المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والجماعة قالوا أن خبر الآحاد يفيد العمل القطعي، ولا إشكال - الكواكب الدرية على المنظومة البيقونية

[سليمان بن خالد الحربي]

الفصل: والجماعة قالوا أن خبر الآحاد يفيد العمل القطعي، ولا إشكال

والجماعة قالوا أن خبر الآحاد يفيد العمل القطعي، ولا إشكال عندهم في هذا، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، كابن عبد البر والإمام أحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ بل إن المرداوي ـ رحمهم الله تعالى ـ نقل الإجماع على أنه يفيد العمل. فإذا كان يفيد العمل بغض النظر أنه يفيد العلم القطعي أو العمل النظري أو العلم الظني، هذا لا إشكال فيه مادام أنه يفيد العمل.

فتقسيم الأحاديث باعتبار الطرق: متواترة وآحاد، هو تقسيم جيد، لكنه لما كان يستنبط منه ما يستنبط أصبح تقسيماً فاسداً ولا بدّ أن نردّه إذا كان يستنبط منه هذا الاستنباط، أما إذا كان أحد أهل السنة والجماعة يقسّم ويعتبره اعتباراً من حيث الطرق فلا إشكال، فهذا اعتبار صحيح، لكن إذا كان يستنبط منه بأن الآحاد ما نأخذ منها أحاديث الصفات بناءً على أن الصفات لا تثبت إلا من طريق قطعي الدلالة أو قطعي الثبوت فإن هذا لا بد أن يكسر ولا بد أن يردّ، ثم نقول أيضاً إن أهل الأصول وأهل الكلام مجموعهم يقول أن أحاديث الآحاد تفيد العمل، يعني أن الإنسان يجب عليه أن يعمل، أما العلم هل هو فعلاً العلم المكتسب من هذا الحديث قطعي فالإنسان يقطع به أو هو ظني؟ نقول هذا لا ثمرة له مادام أنه يجب عليك أن تعمل سواء كان العلم قطعيّاً أو العلم ظنيّاً يجب عليك أن تعمل به فإن هذا محدود الفائدة، ثم إننا نقول إن هذا تقسيم حادث، أحدثه أهل الكلام.

(الحديث المعنعن)

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ:

معنعن كعن سعيد عن كرم

..........................

انتقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ إلى القسم الحادي عشر وهو (الحديث المعنعن) .

رجع المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ إلى الكلام على الأحاديث من حيث النظر إلى أسانيدها.

ص: 59

الحديث المعنعن: كلمة " معنعن " منحوته من كلمة عن عن، فكل كلمة نحتت من كلام وجعل لها إطلاق واحد، فإن هذا يسمى " نحتاً "، كالعنعنة والأنأنة بمعنى أنّ أنّ، عن محمد بن سعيد عن الزهري أن سعيد بن المسيب قال أن أبا هريرة رضي الله عنه فعل كذا

فهذا يسمى " مُأنْأن "، أو " مُأنّن "، والمأنأن أدرج، فهذه كلها منحوته.

المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ لم يعرّف " المعنعن "، واكتفى بالمثال، إذاً هذا نوع من أنواع الحدود، الحدّ بالمثال، وهذا نوعٌ معروف، ويكثر منه دائماً أهل العلم في المنظومات لأنه يكون أسهل دائماً

قال ابن مالك ـ رحمه الله تعالى ـ:

مبتدأٌ زيد وعاذرٌ خبر

إن قلت زيد عاذر من اعتذر

فهذا تعريف بالمثال، فما يريد أن يعرّف بالحد فيحتاج الحد إلى شرح، فلا شك أن المثال بالنسبة للمبتدئ أسهل من الحدّ، هذا عند المبتدئين دائماً، فإذا أردت أن تعرّف شيئاً فإنك تعرّفه بالمثال، فمثلاً تقول لشخص هل هي من محارمك بنت زوجة أبيك؟ فتراه يفكر وربما لا يعرف الجواب، لكن لو كان أبوه متزوجاً زوجةً ثانية ولها بنت اسمها حفصة، فتقول له هل يجوز لك أن تتزوج حفصة؟ فتتصور مباشرة، فالتصوير بالمثال يتكلم عليه المناطقة.

فقد قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ:

معنعن كعن سعيد عن كرم

..........................

فسعيد لا نعرفه، وكذلك كرم، فهذا شخص اسمه سعيد وشخص اسمه كرم، فاكتفى بالمثال، عن سعيد عن كرم، لكنه رحمه الله اختار أسماء جميلة فالسعادة والكرم هذه تبعث على الفهم، لكن لو جاء بأسماء غليظة قد ننفر منها.

فنستطيع من خلال هذا المثال أن نعرّف " المعنعن ".

