الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط
ذكر في الكتاب مناسبة إلحاق هذا الباب بما قبله بقوله: (فألحقناها بهذا الباب ليكون وسيلة إليه بعد إحكام طرق التعليل)، ولكن هذه المناسبة التي ذكرها تقتضي أن يقدم هذا الباب على باب القياس؛ لان الوسيلة مقدمة على المقصود، وقد ذكرنا جوابه وما يلحق به في الوافي.
ثم اعلم: أن المراد من حق الله تعالى هو ما كانت منفعته عامة، ومن حق العباد ما كانت منفعته خاصة. هكذا نقل عن الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردي رحمه الله.
وقوله: (وعقوبات) سميت العقوبة عقوبة؛ لأنها تعقب الجنايات.
(وهي ثلاثة أنواع): أي العبادات ثلاثة أنواع.
(فانقلب) أي الإقرار انقلب (ركنا في أحكام الدنيا والآخرة).
أما في أحكام الدنيا فظاهر وهو إنما نحكم بكونه مؤمنًا عند الناس ويعامل به معاملة المؤمنين في الدنيا إذا أقر بإيمانه.
وأما في أحكام الآخرة فقد ذكر في هذا الكتاب في باب بيان صفة الحسن للمأمور به: فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنًا أي عند الله تعالى أيضًا وهو مذهب الفقهاء، ومن لم يصادف وقتًا يتمكن فيه من البيان وكان مختارًا في التصديق كان مؤمنًا أي بالإجماع أن يحقق ذلك،
وإنما كان هكذا لأن المصدق بالقلب عن اختيار يقر بلسانه لا محالة، فإذا لم يقر لم يكن مؤمنًا عند الفقهاء على ما ذكرنا هناك.
(وهو أصل في أحكام الدنيا أيضًا) أي الإقرار بالإيمان أصل الأحكام في الدنيا مع كونه دليلًا على الإيمان، ثم استدل على ركنيته بقوله:(حتى إذا أكره الكافر على الإيمان فآمن صح إيمانه) مع علمنا ظاهرًا بأنه لا تصديق في
قلبه؛ لأن من آمن لقيام السيف على قفاه. كان هو دليلًا على عدم التصديق في قلبه، ومع ذلك حكم بإيمانه؛ لوجود أحد الركنين وهو الإقرار؛ لأن "الإسلام يعلو ولا يعلى" فلذلك جعلناه أصلًا في هذا، وكذلك هذه التفرقة بين الإيمان والردة في حق السكران فإن إيمانه يصح وردته لا تصح؛ لما قلنا بأن "الإسلام يعلو ولا يعلى"، ولأن فيه سعيًا في جعله مؤمنًا تكثيرًا لسواد المسلمين، فإنه يمنع بعد ذلك عن الكفر قهرًا وجبرًا، فربما يحمله ذلك على الإيمان بطريق الإخلاص، وفي الردة بقي على الأصل لهذين المعنيين لما أن الأداء في الردة دليل محض ليس بركن بدليل وجود الردة بدون أداء لفظ
الردة، ولأن في جعلنا مسلمًا بمجرد إقراره طوعًا أو كرهًا حكمة أيضًا وهي رد طعن الكفار؛ لئلا يقولوا إنهم يقبلون من شاؤوا ولا يقبلون من شاؤوا، ومن كان لهم فيه نفع يقبلون وإلا لا يقبلون.
(وهي عماد الدين) ما خلت عنها الشريعة المسلمين، وهي تشمل الخدمة بظاهر الإنسان بالأفعال الدالة على التواضع والانقياد مع النظافة من جميع ما يتصل به وباطنه من النية والإخلاص والخضوع، فلذلك كانت هي اقوى من سائر العبادات.
(والأولى صارت بواسطة القبلة التي هي جماد، وهذه صارت قربة بواسطة الفقير الذي له ضرب استحقاق في المصرف)، ولما كانت واسطة الصلاة جمادًا كانت تلك الواسطة كأنها ليست بواسطة أصلًا؛ لأن وجود الشيء الذي لا اختيار له غير معتبر في كونه واسطة.
ألا ترى أن من حل قيد عبد فأبق لا يضمن الحال، ولو حل فم زق دهن
فسال يضمن؛ لأن إباق العبد لما كان باختياره طع فعل الحال لوجود الواسطة المعتبرة بين حل الحال وبين هلاك العبد بالإباق، ولم يعتبر سيلات الدهن واسطة؛ لعدم اختياره فبقي التلف مضافًا إلى من حل فم الزق، فلما كانت الواسطة في الصلاة أقل كانت هي أقرب إلى الإيمان من غيرها.
(ثم الصوم قربة يتعلق بنعمة البدن) يعني أن الصوم يجب على العبد بطريق الرياضة للنفس؛ ليكون أصلح لعبادة الخالق كرياضة المركب ليصلح لركوب السلطان فكان (ملحقًا بالصلاة)؛ لأن العدو إذا قهر يصير منقادًا فيعبد الله تعالى على قطع العلائق وهي الشهوات المركبة فيه، فكان دون الصلاة؛ لأن كف النفس الشهوية عن مقتضياتها وهي شهوة البطن والفرج موجود في الصلاة وزيادة، وفي الصوم لا يوجد إلا هذا فكان دون الصلاة وملحقاتها.
(وهي دون الواسطتين الأوليين) أي النفس أدون وأحقر من الكعبة والفقير فإنهما معظمان، فكانت العبادة التي كانت واسطتها أدون من تينك الواسطتين أدون من تينك العبادتين؛ لما أحن حسن هذه العبادات بسبب هذه الوسائط، فلذلك أثر انحطاط رتبة الواسطة وعظمتها في انحطاط هذه العبادات وعظمتها.
أو لأن الواسطة في الصلاة والزكاة غير العابد وهي خارجة عنه، والنفس
ليست بخارجة عن العابد، بل هي نفس العابد والشيء لا يكون واسطة لنفسه، فعلى هذا ينبغي أن يكون الصوم أفضل من الصلاة والزكاة، لكنه لما كان للرياضة على ما قلنا كان وسيلة لتكون النفس منقادة لسائر العبادات فكان بمنزلة التبع للصلاة والزكاة، وكل واحدة منهما أصل بنفسها؛ فلذلك كانت الصلاة والزكاة أقوى من الصوم (حتى صارت من جنس الجهاد) أي حتى صارت قربة الصوم من جنس الجهاد؛ لأن الصوم قهر النفس وهي عدو الله فكان قهره من جنس الجهاد. يؤيده قوله عليه السلام:"الجهاد جهادات، أحدهما أفضل من الآخر، وهو أن تجاهد نفسك وهواك".
