الخمر ثابتة لعين الخمر ولا يوجد في سائر الأشربة ، فلذلك لا يثبت حكمها في سائر الأشربة وهو معنى قوله:"فكذلك هاهنا لا يصح العمل به مع الاحتمال إلا بحجة" أي في مسألة الخمر لا يتمكن الشافعي من أن يقول: إن الأصل في النصوص التعليل ، فكان نص الخمر معلولَا عملَا بالأصل كما لا يجوز التمسك بالأصل للمدعي إذا طعن شاهده بالرق بأن يقول هو حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية ، وهذا هو التفسير الواضح المعول عليه.

ص: 1676