المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني وهو الممانعة - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٤

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌الفصل الثاني وهو الممانعة

‌الفصل الثاني وهو الممانعة

(لأن كفار الفطر متعلقة بالفطر) أي بالفطر الذي يقع جناية متكاملة.

ص: 1953

(فلا بد من القول بالذات)، لأن المجازفة في الوصف في الأموال الربوية عقر بالإجماع، لأن الجودة والرداءة فيها سواء، وهذا في المال مانع للوصف الذي جعله علة أيضا، فإنه جعل بيع المطعوم بالمطعوم مجازفة علة للبطلان.

فنقول: لا نسلم بأن بيع التفاحة بالتفاحة مجازفة، لأن المجازفة نوعان: في الذات، وفي الوصف، والذي في الوصف لا يضر والذي في الذات لا يوجد، لأنه مجازفة على المعيار، والتفاحة لا تدخل تحت المعيار فلا تتحقق المجازفة فيها لما أن المجازفة إنما تعتبر في الأموال الربوية إذا توهم فيها المفاضلة، والمفاضلة إنما تكون بعد المساواة وتحقق المساواة إنما يكون بالمعيار الشرعي.

وأما إذا لم يتوهم فيه المفاضلة فلا: وحقيقة المذهب أن الجواز عندنا في هذه الأموال أصل والحرمة بواسطة المفاضلة على الكيل، وعنده الحرمة أصل والمساواة مخلص، ففي كل صورة لا تثبت المساواة إنما يحرم لعدم المخلص بصورته أي بأجزائه وحباته (وإن تفاوتا في الذات) أي في الأجزاء أو الحبات.

فعلم أن المجازفة بالصورة لا يضر، والمجازفة في المعيار هي العلة المحرمة،

ص: 1954

في الصبرة ولم توجد هي هاهنا فلا يحرم.

(لم نسلم له المجازفة مطلقة) أي لا نسلم أن مطلق المجازفة علة للحرمة، لأن المجازفة فيما دون الكيل لا يمنع الحل.

وقوله: (مع أن الكيل الذي يظهر به الجواز). يؤيد ما ذكرت أن عنده الحرمة أصل يعني أن عنده العلة الطعم بشرط الجنس مع أن الكيل يظهر به الجواز.

وقوله: (لا يعدم إلا الفضل على المعيار) تتمة ما سبق، وحاصله أن على قوله: إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة، فكان باطلا يلزم أن يكون بيع الطعام بالطعام حراما وإن كيل لوجود المحرم وهو الطعم والجنس وأما الكيل فلا ينافيهما، لأنه لا ينافي إلا الفضل على المعيار فحسب، فعلى هذا التقدير كانت نكتته حجة عليه.

وهذا الحكم الذي ذكره مأخوذ من الأصل وهو الصبرة بالصبرة، فاعتبر المجازفة في الفرع بالمجازفة في الأصل، والذي ذكرنا من توهم الفضل على الكيل إنما يوجد هو في الأصل لا في الفرع فلا يكون في الفرع نظير الأصل، لأنه

ص: 1955

لا يوجد في الفرع البته فلا يصح القياس.

(إنها ثيب ترجى مشورتها) وإنما يقيدون بالمشورة للحديث المرفوع وهو قوله عليه السلام: "الثيب تشاور" ويقولون: إنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها كالنائمة والمغمى عليها.

(وأما المستحدث فلا يوجد في الأصل)، لأنه موجود في الحال.

ص: 1956

لا حاجة إلى هذا التفصيل يعني يشترط رأيها بلا تفصيل. قلنا حينئذ بموجب العلة، لأنا شرطنا رأيها أيضا لكنا أقمنا رأي الولي مقام رأيها.

(انتقض بالمجنونة) أي انتقض قول الخصم بالمجنونة، لأن حدوث رأيها غير مأيوس منه ومع هذا جاز تزويجها للولي، فعلم أن كل واحد منهما ليس بعلة للمنع عن الإنكاح.