وقوله: "حتى صارت من جنس الجهاد" متصل بقوله: "لا يصير قربة إلا بواسطة النفس"؛ لأن كونه قربة لما كان بواسطة النفس وهي أمارة بالسوء كان قهرها جهادًا.
(فكانت دون الصوم) أي عبادة الحج دون عبادة الصوم؛ لأن الصوم معقول حسنه؛ لأنه قهر عدو الله وهو مما يدرك العقل حسنه.
أما أفعال الحج فمما لا يدرك بالعقل حسنها، فكان ذلك دون الصوم من
هذا الوجه. (كأنها وسيلة إليه) أي إلى الصوم؛ لأ الصوم هو: الامتناع عن الشهوات، والحج لا يحصل غالبًا إلا بهجر الأوطان للنفس ولا يجد الحاج أيضا ما يقضي به شهواته فيضعفه وينكسر به شهوته فكان حينئذ أقدر على قهر النفس الذي هو صوم، فلذلك كان الحج بمنزلة الوسيلة إليه.
(والعمرة سنة واجبة) أي مؤكدة.
بدليل ما ذكره شمس الأئمة- رحمه الله بقوله: فالعمرة سنة قوية (تابعة للحج) كسنن الصلاة؛ لأن العمرة بعض أفعال الحج لا كلها فلم تكن مثل الحج بل تكون تبعًا.
(ثم الجهاد شرع لإعلاء الدين فرض في الأصل) هذا يقتضي كونه من فروض الأعيان؛ لأن إعلاء الدين فرض على كل مسلم، وإنما قلنا إنه شرع
لإعلاء الدين؛ لأن الجهاد في الحقيقة تعذيب عباد الله وتخريب بلاد الله وهو ليس بحسن في نفسه، وإنما حسنت شرعيته لكونه متضمنًا لإعلاء كلمة الله فلذلك كان من الفروض.
(لكن الواسطة هاهنا هي المقصودة) يعني أن كفر الكافر هو المقصود بالإعدام؛ لأن فرضية الجهاد لكفر الكافر فإذا حصل هذا المقصود وهو الإعدام يسقط عمن لم يجاهد، (فلذلك صار من فروض الكفاية).
ألا ترى أن الجهاد عند النفير العام صار من فروض الأعيان باعتبار الأصل.
(والاعتكاف شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان) يعني أن العزيمة
أن يشغل العبد مره بالعبادة وهي الصلاة؛ لأنها أشرف العبادات، وإنما قلنا إن العزيمة ذلك لتواتر النعم عليه كل ساعة وهي شرعت شكرًا للنعمة، إلا أن الله تعالى تفضل على عباده بإسقاطها في غير أوقاتها، وفي شرعية الاعتكاف أخذ بالعزيمة وهو إدامة الصلاة إما حقيقة بالاشتغال بالصلاة أو حكمًا؛ لأن المنتظر لللاه في الصلاة، وهومعنى قوله:"شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان" أي على قدرالوسع، فلذلك صح النذر به وإن لم يكن حسنه فرضًا عليه؛ لأن النذر بالاعتكاف نذر بالصلاة معنى؛ لأن التابع يعطى له حكم الأصل، (ولذلك اختص بالمساجد) وهذا يقرر ما ذكر من إدامة الصلاة؛ لأن المساجد هي المعدة لإقامة الصلاة.
(التي فيها معنى المؤنة صدقة الفطر)، وإنما لنا: أن فيها معنى المؤنة؛ لأنها تجب على الإنسان بسبب الغير، فاسم صدقة الفطر ينبئ عن كونها عبادة كصدقة التطوع فإنها عبادة بلا شبهة، وكذلك اشتراط النصاب مقدرًا بنصاب الزكاة يدل على كونها عبادة، وكذلك مصرفها أيضا وهو الفقير يدل على كونها عبادة، فلذلك جعل معنى العبادة فيها أصلًا، إلا أن فيها معنى المؤنة لما ذكرنا، فلذلك تجب على الصبي والمجنون الغنيين في مالها كالنفقة تجب
في مالهما، وكذلك تجب عليهما نفقة ذي رحم محرم منها.
(والمؤنة التي فيها معنى القربة هي العشر)، وإنما جعل المؤنة أصلًا؛ لأن سببه الأرض النامية والأرض هي الأصل في السبب فكانت المؤنة أصلا في العشر وقربة باعتبار الخارج من الأرض فتعلقه بالخارج كتعلق الزكاة بالنامي فلهذا يشبه الزكاة فلذلك كانت القربة فيه تبعًا.
(والخراج مؤنة فيها معنى العقوبة؛ لأن سببه الاشتغال بالزراعة) وهي عمارة الدنيا والإعراض عن الجهاد وهو عادة الكفار، ولذلك استحق به الذل على ما قال عليه السلام حين رأى آلات الحراثة في دار قوم:"ما دخل هذا في دار قوم إلا وقد ذل أهلها".
وقال عليه السلام: "إذا تبايعتم العين واتبعتم أذناب البقر فقد ذللتم وظفر بكم العدو". فكان وجوب الخراج باعتبار الوصف عقوبة (لحفظ الأرض وإنزالها) يعني أن الخراج وجب ليحمي الإمام الأرض والإنزال وهما سواء
في هذا المعنى.
(فلذلك لا يبتدأ) وضع الخراج (على المسلم) لما فيه من معنى الذل والعقوبة، (ويجوز بقاؤه على المسلم) بأن أسلم الكافر أو اشترى أرض الخراج مسلم؛ لأن المؤنة فيه أصل والعقوبة باعتبار الوصف وهو الإعراض عن الجهاد بسبب الاشتغال بالزراعة.
والمسلم ليس من أهل العقوبة ابتداء ولكن من أهلها بقاء كما في الحدود، فلذلك لم يجب الخراج على المسلم ابتداءً ولم يبطل بقاء، (فلكونه مترددًا بينهما لم يبتدأ) على المسلم (بالشك ولم يبطل أيضا بالشك) بقاء لما ذكرنا أن الإسلام لا ينافي صفة العقوبة بقاء بخلاف العشر إذا اشترى الكافر أرضًا عشرية لا يبقى عليه؛ لأن الكفر ينافي القربة ابتداء وبقاء من كل وجه أي لا يجامعه القربة بوجه من الوجوه، وهو الجواب عن قول محمد- رحمه الله.