فنقول " الحديث المعنعن " هو: ما روي إسناده بصيغة " عن "، أو نقول: ما كانت صيغة تحمّله " عن " أو " أن " أو " قال ".

فهذه كلها تسمى عنعنة، لأنها هي الأشهر والأكثر.

ص: 60

والحديث المعنعن إن قلت لكم إنه من أشكل مسائل الحديث نظرياً فلا يبعد هذا الكلام عن الصواب، وإشكاله من حيث حكمه الصحة أو الضعف، ولكن أذكر لكم من الآن أن فائدتها وجدواها قليلة بالنسبة للمبتدئين.

إذاً ما حكم الحديث " المعنعن "؟

اختلف أهل العلم في حكم الحديث المعنعن من حيث الصحة والضعف على أقوال:-

القول الأول: أن الحديث المعنعن صحيح بشروط:

الشرط الأول: أن لا يكون الراوي معروفاً بالتدليس.

فمثلاً: ابن جريج ـ رحمه الله تعالى ـ إذا روى عن الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ، لا يُقبل من روايته إلا ما صرّح بالسماع، بأن يقول " حدثنا " أو " سمعت " ونحوها.

وإذا قال عن فلان فلا نقبل روايته، مع أن الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ شيخه وعرف بالسماع منه.

الشرط الثاني: أن لا يوجد ما يدل على عدم السماع، بل اللقاء بينهما ممكن فالعقل يجيزه، والواقع والعادة تجيزه فإذاً يقبل.

الشرط الثالث: داخلٌ في الثاني، وهو المعاصرة فيشترط أن يتعاصرا، ولا شك أن هذا الشرط داخلٌ في الثاني.

? هناك بعض العبارات يجب أن ننتبه لها:

(الشرط عند مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ العلم باللقاء) هذا غلط.

(الشرط عند مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ إمكانية اللقاء) هذا صحيح بشرط ألا ينقل عدم السماع.

فأصل مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ هو إمكانية اللقاء، فليس شرط مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ هو المعاصرة فقط، وليس شرط مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ اللقاء فقط، بل شرطه ألا يوجد ما يدل على عدم السماع.

وهذا هو رأي الإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ، وهذا هو رأي أبو عمرو الداني (ت: 444هـ) ، صاحب كتاب التيسير، وله كتاب في قضية السماع ـ رحمه الله تعالى ـ، إذاً المسألة قديمة.

فقال أبو عمرو الداني ـ رحمه الله تعالى ـ:

1) أن لا يكون الراوي مدلِّساً.

2) أن يمكن اللقاء.

ص: 61

3) أن يكون اللقاء بيّناً، أي ممكن اللقاء، لأنه لو كان قصده " بيّنا " السماع لقال سمع منه وانتهينا، أو رآه وانتهينا، لكن أن يكون اللقاء " بيّناً " أي قرائنه واضحة جداً بأنه لقيه، إذاً أبو عمرو الداني موافق لمسلم ـ رحمها الله تعالى ـ، وهذا هو الذي فهمه أهل العلم، وهذا رأي ابن عبد البر، وبن رُشَيْد ـ رحمها الله تعالى ـ، وكثير من الأئمة.

القول الثاني: أن الحديث " المعنعن " صحيح بشروط:

الشرط الأول: أن لا يكون الراوي مدلّساً.

الشرط الثاني: أن يُعلم السماع.

أيهما أخص القول الأول أو الثاني؟

الثاني بلا إشكال، لأن قلنا يمكن أن شخصاً يعاصر ومع ذلك لا يسمع، وشخص يلقى ولا يسمع، وهناك من يسمعه، فإذا سمعه معناه أنه لقيه وعاصره.

وهذا القول هو رأي البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ.

إذاً هل شرط البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ هو اللقي والمعاصرة؟ لا، بعض الناس يقول مثل هذه العبارات " شرط مسلم هو المعاصرة، وشرط البخاري هو اللقي والمعاصرة ".

وقولنا " شرط البخاري هو اللقي والمعاصرة "، خطأ من وجهين:

الوجه الأول: إذا قيل اللقي فلا يحتاج أننا نقول المعاصرة يعني العبارة خطأ.

الوجه الثاني: أن نسبتنا إلى أن البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ يقول باللقي أيضاً غلط، لأن البخاري يقول بالسماع ولا يقول باللقي، فالذي يقول بإمكان اللقي هو مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ، وبعض العلماء يصرّح ويقول: بأن شرط البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ العلم باللقاء، وليس السماع، فيكون هذا أوسع من اشتراط العلم بالسماعوهو قول لبعض المحدثين.

ورأي البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ هو رأي الأئمة المتقدمين كعلي بن المديني، ويحيى بن سعيد القطان، وابن معين، والإمام أحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ، ونسب الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ هذا إلى إجماع المتقدمين.