(وأما المعدوم قبل الوجود فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا) يعني أن الولاية كانت ثابتة له عليها قبل الثيوبة فلا يصلح عدم رأيها شرطا مانعا لثبوت ولايته، إذ الولاية كانت ثابتة مع تحقق عدم رأيها ولم تكن مانعا ولم يحدث بعده شيء يصلح مانعا أو لا يصلح المعدوم دليلا معارضا قاطعا لولاية الأب، لأن المعدوم لا يصلح معارضا لما يوجد في الحال فكيف يصلح معارضا رافعا لما كان ثابتا معنى؟

قوله: (فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا) أي مانعا من إثبات الولاية ابتداء بأن بلغت الولاية إلى الجد بعد الأب والصغيرة ثيب.

(أو دليلا قاطعا) للولاية بعدما كانت ثابتة في حق الأب، لأن الحكم لا يسبق العلة.

ص: 1957

فإن قلت: ما جوابنا عما تعلق به الشافعي بأن النبي عليه السلام قال: "الثيب تشاور". حيث علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فيكون ذلك المعنى هو المعتبر في إثبات الحكم كما في الزاني والسارق في إيجاب الحد.

قلت: قال علماؤنا- رحمهم الله: المراد به المبالغة، لأنه علق بما لا يتحقق إلا بعد البلوغ وهو المشاورة، وكونها أحق بنفسها إنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة، ولئن ثبت أن الصغيرة مراده فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستثمار أمهات البنات فقال:"واستأمروا النساء في أبصاع بناتهن" وكان ذلك بطريق الندب فهذا مثله. كذا في "المبسوط".

(وهذا الذي قلنا أمثلة ما يدخل في الفرع) يعني أن الذي قلنا من قوله: عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل كحد الزنا "مما يصح منعه في الفرع لا في الأصل، فإن الحكم في الأصل كما ذكره الخصم فإن حد الزنا متعلق بالجماع لا غير.

ص: 1958

وأما في الفروع وهو كفارة الفطر فنحن نقول: لا نسلم أن كفارة الفطر متعلق بالجماع، بل بالفطر العمد الذي هو كامل في جنايته وكذلك في غيره، فإن حرمة بيع مطعوم بمطعوم مجازفة مسلم في الأصل وهو: بيع الصبرة بالصبرة. ممنوع في الفرع: وهو بيع التفاحة بالتفاحة، كذلك قوله:"ترجى مشورتها" مسلم في البالغة ممنوع في الصغيرة.

(وأما في القسم الآخر) الذي يذكر بعد هذا فإن المنع (في الأصل).

فنقول: (لا نسلم أن الاستنجاء طهارة مسح، وهما في طرفي نقيض) أي الغسل والمسح، فإن في أحدهما إكماله بالتكرار، وفي الآخر إكماله بنفي التكرار.

(يحقق عرضه) وهو التنقية (وفي الثاني يفسده) وهو أن التكرار يفسد المسح.

ص: 1959

(وهذا المعنى معدوم في هذا) أي استغراق الفرض محل نفسه معدوم في المسح، ثم النكتة الأولى لبيان أن الحكم هو المشروع في التكميل والثانية لإثبات سبب التكميل مشروعا في الأصل وهو الإطالة لا التكرار، (س) أي من قوله: لضرورة أن الفرض استغرق محله.

(لم نجده في الأصل) وهو القضاء، لأن التعيين بعد التعيين غير معتبر، (لم نجده في الفرع) وهو صوم رمضان، فإن التعيين هنا حاصل بتعيين الشرع، إذ المشروع في هذا الزمان صوم الفرض خاصة فغيره ليس بمشروع، فلا نجد حينئذ بدا من الرجوع إلى حرف المسألة، وهو أن نية التعيين هل

ص: 1960

يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينًا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره؟

(فيقال) له: (في الأصل) أي في الثيب البالغة (عدم الرأي غير مانع) كما في الثيب البالغة المجنونة.

(ومثل قوله: ما يثبت مهرًا دينًا يثبت سلما كالمقدر) أراد به أن السلم في الحيوان جائز عنده غير جائز عندنا.