(وقال أبو يوسف: يجب تضعيفه)؛ لأن في العشر معنى القربة فلم
يمكن إبقاؤه على الكافر فأحتجنا إلى التغيير، فالتضعيف أولى؛ لأن الشرع ورد به والتغيير ثبت بالضرورة وهو في التضعيف أقل من جعله خراجًا؛ لأن في الخراج تغيير الأصل والوصف، وفي التضعيف تغيير الوصف دون الأصل، فلذلك كان التضعيف أولى من الخراج، ولكنا نقول: إن تضعيف العشر على الكافر ثبت بخلاف القياس بإجماع الصحابة- رضون الله عليهم- وهو أن عمر- رضي الله عنه وضع على نصارى بني تغلب وهم كانوا ذوي شوكة، وقيل: إنهم كانوا أربعين ألفا وكانوا قريبا من الروم، فقالوا: نحن نستنكف الجزية وفيها الدنية فتعطي ضعف ما يعطي المسلمون، فصالحهم عمر- رضي الله عنه على ذلك لمصلحة رآها وسائر الكفار لا يساويهم؛ لأن الجزية تؤخذ من سائر الكفار دونهم بالإجماع، فلذلك لم يجز القول بتضعيف العشر على الكافر من غير بني تغلب إذا اشترى أرضًا عشرية، وهذا جواب عن قول أبي يوسف- رحمه الله.
(وعن محمد- رحمه الله روايتان في صرف العشر الباقي) أي الباقي على الكافر بعد شرائه الأرض العشرية، وإنما قال:"الباقي" لأنه لا يبتدأ به على الكافر فيكون عليه بقاء لا ابتداءً وهو قول محمد- رحمه الله وقوله: "روايتان" أي في مصرف هذا العشر إحداهما يصرف إلى المقاتلة كالخراج لاعتبار معنى المؤنة الخالصة، وفي الأخرى يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأنه لما بقي باعتبار معنى المؤنة يبقى على ما كان مصروفًا إلى من كان مصروفًا إليه قبل هذا كالخراج في حق المسلم.
(فلا يصار إليه مع إمكان الأصل) أي إلى تضعيف العشر وهو خلف عن الخراج مع إمكان الأصل وهو الخراج؛ إذ المصير إلى الخلف عند العجز عن الأصل وهو موجود في نصارى بني تغلب غير موجود في غيرهم فلذلك انقلب خراجًا.
(وأما الحق القائم بنفسه فخمس الغنائم) ومعنى القيام بنفسه فيه هو
أنه لم يوضع له سبب مقصود في وجوبه، والغنائم وان أصيبت بسبب الجهاد لكن الجهاد غير مشروع قصدًا لإصابة الغنائم، بل شرعيته مقصودًا لإعلاء كلمة الله تعالى وتثبت الغنيمة في ضمن إعلاء كلمة الله تعالى، فكانت هي خالصة لله تعالى بلا سبب في الحقيقة، وإليه وقعت الاشارة في قوله تعالى:(قل الأنفال لله)، فلذلك كانت هي حقًا قائمًا بنفسه بخلاف الصلاة والزكاة وغيرهما من المشروعات، فان لها أسبابًا موضوعة قصدًا.
ثم الانفال كلها وإن كانت خالصة لله تعالى أعطى الله تعالى أربعة الأخماس للغانمين منة منه وفضلًا، واستبقى الخمس لنفسه بين من ذكر في القرآن فتولى السلطان اخذه وقسمته.
(فلم يكن حقا لزمنا أداؤه له) أي فلم يكن الخمس.
والدليل على أنه لا يجب على العبد أداؤه طاعة (جواز صرفه إلى الغانمين الذين استحقوا أربعة الأخماس) عند حاجتهم، ويجوز وضع خمس المعدن في الواجد مع أنه استحق أربعة الأخماس (بخلاف الزكوات والصدقات فإنها لا ترد إلى ملاكها بعد الأخد منهم) وإن كانوا محتاجين.
) لأنه على ما قلنا من التحقيق لم يصر من الأوساخ) يعني أن الخمس لما لم يجب على العبد أداؤه طاعة لم يصر من الأوساخ. ألا ترى أن الزكاة لما وجبت على العبد صارت من الأوساخ، ونعني بالأوساخ سرايةَ الذنوب إليها كسرايتها إلى الماء الذي استعمل في البدن على وجه القربة لم يحل شربه، فكذلك مال الزكاة لم يحل لبني هاشم لهذا المعنى لفضيلتهم، أما الخمس لما لم يكن بهذه المثابة لم يكن وسخًا فحل لبني هاشم.
(فكانت أولى بالكرامة). يعني أن سبب استحقاق الخمس عندنا النصرة لا القرابة، وعبادة كالمطيع يستحق الكرامة بوعد الله تعالى فكان استحقاق الخمس بالنصرة أولى من استحقاقه بالقرابة، والمراد بالنصرة هنا
اجتماعهم مع رسول الله عليه السلام حين هجره الناس ودخولهم معه في الشعب، وإلى هذا أشار النبي عليه السلام بقوله:"لن تزالوا معي وشبك بين أصابعه". ولذلك يصرف إلى نسائهم ورجالهم لوجود هذه النصرة منهم جميعًا.
(ولأنها) أي ولأن النصرةَ (تخالف جنس القرابة فلم تصلح وصفًا لها) كما قلنا في باب الترجيح: إذا ماتت المرأة وتركت ابني عم أحدهما زوجها لا يترجح الزوج بالزوجية على الآخر في التعصيب؛ لأن الزوجية تخالف قرابة العمومة فلا تصلح وصفًا مرجحًا بخلاف ابن الأخ لأب وأم فإنه أحق بالتعصيب من ابن الأخ لأب؛ فإن الإخوة لأم من جنس الإخوة لأب من حيث الأخوة وإن لم توجب العصوبة، فلذلك صلحت مرجحة للأخوة في التعصيب، ولأن الزوجية علة الإرث بانفرادها فلا تصلح مرجحةً لما قلنا: إن ما يصلح علةً لا يصلح مرجحًا.