ص: 62

القول الثالث: أن الحديث " المعنعن "،ضعيف حتى يعلم السماع من كل راوٍ في كل حديث وهذا قول مهجور وانعقد الإجماع على بطلانه.

وعليه لو جاءنا تلميذ معروف روى عن هذا الشيخ ألف حديث لكنّ حديثاً قال فيه " عن " فلا نقبله وليس هو بمدلِّس فلا بد من صيغة " حدثنا " في كل حديث، هذا قول مهجور هجر من قديم، ومرذول هذا القول.

إذاً البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ لو جاء معمر ـ رحمه الله تعالى ـ وهو يروي عن الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ، وجالسه وسمع منه، معروف دائماً يقول " حدثنا "، فجاء حديث ووجدنا كل الروايات فيها وقال معمر " عن " الزهري.

هل هذا الحديث يصححه البخاري أم لا؟

نعم. يصححه لوجود الشرطين:

1) معمر ليس مدلِّساً.

2) علم سماع معمر من الزهري، ومسلم ـ رحمه الله تعالى ـ من باب أولى يصححه.

مسألة أدق من هذه المسألة وأشكل منها.

في مقدمة مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر قوله وشرطه وهو إمكانية اللقاء، ثم ذكر قولاً آخر، وهو أنه يشترط العلم بالسماع، ورد على هذا القول الآخر رداً شنيعاً، وقال: وهذا القول خلاف إجماع المحدثين، فصار عندنا إشكالية بين مسلم والبخاري ـ رحمهما الله ـ، هل مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ يرد على البخاري أم يرد على شخص آخر، وما هو هذا القول الآخر الذي يرد عليه؟

هذه إشكالية لم تنته حتى الآن فإلى الآن لا نعرف إجابةً واضحة ظاهرة في هذا، هل مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ فعلاً يرد على البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ، نذكر أقوال أهل العلم ولا ألتزم بذكر الذي يظهر في هذه المسألة.

نظر أهل العلم إلى هذه المسألة من عدة جهات:

الاتجاه الأول:

أن مسلماً يرد على البخاري، ومسلم قد لا يكون يعرف بأن هذا هو رأي الإمام البخاري، وهذا فيه إحسان الظن بالإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ.

الاتجاه الثاني:

ص: 63

أن مسلماً لا يرد على البخاري وإنما يرد على قول آخر غير قول البخاري، وما هو هذا القول: قيل بأنه القول المرذول الذي ذكرته لكم من أنه يشترط في كل حديث أن يصرّح الراوي بالسماع، وهذا بعيد.

الاتجاه الثالث:

أن رأي مسلم هو رأي البخاري، وهذا غريب، قالوا بأنهما متفقان على العلم بالسماع، ولكن صورة العلم بالسماع كلٌ له طريقته، يعني هما متفقان على العلم بالسماع، ولكن كيف يكون العلم بالسماع؟

فالبخاري له عدّة طرق ومسلم له عدّة طرق ـ رحمهما الله ـ.

إذاً هما متفقان، فالبخاري يشترط أن يعرف من حديث أنه قال سمعت أو حدثني، لكن هذا ليس شرطاً عند البخاري، ليس شرط البخاري بالعلم بالسماع هي الصيغة ـ صيغة الأداء ـ بل إنه أوسع من ذلك بأن توجد قرائن قويّة جداً توافق " سمعت " و " حدثني "، الأصل عنده " سمعت " و " حدثني " لكن هذا لا يلزم منه أن لا يكون العلم بالسماع إلا بهذين الطريقين، انتبهوا للألفاظ الذي سأقولها.

الاتجاه الأول الذي ذكرناه يقول لا، البخاري يقول " سمعت " و " حدثني "، هو العلم بالسماع.

الاتجاه الثالث يقول لا، " سمعت " و " حدثني " هذه هي الأصل لكن لا يمنع أن يكون البخاري حكم بالسماع من غير هذين الطريقين إما بكثرة مجالسة وأنه دائماً يذهب معه ويجيء، هذا قد نقول إن البخاري يقول نقبل روايته، إذاً وافق مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ أو لم يوافقه بإمكان الأخذ عنه؟ نعم وافقه، لكن مسلماً أشد توسعاً، هذا اتجاه آخر.

وهذه المسألة من محَازّ المسائل وأنا أطلت فيها في شرح النخبة، ولهذا الخلاف بين كبار المحدثين في هذه المسألة، فابن رُشيْد الفهري ألّف، وأبو عمرو الداني ألّف، والإمام مسلم رد عليه في مقدمة صحيحة رداً طويلاً، وبن عبد البر ذكر هذه المسألة، وبن الصلاح استشكلها ـ رحمهم الله تعالى ـ.

ص: 64