فقال: الحيوان يثبت دينًا مهرًا فيثبت دينا في السلم، كالمقدر لما ثبت دينا مهرًا ثبت دينًا سلما. أراد بالمقدر الكيلات والموزونات سوى الذهب والفضة، فإنا نقول: ما معنى قولكم: ((يثبت دينا ً في الذمة)) أتريدون أنه يثبت معلومًا بوصفه أم بقيمته؟

فإن قال بوصفه منعنا ذلك في الأصل وهو المهر، فقد قامت الدلالة لنا

ص: 1961

على أنه لا يشترط فيما يثبت في الذمة مهرًا أن يكون معلوم الوصف حتى لو قال: شاة أو عبد أو بقر يجوز.

(وإن قالوا): تعني به معلوم المالية و (القيمة). منعنا ذلك في الفرع فإن الحيوان بعد ذكر الأوصاف يتفاوت في المالية تفاوتًا فاحشًا، وإنما قال في الفرع، لأن الأصل وهو المهر معلوم بالقيمة عندنا، ولهذا إذا أتى الزوج بما سمى من الحيوان تجبر المرأة على القبول وإذا أتى بقيمته تجبر أيضًا.

فعلم أنه معلوم بالقيمة، فاما في الفرع وهو السلم فغير معلوم بالقيمة فإن القيمة غير معتبرة في المسلم فيه، ولهذا يجب عنده تسليم الحيوان في السلم ولا يجوز تسليم القيمة. علم بهذا أنه غير معلوم بالقيمة فصح المنع.

(وإن قال: لا حاجة لي إلى هذا. قلنا: بل إليه حاجة) ، لأنه لابد من التسوية بين الأصل والفرع ليصح القياس، وهما متفاوتان: لأن أحدهما وهو المهر يحتمل جهالة الوصف لما ذكرنا من صحة المهر في نوع من الحيوان.

والثاني وهو السلم لا يحتمل جهالة الوصف فلابد من البيان ليصح القياس، لأن من شرط صحة القياس أن يكون الفرع نظير الأصل.

ص: 1962

(ومثله قولهم في بيع الطعام بالطعام) أي في اشتراط التقابض في المجلس قي بيع الطعام بالطعام إن العقد جمع بدلين يجري فيهما ربا الفضل (فيشترط التقابض كالأثمان).

فإنا نقول: أيش المراد من قولكم: ((فيشترط فيه التقابض)) هل هو التقابض لإزالة صفة الدينية أو لإثبات زيادة معنى الصيانة عن الربا وأحدهما يخالف الآخر؟ فلا بد من بيان هذا.

فإن قالوا: لمعنى الصيانة منعنا هذا الحكم في الأثمان فاشتراط التقابض هناك عندنا لإزالة صفة الدينياة، فإن النقود لا تتعين في العقود ما لم تقبض والدين بالدين حرام شرعًا.

وإن قالوا: لإزالة صفة الدينية لا يتمكنون من إثبات هذا الحكم في الفرع، فالطعام يتعين في العقد بالتعيين من غير قبض، فلا يجد بدا من الرجوع إلى حرف المسألة وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لإزالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى الربا أي على قول الشافعي بمنزلة المساواة في القدر.

ص: 1963

(قيل له: ماذا لا يجزئ وإنما سبق ذكر العتيق والأب وذلك لا يجزئ عندنا، فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه قلنا به)، وبالفارسية: يعني كدامست كه روانيست، بدرستي ذكر عتيق وأب است كفارت روانيست وبس أكر بكويد كه أزاد شدن وى ز كفارت نيابت مي دارد بأن مي كويم جون بسبب عتق روانيست بسبب إعتاق رواست.

وقوله: (فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه).

قلنا: لا يجوز عتقه عن الكفارة، لأن العتق ليس بفعل للمكفر بل هو أثر فعله في المحل، والواجب عليه فعل إختياري وهو التحرير، والتحرر ليس في وسعه، فيستحيل أن يكون هو فعله الغختياري فكيف يجوز عن الكفارة؟

(فإن قال: إعتاقه لم يوجد في الأصل) وهو الإرث لم يوجد منه صنع في الإرث، بل يعتق عليه من غير صنع منه، (ولم يقل به في الفرع)

ص: 1964

يعني أن الشافعي لم يقل بأن الابن يعتق الأب بالشراء، بل يقول: يسعى في تخليص أبيه عن الرق لا بطريق الإعتاق، لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته، فيستحيل أن يكون إثبات الملك إزالة له، لكن لما ملك عتق من غير غعتاقه كما في الإرث.