(في أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكمًا)، وهذا بناء على ما ذكرنا أن الغنيمة كلها لله تعالى بناء على أن الجهاد حق الله تعالى خالصًا، وهي
أصيبت بالجهاد فكانت له، فتملك عند تمام الجهاد، والجهاد إنما يتم حكمًا بالإحراز بدار الإسلام؛ لأنه حينئذ يتم قهر الأعداء؛ لأن المسلمين ماداموا في دارر الحرب يحتمل غلبة الكفار إياهم فلم يتم الجهاد حكمًا، فلو كانت الغنيمة كسائر حقوقنا لتم بأخذنا؛ لأنه استيلاء على ماهو المباح كالصيد وغيره، وحيث لم تصر لنا بالأخذ قصدًا علم أنها ليست لنا كسائر الحقوق.
(ويبتنى عليه مسائل لا تحصى) فمنها: أن المدد إذا لحق الغزاة في دار الحرب شاركوهم لما أن الغزاة لم يملكوها.
ومنها: أن قسمة الإمام الغنيمة في دار الحرب لا تجوز.
ومنها: أن من مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة، ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار السلام فنصيبه لورثته.
(وأما العقوبات الكاملة فمثل الحدود) فإنها شرعت زواجر عن
ارتكاب أسبابها المحظورة حقًا لله تعالى خالصًا نحو جد الشرب والزنا والسرقة.
(وأما القاصرة فنسميها أجزية) مثل حرمان الميراث بالقتل.
وتسميتها أجزية؛ لأنها تثبت جزاء لفعله إلا أن الجزاء في وضعه لا يدل على كونه عقوبة؛ لأنه أعم من العقوبة، فالعقوبة ام لما يعقب الجناية من الجزاء فكان سببها الجناية فقط، والجزاء يتناولها وغيرها فلأجل قصوره سميناه أجزية، (ولذلك لا يثبت في حق الصبي) والمجنون عندنا أصلا؛ لأنها عقوبة.
وأهلية العقوبة لا تسبق الخطاب (بخلاف الخاطئ) إذا كان عاقلًا بالغًا حيث يثبت في حقه الحرمان؛ لأنه مخاطب في نفسه ولكنه بسبب الخطأ عذر
مع نوع تقصير في التحرز؛ لأنه لم يثبت ولم يتأن فناسب أن يلزمة الجزاء القاصر بسبب الجناية القاصرة، فالجزاء باعتبار ترك التاني، والقصور باعتبار عدم قصده فلم يجب القصاص؛ لأن ذلك جزاء كال فيقضي جناية كاملة، (والصبي لا يوصف بالتقصير الكامل والناقص) فلا يثبت في حقه ما يكون عقوبة قاصرة أو كاملة.
(لأنه جزاء المباشرة) أي لأن حرمان الميراث إنما يثبت بطريق الجزاء لمباشرة القتل، والموجود من حافر البئر وأمثاله تسيب لا مباشرة.
(والحقوق الدائرة) أي الدائرة بين العبادة والعقوبة وهي الكفارات؛ لأنها ما وجبت إلا جزاء على أسباب توجد من العباد، فسميت كفارة باعتبار أنها ستارة للذنب فمن هذا الوجه عقوبة، فإن العقوبة هي التي تعقب الذنب جزاء على ارتكاب المحظور.
(فيها معنى العبادة في الأداء)؛ لأن الصوم والإعتاق والإطعام عبادات.
ولم تجب مبتدأة حيث لم تجب على الإنسان من غير سابقة اليمين مع الحنث في كفارة اليمين وكذلك في غيرها.
(وجهة العبادة فيها غالبة)؛ لأن كون سببها مترددًا بين كونه محظورًا ومباحًا وهو اليمين مع الحنث إذ القتل أوجب كون حكمه مترددًا بين كونه عبادة وعقوبة، فلما استوى كل واحد من السبب والحكم في التردد أوجب أداء موجبها بالعبادة المحضة من الصوم وغيره رجحان جانب العبادة.
وكذلك وجوبها على الخاطئ والمكره دليل على كونها عبادة، وكذلك وجوبها بطريق الفتوى مفوضًا أداؤها إلى من وجبت عليه من غير أن تقام عليه كرها ومن غير أن يفوض استيفاؤها إلى الأئمة على كونها عبادة؛ لما أن الشرع ما فوض إقامة شيء من العقوبات إلى المرء على نفسه.
وكذلك وجوبها على حانث لم يأثم في حنثها دليل على رجحان جانب العبادة، وذلك مثل من حلف لا يكلم هذا الكافر فأسلم ذلك الكافر فكلمه تجب الكفارة من غير أن توجد منه جناية؛ لأن الواجب عليه في هذه الحالة أن يكلمه؛ إذ هجران المؤمن غير مشرروع، وكذلك عدم التدخل في الكفارة دليل على رجحان جانب العبادة.
وقوله: (عندنا) احتراز عن قول الشافعي، فإن جانب العبادة عنده لم يترجح حتى أوجب في القتل العمد واليمين الغموس، فلما ترجح جانب العبادة فيهما عندنا (راعينا فيها صفة الفعل) من كون ذلك الفعل له مباحًا من وجه ومحظورًا من وجه (فلم نوجب على القاتل عمدًا وصاحب الغموس)؛ لأنهما لا يصلحان سببًا لهذا الجزاء؛ لأن فعلهما كبيرة محضة.
(وقلنا: لا يجب على المسبب الذي قلنا) أي من الحافز وغيره؛ لأن كفارة القتل واجبة على القاتل الذي حصل قتله منه مع وصف الإباحة، وهؤلاء مسببون لا قاتلون (والشافعي- رحمه الله جعلها ضمان المتلف) في الأصل (وذلك غلط)؛ لأن ضمان المتلف في الأصل إنما يجب بطريق الجبران، وذلك لا يتحقق فيما يخلص لله تعالى؛ لأن الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه الخسران حتى تقع الحاجة إلى الجبران (بخلاف الدية)، فإنها بدل
عن المحل وهي حق العبد وضمان المتلف بالإجماع، فلذلك وجبت على المسبب والصبي.
(وكذلك الكفارات كلها) بعني جهة العبادة راجحة في جميع الكفارات أي ما ذكرنا من التقرير في كفارة اليمين والقتل متحقق في غيرها من الكفارات، ولهذا لا تجب على الكافر. هذا لإيضاح أن في الكفارة جهة العبادة راجحة، لأن الكافر ليس بأهل لشيء فيه معنى العبادة.