إن عنيتم أنه لا تتأدى الكفارة بالعتق، فنحن نقول في الفرع: لا تتأدى الكفارة بالعتق، إذ الكفارة تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر، والعتق وصف في المحل ثابت شرعًا.

وإن عنيتم الإعتاق فهذا غير موجود في الأصل، لأنه لا صنع للوارث في الإرث حتى يصير به معتقا، وعند هذا لا بد من الرجوع إلى حرف المسألة وهو: أن شراء القريب هل هو إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق أو ليس

ص: 1965

بإعتاق وإنما يحصل العتق به حكما للملك؟ لا (لأن ذلك ليس بمال) بل للشبهة البدلية والحدود تسقط بالشبهات.

(وفساد الوضع) في المعلل بمنزلة فساد أداء الشهادة (وهو فرق النقض) فإن النقض إذا صح يبطل الاطراد بعد ثبوت صحة العلة ظاهرًا، وإذا كان فاسدًا في الأصل لا يشتغل بالاطراد كما أن أداء الشهادة إذا فسد لا يشتغل بالتعديل فكان فساد الوضع أقوى في دفع العلل من المناقضة، لأنه يمكن تدارك النقض في الجملة بأن يبين إن هذا يتراءى نقضًا وليس بنقض في الحقيقة، كما يتراءى أن الاستنجاء نقض فيما تقدم من التعليل في مسح الرأس.

فأما إذا فسد التعليل في الوضع لا يمكن تداركه فإندفع علة الخصم أصلًا (مثل التعليل لإيجاد الفرقة بإسلام أحد الزوجين) فإنه فاسد في الوضع كما ذكر في الكتاب.

(وكذلك القول ببقاء النكاح مع ارتداد أحدهما) فاسد: لما عرف أن

ص: 1966

المرتد ليس من أهل النكاح، فكان القول ببقاء النكاح مع الردة فاسدًا في أصل الوضع.

(الصرورة): بالصاد المهملة: هو الذي لم يحج حجة الإسلام.

وقال الشافعي: الصرورة إذا حج بنية النفل يقع عن الفرض، لأن فرض هذه العبادة يتأدى بمطلق النية فيتأدى بنية النفل أيضًا كالزكاة.

(قلنا: هذا فاسد وضعًا): لأنه بهذا الطريق رد المفسر إلى المجمل (وحمل المقيد على المطلق) ، والأمر على العكس، فإن العلماء اختلفوا في حمل المطلق على المقيد، ولم يقل احد بحمل المقيد على المطلق، فالأول يحتمل الجواز في الجملة.

وأما الثاني فلا يحتمل الجواز أصلًا، وهذا لأن المطلق ساكت غير متعرض

ص: 1967

للصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، فاحتمل أن تثبت فيه صفة زائدة بدليل فيراد به المقيد.

وأما عكسه فلا يجوز أصلا ً وهو أن يقال: إن المراد من المقيد هو المطلق، لأن فيه إلغاء صفة زائدة منصوصة فيلزم منه نسخ المنطوق بالمسكوت والموجود بالمعدوم، فكان فيه مخالفة وضع الشرع وهو حمل المقيد على المطلق.

وأما الجواب عن فصل الزكاة: فإن قدر الزكاة جزء من ذلك النصاب المعين فيخرج عن عهده الزكاة بالتصدق بجميع النصاب يتعين حق الفقير فيه لتعين ذلك النصاب لأداء الزكاة منه حتى لو حلك النصاب قبل التمكن من الأداء تسقط عنه الزكاة بالإجماع.

وأما في مسألة الحج، فالواجب في الذمة وفي الذمة سعة، فيجوز أن ينوى عن النفل فيما أدى من الحج ويقع عنه نفلا وإن كان هو في حق الصرورة لعدم التعين عليه فافترقا.

(ومثله التعليل بالطعم لتحريم الربا اعتبارًا بالنكاح) والجامع عزتهما فإن الطعم له عزة وخطر فيشترط لورود الملك عليه شرط زائد وهو المساواة اعتبارًا بالنكاح، لأن النكاح عزة وخطرًا لورود الملك على البضع فاشترط فيه شرط زائد وهو إحضار الشهود وغيره، وهذا فاسد في الوضع، لما قلنا إن القوام يتعلق بالطعم بخلاف النكاح فإن الحرمة في البضع أصل، لأن الحرية

ص: 1968

تنافي الاستيلاء إذ في الاستيلاء نوع رق مناف للحرية ويتوقف على ما لا يتوقف عليه غيره اعتبارًا للأصل.

(لأن الطعم يقع به القوام) فكان السبيل في مثله التوسعة لا التضييق، لأن البيع في الأصل ما شرع إلا للحاجة، ولهذا اختص بالمال الذي هو بذلة لحوائج الناس، فصفة الطعم تكون عبارة عن أعظم أسباب الحاجة إلى ذلك المال، لأن ما يتعلق به البقاء يحتاج إليه كل واحد، وذلك إنما يصلح علة لصحة العقد وتوسعة الأمر فيه لا للحرمة، لأن تأثير الحاجة في الإباحة كما في إباحة الميتة عند شدة الحاجة والضرورة.

وقوله: (فصلح للتحريم إلا بعارض) وهو النكاح عند وجود شرطه.

(ومثله قولهم في الجنون: أنه لما نافى الأداء نافى القضاء) يعني أن من جن في وقت صلاة كامل أو في يوم واحد في الصوم أنه لا يلزمه القضاء: لأن الخطاب ساقط عنه أصلًا، ووجوب القضاء يبتنى على وجوب الأداء بمنزلة ما لو جن أكثر من يوم وليلة في الصلاة أو استوعب الجنون الشهر في الصوم، ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لأن الحادث بالجنون عجز عن فهم

ص: 1969

الخطاب والائتمار بالأمر ولا أثر للجنون في إخراجه من أن يكون أهلا للعبادة، لأن ذلك يبتنى على كونه أهلا لثوابها والأهلية لثواب العبادة بكونه مؤمنًا والجنون لا يبطل إيمانه، ولهذا يرث المجنون قريبه المسلم، فكان سبب الوجوب متحققًا في حصه كما في النائم والمغمى عليه، والخطاب بالأداء ساقط عنه لعجزه عن فهم الخطاب.

وذلك لا ينفي صحة الأداء فرضا بمنزلة من لم يبلغه الخطاب فإنه بتأدى منه العبادة بصفة الفرضية كمن أسلم في دار الحرب ولم يبلغه فرضية الخطاب لا يكون مخاطبا بها، ومع ذلك إذا أداها كان فرضًا له.

ألا ترى انه لو جن بعد الشروع في الصوم بقى صائمًا، فكان التعليل بسقوط فعل الاداء عنه لعجزه عن فهم الخطاب على نفي سبب الوجوب في حقة أصلًا فاسدًا وضعًا مخالفًا للنص، وهو قوله عليه السلام: " ((من نام عن

ص: 1970

صلاة

)) الحديث، ومخالفا للإجماع وهو في النائم والمغمى عليه والمسلم في دار الحرب وكونه أهلا لبقاء الصوم مع الجنون.

(ولا كلام في الحدود الفاصلة) أي لا نزاع فيها فإن الحد الفاصل من العسر واليسر والحرج والتخفيف ثابت بالنص والإجماع، أو معناه ليس كلامنا للتفرقة بين ما يصلح للحرج وبين ما لا يصلح، بل كلامنا في أن ما ليس فيه الحرج وهو القليل على الكثير بان يقال لما لم يجب قي صورة الكثير لم يجب في صورة القليل.