وقوله: (ما خلا كفارة الفطر) متصل بقوله: "وجهة العبادة فيها غالبة" فإن في كفارة الفطر جهة العقوبة غالبة؛ لأن سببها في الحقيقة لا يتردد بين الحظر والإباحة بل جناية محضة في حق الله تعالى وهو الإفطار الكامل في جنايته، لكن الصوم لما لم يكن مسلما بتمامه إلى الله تعالى كان فيه ضرب من القصور، فبالنظر إلى هذا كانت الجناية قاصرة واحتمل الفطر شبهة الإباحة، فقلنا: تجب عقوبة، وتؤدى عبارة اعتبارًا لتلك الجهة.
وقوله: (حتى تسقط بالشبهة) متصل بقوله: "فإنها عقوبة"(وقلنا: تسقط باعتراض الحيض والمرض) يعني أن المرأة إذا أصبحت صائمة في رمضان ثم أكلت أو شربت عمدًا فوجبت عليها الكفارة، ثم حاضت في ذلك اليوم تسقط عنها ما وجب عليها من الكفارة، وكذلك المرض في حق الرجل والمرأة.
(وتسقط بالسفر الحادث إذا اعترض الفطر على السفر) وإنما فيد باعتراض الفطر على السفر احترازا عما لو اعترض الفطر على المقيم ثم سافر في ذلك اليوم، حيث لا تسقط عنه الكفارة بخلاف الحيض والمرض على ما يجئ في العوارض إن شاء الله تعالى.
(وتسقط بشبهة القضاء) أي قضاء القاضي يعني إن رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد القاضي شهادته فإنه يجب عليه صوم ذلك اليوم بالإجماع؛ لأنه متيقن في رؤية هلال رمضان، ومع ذلك لو أفطر متعمدًا لا تجب عليه الكفارة لشبهة قضاء القاضي بأن هذا اليوم من شعبان.
وقوله: (وظاهر السنة) أراد به قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون".
وكذلك قال أبو حنيفة- رحمه الله: إذا نوى الصوم من النهار ثم أفطر لا كفارة عليه. لظاهر قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل".
(لشبهة في الرؤية) يعني يحتمل أنه أخطأ في رؤية الهلال صار ذلك الاحتمال شبهة في حق وجوب الصوم عليه قطعًا، فلم تجب الكفارة بالأكل في ذلك اليوم متعمدًا لذلك.
(فإنه ألحقها بسائر الكفارات) أي كما أن سائر الكفارات وهي كفارة اليمين والظهار والقتل الخطأ لا تسقط بالشبهة اعتبارًا لرجحان جانب العبادة، فكذلك كفارة الفطر، إلا أنا أثبتنا ما قلنا أي أن جهة العقوبة راجحة في كفارة الفطر (استدلالًا بقول النبي عليه السلام:"من أفطر في رمضان متعمدًا فعليه ما على المظاهر").
واستدلالًا أيضًا بخير الأعرابي حيث قال: هلكت وأهلكت، فلما ظهر رجحان معنى العقوبة فيها من هذا الوجه جعلنا وجوبها بطريق العقوبة، فقلنا: إنها تندرئ بالشبهات حتى لا تجب على من أفطر بعدما أبصر هلال رمضان وحده للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون" أو بصورة قضاء القاضي بكون اليوم من شعبان. كذا قاله الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.
(ولإجماعهم أنها لا تجب على الخاطئ) ولو كانت بمنزلة سائر الكفارات لوجبت عليه كما وجبت على الخاطئ في القتل وعلى الحانث خطأ في اليمين.
(لكنه لما لم يكن حقا مسلمًا تامًا)؛ لأن تمام الصوم بالليل، فتكون الجناية قاصرة فأوجبنا جزاءها بالوصفين عقوبة وجوبًا نظرًا إلى سببه، وعبادة أداء حتى تؤدي بالعبادات المحضة ويفتى بها ولا تستوفى جبرًا.
(وقد وجدنا ما يجب عقوبة يستوفى عبادة كالحدود؛ لأن إقامة السلطان عبادة) على ما روي عن النبي عليه السلام: "عدل ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة" والمرء لا يئاب إلا بما هو عبادة.
وكذلك إقامة الحدود بعد التوبة، فإن إقامتها للطهرة فكان وجوبها بطريق العقوبة واستيفاؤها بطريق العبادة.
(ولهذا قلنا بتداخل الكفارات في الفطر).
قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: قلنا بتداخل الكفارات والاكتفاء بكفارة واحدة إذا أفطر في أيام رمضان؛ لأن التداخل من باب الإسقاط بطريق الشبهة، وأثبتنا معنى العبادة في الاستيفاء؛ لأنها سمت كفارة.
(وحقوق العباد أكثر من أن تحصى).
وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: وأما أن يكون محض حق العباد فأكثر من أن يحصى نحو ضمان الدية، وبدل المتلف، والمغصوب، وما أشبه ذلك.
(والذي يغلب فيه حق العبد القصاص). ألا ترى أنه يجري فيه الإرث والعفو، ولو باشر الإمام الذي ليس فوقه إمام القتل العمد يقتص منه بخلاف حد القذف.
فعلم أن حق العبد غالب في الأول دون الثاني.
وأما حق العبد في حد القذف فمن حيث إن سببه جناية على المقذوف من هتك عرضه.
وأما حق الله تعالى في القصاص فمن حيث أنه يسقط بالشبهات كما في الحدود، ولأن القصاص في الأصل جزاء لا ضمان المحل.
ألا ترى أن ألف رجل إذا اجتمعوا على قتل رجل واحد فقتلوه يقتلون جميعًا، وما وضع بمقابلة الفعل جزاء كان من حقوق الله تعالى، فلو كان ضمان المحل لما قتلوا جميعًا كما في الدية؛ حيث لا تزاد الدية على ألف دينار إذا كان القتل خطأ وإن كان القاتلون جماعة.
(وأما حد قطاع الطريق فخالص عندنا) أي خالص حق الله تعالى؛ لأنه لا يجري فيه العفو والإرث ويسقط بالشبهات، ولأن حق العبد مقيد بالمثل لا محالة والقصاص منه.
فأما حد القذف وحد قطع الطريق فليسا بمقيدين بالمثل، فإن جلد ثمانين ورد الشهادة لم يعقل ملًا للقذف، وقطع اليد والرجل مثلًا لأخذ عشرة دراهم.
وهذه الحقوق كلها تنقسم إلى أصل وخلف.
أما الإيمان فقد ذكر في الكتاب أصله وخلفه.
أما الصلاة فأصلها أن يصلى كما هو المعروف من أركانها وشروطها، وخلفها عند العجز عن الأصل فدية طعام مسكين إذا أوصى، وكذلك في الصوم وفي الحج إذا أوصى أن يحج عنه فيكون ذلك خلفًا عن أدائه، وكذلك في حقوق العباد قيمة المتلفات خلف عن المتلفات، ثم صارت تبعية أهل الدار خلفا عن تبعية الأبوين.
فإن قيل: لم يعهد في صورة من الصور في الشرعيات أن يكون للخلف خلف فكيف جاز هاهنا؟
قلنا: إن ذلك خلف عن أداء الصغير، لكن البعض مرتب على البعض يعني: إن الدار خلف عن أداء الصغير، وذلك كالوارث أنه خلف المورث، والابن مقدم على ابن الابن، فإذا لم يكن الابن يكون ابن الابن خلفًا عن الميت لا عن الابن، لكن شرط خلفية ابن الابن عن الميت عدم الابن الصلبي، فكذا هاهنا شرط خلفية أهل الدار عن أداء الصغير عدم الأبوين، ومثل هذا لا
يكون خلف الخلف (لكن هذا الخلف عندنا مطلق) لقوله عليه السلام: "التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" وهو خلف مطلق في قول علمائنا.
(وعند الشافعي هو خلف ضروري)، ولهذا لم يعتبر قبل دخول الوقت عنده في حق أداء الفريضة، ولم يجوز أداء الفرضين بتيمم واحد؛ لأنه خلف ضرورة فيشترط فيه تحقق الضرورة بالحاجة إلى إسقا الفرض عن ذمته وباعتبار كل فريضة تتجدد ضرورة أخرى.
فالحاصل أن عنده هو ضرورة ابتداء وبقاء وعندنا ضرورى ابتداء لا بقاء.
(أو وقع في سهم المسلمين)، وصورة المسألة فيما إذا قسمت الغنائم في
دار الحرب فوقع الصبي في سهم رجل من الغزاة يحكم بإسلامه حتى لو مات يصلى عليه، وإنما قيدنا بالقسمة في دار الحرب؛ لأن الصبي لو أخرج إلى دار الإسلام بدون القسمة وليس معه أحد أبوية الكافرين كان مسلمًا أيضًا لا باعتبار تبعية السابي، بل باعتبار تبعية الدار.
(وقال في إناءين نجس وطاهر في السفر: إن التحري فيه جايز)، وقيد بالإناءين؛ لأن الماء لو كان في ثلاثة أوان والغلبة للطاهر بأن كان الإناءان طاهرين والثالث نجسًا فإنه يتحرى فيها بالاتفاق؛ لأن الحكم للغالب وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر، وإصابته بتحريه مأمول.
وإن كانت الغلبة للأواني النجسةأو كانا سواء فليس له أن يتحرى عندنا، وعلى قول الشافعي: يتحرى ويتوضأبما يقع بتحريه أنه طاهر، فهذا ومسألة
المساليخ سواء. كذا في "المبسوط" ثم مذهبه في المساليخ أنه يتحرى فيها للأكل في حالة الاختيار وإن كانت الغلبة للحرام، وعندنا لا يتحرى في المساليخ في حالة الاختيار إذا كانت الغلبة للحرام أو كان الحرام والحلال متساويين؛ لأن الحرام يغلب عند المساواة شرعًا هذا في الإناءين.
أما إذا وقع الأمر في الثياب، وفي بعضها نجاسة كثيرة وليس معه ثوب غيرها ولا ما يغسلها به ولا يعرف الطاهر من النجس، فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه أنه طاهر سواء كانت الغلبة للثياب الطاهرة أو للثياب النجسة أو كانا متساويين؛ لأنه لا يجد بدآ من ستر العورة في الصلاة فجوزنا له التحري للضرورى بخلاف الأواني، وقد ذكرنا أن الغلبة إذا كانت للأواني النجسة أو كانا سواء ليس له أن يتحرى عندنا، والفرق بينهما أن الضرورة لا
تتحقق في الأواني؛ لأن التيمم طهور له عند عجزه عن استعمال الماء الطاهر، فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة؛ لأنه أمكنه إقامة الفرض بالبدل، وفي مسألة الثيات الضرورة تتحقق؛ لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض، حتى إن في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وليس معه الماء الطاهر يجوز له أن يتحرى وإصابة الطاهر بتحريه مأمول أولى.
(لكن الخلافة بين الماء والتراب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- وعند محمد وزفر- رحمهما الله- بين التيمم والوضوء)
والمتيمم صاحب الخلف فتكون صلاة المقتدي أقوى إذا كان متوضئًا فلا يجوز بناؤه عليه؛ إذ الاقتداء بناء وبناء القوي على الضعيف لا يجوز.
وعندهما هما سواء؛ إذ الخلافة عندهما بين الماء والتراب فكانت الطهارة بالتيمم مثل الطهارة بالماء عند وجود رطها في تحقيق شرط جواز الصلاة فيجوز اقتداء أحدهما بالآخر.
وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: ثم الخلافة عند محمد- رحمه الله بين التيمم والوضوء بطريق الضرورة، حتى لو صلى على الجنازة بالتيمم ثم جيء جنازة أخى يلزمه تيمم اخر، وإن لم يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله-: التراب خلف عن الماء فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة.
(وإنما غرضنا الإشارة إلى الأصل) وهو أن الخلف يثبت بما يثبت به الأصل، ونعني بذكر الأصل هاهنا هذا وهو أن الأصل يثبت بالنص لا بالرأي فكذلك (الخلف لا يثبت إلا بالنص أو دلالته).
وقوله: "وذلك" إشارة إلى الأصل الذي ذكرنا، ونظير ذلك أن يقول: فبالعرق والبزاق والدمع لما لم يجب الأصل بالنص وهو الوضوء لم يجب بهذه الأشياء خلفه وهو التيمم، وكذلك العدة لما لم تجب بالحيض بالنص في الطلاق قبل الدخول لم يجب خلفها وهو العدة بالأشهر.