ألا ترى أنا أسقطنا بعذر الحيض قضاء الصلوات: لأنها تبتلى بالحيض في كل شهر عادة، والصلاة تلزمها في اليوم والليلة خمس مرات، فلو أوجبنا القضاء تضاعف الواجب في زمان الطهر وهو حرج عظيم، ولا يسقط بالحيض قضاء الصوم، لان فرضية الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة أيام، فإيجاب قضاء عشرة أيام في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج، ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته.

ص: 1971

(والبياعات تخالف التبرعات)، هذا وجوب عن قياس الشافعي فإنه يقول: النقود تتعين في عقود المعاوضات، لأنها تتعين في التبرعات كالهبة والصدقة فتتعين في المعاوضات بمنزلة الحنطة وسائر السلع.

قلنا: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن التبرعات مشروعة في الأصل للإيثار بالعين لا لايجاب شيء منها في الذمة، والمعاوضات لإيجاب البدل منها في الذمة إبتداء.

ألا ترى أن البيع في العرف إنما يكون بثمن يجب في الذمة ابتداء فكان اعتبار ما هو مشروع للإلزام في الذمة ابتداء بما هو مشروع في الأعيان لنقل الملك واليد من شخص إلى شخص في حكم التعيين فاسدًا في الوضع، وقوله:(هذه للإيثار) أي التبرعات لإيثار المتبرع به وهو عين على المتبرع عليه، فاقتضى ذلك تعين المتبرع به لا محالة.

(وهذه لالتزام الديون) أي البياعات شرعت في أصلها لالتزام الديون في الذمة.

ص: 1972

ألا ترى أن الأثمان تجب في الذمة في البياعات بدون الضرورة فإن كانت الدراهم في يده حاضرة وقد اشترى السلعة مطلقا يجب ثمن السلعة في ذمته بالاتفاق، ولا يتعين تلك الدراهم التي في يده الثمن.

علم بهذا أن البياعات أصلها في التزام الديون في الذمة.

(فبطلت وجوه المقاييس في ذلك جملة) أي القياس على الغضب والوديعة والتبرعات والوكالة باطل لوجوه المقاييس وهى القياس الظاهر، والقياس الظاهر والقياس الخفي الذي هو الإستحسان والقياس بالعلل الطردية والاخالة والعلل المؤثرة، لأنه لما كان فاسدًا في الوضع لا يتأتى فيه لا القياس ولا الاستحسان ولا غيرهما، لأن الكل يفتقر إلى صلاح الوصف وهو لا يكون صالحًا مع فساد الوضع فبطل جميع وجوه القياس.

وقوله: (وفي قدر الوظيفة) أما عندنا، فلأن الاستيعاب في التيمم ليس بشرط في رواية الحسن عن أبى حنيفة -رحمهما الله

وأما عند الشافعي فلأن

ص: 1973

التيمم إلى الرسغ.

(وفي نفس الفعل) ، فإن الوضوء غسل، والتيمم مسح.

(انتقض ذلك بغسل الثوب والبدن) فإن ذلك الغسل طهارة أيضًا ولم تشترط فيه النية.

(بأن الماء في هذا الباب عامل بطبعه) أي عامل للطهارة قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) والطهور هو: الطاهر بنفسه والمطهر لغيره وهو يعمل في التطهير عند الإستعمال من غير النية كالنار تعمل الإحراق من غير النية.

ص: 1974

(لأن مخرج النجاسة غير موضوف بالحدث) هذا لبيان ألا يقال: القياس غسل المخرج فغسل الأعضاء الأربعة كان بخلاف القياس.

فقال: القياس غسل كل البدن بعدما ثبت الحدث في البدن على ما نبين (فوجب غسل كله) كالجنابة والحيض النفاس (فلم يكن التعدي عن موضع الحدث إلا قياسًا).

والأصل في هذا أن الإنسان إذا اتصف بصفة وقامت تلك الصفة ببعض البدن كان جميع البدن متصفًا بتلك الصفة، كما يقال: فلان عالم سميع بصير وإن كان هو يسمع بأذنه ويعلم بقلبه ويبصر بعينه، وجعلت تلك المجال بمنزلة الآلة والحدث من هذا القبيل، فإذا خرج من موضع اتصف جميع البدن به يقال: إنه محدث.