(وشرطه) أي وشرط الخلافة على تأويل وشرط حكم الخلافة يعني أن الخلف يجب لما يجب به الأصل، وشرط كونه خلفًا أن ينعقد السبب موجبًا للأصل لمصادفته محله ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف، وإذا لم ينعقد السبب موجبًا للأصل باعتبار أنه لم يصادف محله لا يكون موجبًا للخلف، حتى إن الخارج من البدن إذا لم يكن موجبًا للوضوء كالدمع والبزاق لا يكون موجبًا للتيمم على ما ذكرنا.
واليمين الصادقة إي التي بر الحالف فيها لما لم تكن موجبة للتكفير بالمال لم تكن موجبة لما هو خلف عنه، وهو التكفير بالصوم.
فإن قلت: يشكل على هذا مسألة قضاء الصوم للحائض، فإن قضاء الصوم خلف عن أدائه الذي هو الأصل، ثم إن المرأة إذا حات في شهر رمضان تقضي الصوم خارج رمضان مع أن أداء الصوم الذي هو الأصل لم يكن مشروعًا في حق الحائض أصلًا لما أن الطهارة عن الحيض شرط صحة الصوم ومع ذلك يجب عليها قضاؤه مع عدم مشروعية الأصل عليها.
قلت: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن قضاء الصوم على الحائض ثبت بالنص، وهو قول عائشة رضي الله عنها:"كانت إحدانا على عهد رسول الله- صلي الله عليه وسلم- إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلوات". والحكم الذي ثبت بالنص لا مجال للقياس فيه.
والثاني: هو أن اشتراط الطهارة للحائض من الحيض في حق صحة
الصوم ثبت بالنص بخلاف القياس.
ألا ترى أنه لا يشترط لصحته الطهارة من الحدث والجنابة بخلاف اشتراط الطهارة في حق الصلاة فإن ذلك موافق للقياس، ولما كان كذلك أظهرنا أثر اشتراط الطهارة في حق الصلاة في الأداء والقضاء وأظهرنا أثر اشتراط الطهارة في الصوم في حق الأداء لا في حق القضاء تعليلًا لعمل ذلك الاشتراط الذي ثبت بخلاف القياس كما قلنا مثل ذلك في عمل شرط الخيار في البيع.
فحصل من ذلك أن اشتراط من الحيض للصوم لما ثبت بخلاف القياس جعل أن أصل وجوب الصوم إدراك الحائض في وقته فوجب القضاء بمثلها بناء عليها تقديرًا بخلاف الصلاة، ويجيء بيان هذا بتمامه في العوارض في مسألة الحيض والنفاس إن شاء الله تعالى.
(ولهذا قال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- في المشهود بقتله إذا جاء حيًا) إلى آخره. صورته ما ذكرة في باب رجوع الشهود من ديات " المبسوط": وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمد وقتل بشهادتهما ثم رجعا فعليهما الدية في مالهما في قول علمائنا.
وقال الشافعي: عليهما القصاص؛ لأنهما باشرا قتلًا بغير حق؛
لأنهما ألجأ القاضي إلى القضاء بالقتل، فإنه يخاف العقوبة إن امتنع من ذلك، والملجئ مباشر حكمًا فصار كالمكره.
قلنا: إن الشاهد غير مباشر لا حقيقة ولاص حكمًا ولا معنى؛ لما ذكره من الإلجاء؛ لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة ولا يصير ملجئًا، فكل أحد يقيم الطاعة خوفًا من العقوبة على تكرها في الآخرة، ولا يصير به مكرها، ثم إن وجد هذا الإلجاء في حق القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضي عليه مقتولًا، وإنما صار مقتولًا باستيفاء الولي وهو غير ملجئ إلى ذلك، بل هو مندوب إلى العفو شرعًا.
فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية إن رجعا، وعلى أحدهما نصف الدية إن رجع؛ لأن كل واحد منهما مسبب لإتلاف نصف النفس، فإن رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيًا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل؛ لأن القاتل متلف للنفس حقيقة والشهود متلفون لها حكمًا.
والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الولي القاتل الدية لم يرجع على الشاهدين بشيء؛
لأنه ضمن بفعل باشره بنفسه باختياره، وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه.
وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله-: يثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا؛ لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان، كما لو شهدا بالقتل الخطأ أو بالمال فقضي القاضي واستوفى المشهود له رجعوا جميعًا وضمن المشهود عليه الشاهدين كان لهما أن يرجعا، ولا يقال هناك قد ملكًا المقبوض بالضمان وهنا لم يملكا؛ لأن القصاص لا يملك بالضمان والمشهود به هو القصاص؛ لأنا نقول: إنهما إن لم يملكا فقد قاما مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرًا فغصبه آخر منه ثم ضمن المالك الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني وإن لم يملك المدبر بالضمان ولكنه قام مقام ضمنه.
وهذا لأن القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل للتملك فيكون السبب معتبرًا على أن يعمل في بدله عند تعذر إعماله في الأصل- كاليمين على مس السماء تنعقد في إيجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر متوهم الوجود في الجملة.
وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر مال متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب للغاضب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى رجع بالضمان على الغاضب الثاني.
وكذلك شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنوا للولي القيمة كان لهم أن يرجعوا على الكاتب ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة المكاتب مملوكًا، ولكن لما كان المكاتب مملوكًا انعقد السبب في حقهم على ان يكون عاملًا في بدله وهو بدل الكتابة فيملكون بدل الكتابة بذلك وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله.
وأبو حنيفة- رضي الله عنه يقول: الشهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما ضمن على غيره كالولي؛ وهذا لأنهم لو لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع المباشر للإتلاف؛ لأن مجرد السبب يسقط اعتباره في مقابلة المباشرة.
ألا ترى أنه لو دفع انسانًا في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الدافع دون الحافر، وهنا لما ضمن الشهود عررفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكمًا وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي، فأن استيفاء الولي بمنزلة شرط مقرر لجنايتهما ومن ضمن بجانيته على النفس لا يرجع على غيره.
وقولهما بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له على ان يعمل في بدله قلنا: هذا أن لو كان الأصل متوهم الملك بالضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحف كيمين الغموس، ثم لو كان القصاص ملكًا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولي بالعفو أو قتل من عليه القصاص إنسان آخر فليس لمن له القصاص الضمان.
وانعقاد السبب لا يكون أقو من ثبوت الملك حقيقة، وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك فكيف يضمنه لمن انعقد له سبب القصاص؟ وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة، فإن هنك لو كان مالكا حقيقة كان يضمنه المتلف عليه، فكذلك إذا جعل كالمالك حكمًا باعتبار انعقاد السبب كان له أن يرجع بالبدل لذلك.
وقوله: (إن ملك الأصل المتلف وهو الدم غير مشروع أصلًا)؛ لأن الدم لا يملك بالضمان بحال وفي القصاص الذي قالا: الولي لا يملك نفس من عليه القصاص، وإنما يستوفيه بطريق الإباحة.
ولو كان الدم بمحل أن يملك لم يكن إيجاب الضمان للشهود على الولي
أيضًا؛ لأن إتلاف ملك الدم لا يوجب الضمان سواء أتلفه حقيقة أو حكما على ما ذكرنا من قتل إنسان من عليه القصاص وشهادة العفو ثم الرجوع.
(يحكي الأصل) أي يشابهه.
(لو صار ملكا) أي لو صار الدم ملكا أي لو ثبت ملك القصاص فهو غير مضمون بنفسه على ما ذكرنا.
(وأما القسم الثاني): وهو ما يتعلق به الأحكام المشروعة.
(ومنه قول زهير) أوله:
ومن هاب أسباب المنايا
…
ينلنه ولو نال ........ البيت
وذكر في الصحاح بيت الأعشى يهدد رجلا بالهجو بقوله:
فلو كنت في جب ثمانين قامة
…
ولقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره
…
وتعلم أني عنكم غير مفحم
الاستدراج: استفعال من الدرجة وهو إدناء الشيء من الشيء بطريق التدريج، يقال: هره يهره إذا كرهه.
(والمريض عليلاً)؛ لأن بحلول العلة بالشخص يغير حاله.
(كالجرح بالمجروح) حيث يتغير حال المجروح من وصف الصحة إلى وصف كونه مجروحا.
وقيل: العلة حادث يظهر أثره فيما حل به لا عن اختيار منه، ولهذا سمي الجرح علة ولا يسمى الجارح علة، لأنه يفعل عن اختيار، ولأنه غير حال بالمجروح، ولهذا لم يجز وصف القديم جل ذكره بالعلة؛ لأن الله تعالى أنشأ العالم عن اختيار ولا يوصف بحلول.
(عما يضاف إليه الحكم ابتداء)
وقوله: ((ابتداء)) احتراز عن الدليل فإنه يبين أمرا قد كان. لا أن يثبت الحكم ابتداء كالدخان فإنه دليل على وجود النار لا علة.
وقيل: هو احتراز عن التعليقات، فإنها تثبت الحكم بطريق الانقلاب لا بطريق الإبتداء، فإن عند وجود الشرط في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق انقلاب ما ليس بعلة علة فيثبت الحكم عند ذلك لا على وجه الابتداء بخلاف
قوله: أنت طالق.
وقال الإمام شمس الائمة- رحمه الله: وفي أحكام الشرع العلة معنى في النصوص وهو مغير حكم الحال بحلوله بالمحل يوقف عليه بالاستنباط، فإن قوله عليه السلام:((الحنطة بالحنطة مثل بمثل)). غير حال بالحنطة.
ولكن في الحنطة وصف هو حال بها وهو كونه مكيلا مؤثرا فى المماثلة ويتغير حكم الحال بحلوله، فيكون علة لحكم الربا فيه حتى إنه لما لم يحل القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لا يتغير حكم العقد فيه، بل يبقى بعد هذا النص على ما كان قبله.
(والقتل للقصاص وما أشبه ذلك) كالتطليق للطلاق، والإعتاق للعتق.
وقوله: (وكذلك العقاب يضاف إلى الكفر من هذا الوجه).
قيل: فى هذا الكلام نظر؛ لما أن في هذا ميلا إلى مذهب الأشعرية.
وقال الشيخ الإمام أبو منصور- رحمه الله الحكمة تقتضي تعذيب الكافر على كفره وترك التعذيب ليس بحكمة.
(فأما أن تجعل لغوا كما قالت الجبرية) إن العبد مجبور في الأفعال لا اختيار له، والكل من الله بلا اختيار العباد وهو باطل؛ لأن العباد على قود كلامهم لا يستحقون شيئا لا الثواب ولا العقاب؛ لأنه لا فعل لهم.
(أو موجبة بأنفسها كما قالت القدرية) أي المعتزلة هو أيضا باطل فإنهم يقولون: العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهم مستبدون في إيجاد
أفعالهم فيستحقون الثواب والعقاب باستبدادهم في أفعالهم فلا يرون فضل الله تعالى فى الثواب ولا خذلانه فى العقاب.
(وكذلك حال العلل) أي علل الشرع في أحكام الدنيا. (على أن الشاهد بعلة الحكم إذا رجع) إلى آخره، وإنما عين هذه الصورة؛ لأن هذا صاحب العلة الشرعية الذي يجب عليه الضمان بخلاف الإتلاف، فإن صاحبه صاحب العلة الحسية، واستدل بهذه المسألة على أن صاحب العلة الشرعية بمنزلة صاحب العلة الحسية فى إيجاب الضمان.
(اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب) فإن قول القائل لامرأته: إن
دخلت الدار فأنت طالق يجعل دخول الدار شرطا حتى لا يقع الطلاق بهذا اللفظ إلا عند الدخول، ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به، بل الوقوع بقوله: أنت طالق عند الدخول.
والمراد بالوجوب به الوقوع به، ومن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق لا من حيث الوجوب به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول علة، ومن حيث أنه مضاف إليه وجودا عنده كان الدخول شرطا فيه، ولهذا لا نوجب الضمان على شهود الشرط وإنما نوجب الضمان على شهود التعليق بعد وجود الشرط إذا رجعوا.
(مثل الميل والمنارة) فالميل: علامة الطريق؛ لأنه معرف له، والمنارة
- بفتح الميم- هي التي يؤذن عليها سميت منارة لكونها علامة الجامع؛ لأنها معرفة له، ومنه سمي المميز بين الأرضين من المسناة منار الأرض.
قال عليه السلام: ((لعن الله من غير منار الأرض)) أي العلامة التي يعرف بها التميز بين الأرضين فكان دون الشرط؛ لأن الشرط يضاف إليه الحكم وجودا.
وأما العلامة فلا يضاف إليها الحكم لا وجوبا لها ولا وجودا عندها، والله أعلم.