فعلم بهذا أن تعدي الحدث من محل الحدث إلى جميع البدن لم يكن إلا بطريق القياس على كونه سيعًا وبصيرا وعالمًا على ما ذكرنا، كما أنه يقال هناك: فلان عالم وإن قيام العلم بقلبه، فكذلك يقال: فلان محدث وإن كان قيام الحدث على الحقيقة بمحل مخصوص، إلا أن الاختصار على الأعضاء الأربعة مع المقتضي بوجوب غسل جميع البدن بخلاف القياس.

ص: 1975

(وإنما نعني) وفي هذا نسخ بالنون وهو الظاهر، وبياء الغائب مع البناء على المفعول، وإنما يعبر عن التغيير على بناء المفعول، وإنما تغير على صيغة الفعل الماضي من التغير.

(بالنص الذي لا يعقل وصف محل الحدث من الطهارة إلى الخبث) أي الحدث أي هذه الأعضاء كانت طاهرة فاتصافها بكونها نجسة من غير قيام النجاسة بها حقيقة معنى لا يدرك بالعقل.

(والنية للفعل القائم بالماء لا للوصف القائم بالمحل) أي أن اشتراط النية ليصير الماء مطهرًا ويصير غسل هذه الأعضاء قربة؛ لأن الشرط عند الخصم نية رفع الحدث، ورفع الحدث يحصل بفعل الماء وهو يظهر بطبعه فلا حاجة إلى النية.

(ومسح الرأس ملحق بالغسل) هذا جواب عن قول من يقول: ينبغي أن تشترط النية في مسح الرأس؛ لأنه لا يعقل الرأس مطهرًا فصار كمسح التيمم في استدعائه النية.

ص: 1976

فأجاب عنه بقوله: إنه ملحق بالغسل لإقامته بالماء كما في الغسل، وبهذا خرج الجواب عن شبهة ترد على هذا القول وهي: أن التيمم قائم مقام الوضوء ينبغي على هذا أن لا تشترط النية في التيمم كما لا تشترط في حق الوضوء الذي كان التيمم نائبًا عنه. قلنا: لتيمم وإن كان نائبًا عن الوضوء لكن هويقام بالتراب لا بالماء، والتراب في أصله غير موضوع للتطهير، بل للتلويث، فمع نية التطهير كان قائمًا مقامه لا عند عرائه عن النية.

(ولا يجوز أن تشترط) أي النية (لتصير قربة) أي لا يجوز أن يكون الاختلاف لهذا؛ لأن النية ليصير التيمم قربة شرط بالإجماع ولا نزاع في هذا، ولكن النزاع أن الصلاة هل تفتر إلى كون الوضوء قربة؟

(فكانت حجة في موضع الضرورة) كما في البكارة والعيوب في الموضع الذي لا يطلع عليه الرجال.

ص: 1977

(وما يبتذل في العادة) كالماليات (إلا أن فيها ضرب شبهة) باعتبار نقصان عقل النساء لتوهم الضلال والنسيان بكثرة غفلتهن؛ ولهذا ضمت إحدى المرأتين إلى الأخرى لتكونا كرجل واحد في الشهادة أو فيها شبهة الدلية.

(فكان فوق ما يسقط بالشبهات) يعني أن النكاح مندو مسنون فيحتاط في إثباته، ولهذا يثبت مع الهزل والكره من غير الرضا فكان فوق ما يسقط بالشبهات وهو الحد.

ألا ترى أن الشاهد إذا رجع بعد القضاء قبل الإمضاء لا يحد ويسقط الحد وفي النكاح لا يبطل النكاح، وكذلك النكاح لا يفسد بالشروط بل يبطل الشروط، وذلك كله دليل على أن النكاح أسرع ثبوتًا من المال، فلما ثبت المال بشهادة النساء مع الرجال فلأن يثبت بها النكاح أولى، وفي بعض النسخ:"فكان فوق ما لا يسقط بالشبهات" أراد به الأموال، فإن حقوق العباد في الأموال لا تسقط بالشبهات.

ص: 1978