الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعلة أعم من أن تكون في الشذوذ، أعم من أن تكون في السماع، أعمّ من أن تكون في الانقطاع، إذاً قد تكون العلة في الانقطاع وقد تكون في السماع، وقد تكون في قلب الإسناد، قد تشمل كل ما سبق، وقد تكون في نفس الحديث كلّه وما شابه ذلك، فلا حصر لها.
(الحديث المضطرب)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ:
وذو اختلافِ سندٍ أو متنٍ
…
مضطربٌ عند أهيل الفنِّ
انتقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ إلى القسم الخامس والعشرين وهو (الحديث المضطرب) .
قال الإمام السخاوي ـ رحمه الله تعالى ـ: " لما انتهى من المُعلّ الذي شرطه ترجيح جانب العلّة، ناسب إردافه بما لم يظهر فيه ترجيح ـ وهو المضطرب ـ ".
المضطرب: اسم مفعول من اضطرب، وأصلها اضترب، فأبدلت التاء طاءً، كما هو معلوم لهذا الوزن لعلّة صرفيّة مشهورة.
والاضطراب لغةً: هو الاختلاف، تقول اضطرب الشيء إذا اختلف وتغيّر، وأحوالٌ مضطربة أي مختلفةٌ متغيّره، وفيه معنى الحركة وعدم الاستقرار، تقول ماء مضطرب أي غير ساكن.
اصطلاحاً عرّف بعدّة تعريفات:
التعريف الأول:
ما اختلف سنداً أو متناً، وهذا هو تعريف المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ.
وفي تعريف المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ قصور يُعرف بالتعريف الآخر.
التعريف الثاني:
ما اختلفت أسانيده وتعددت طرقه على سبيل الاختلاف دون ترجيح لأي طريق مما يلزم منه الضعف. وهذا تعريف جيد.
فذدنا في هذا التعريف أمريان:
الأمر الأول: أنه لا يمكن الترجيح لأحد الطرق.
الأمر الثاني: أنه يلزم الضعف لأحد هذه الأوجه، فلو كان أحد الأوجه يلزم منه الضعف ففيه راوٍ ضعيف لهذا الإسناد مثلاً فلو رجّحت هذا الإسناد لكان هذا الحديث ضعيفاً، وفي المضطرب لا أدري أيهما المحفوظ، فقد يكون المحفوظ هو الإسناد الذي فيه الراوي الضعيف، احترازاً مما لو جاءت الأسانيد المختلفة كلها ثقات، فسواءً رجحت هذا صحّ الحديث، وإن رجّحت هذا صحّ الحديث أيضاً، فإن أخذت بهذا الإسناد فهو صحيح ليس فيه علّة سوى الاضطراب بين الأسانيد وما أدري أيها هو " المحفوظ ".
وقولنا: وتعددت طرقه، يفهم من قول المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ وذو اختلاف سند، فكأنه يشير إلى أن هناك عدّة طرق له،وهذا شرط في المضطرب أن يكون متعدد الأسانيد مختلفة مضطربة، أما إذا كان إسناداً واحداً كيف نحكم عليه بالاضطراب؟! فالمؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ قال: وذو اختلاف سند أو متن.
قال الحافظ العراقي ـ رحمه الله تعالى ـ:-
مضطرب الحديث ما قد وردا
…
مختلفاً من واحدٍ فأزيدا
في متن أو في سند إن اتّضح
…
فيه تساوي الخُلْفِ، أما إن رجح
بعض الوجوه لم يكن مضطربا
…
والحكم للراجح منها وجبا
كالخطِّ للسترة جَمُّ الخُلْفِ
…
والاضطراب موجبٌ للضعفِ
فهذا هو المضطرب: تأتيني أسانيد في حديث واحد فلا أستطيع أن أرجح بينهما، وسبق لنا أنا إذا حكمنا على هذا الإسناد بالشذوذ، فهذا ليس مضطرباً لأني رجحت أحدهما على الآخر، وقد أحكم على أحد الأسانيد بالضعف، وقد أحكم على الإسناد الآخر بأنه مقلوب فيكون الحديث الآخر هو المحفوظ إذاً هنا ترجيح لكن يأتيني أسانيد في حديث معيّن فلا أستطيع أن أرجح بين هذه الأوجه كلها.
فعندنا في المضطرب عدّة أوصاف:
الأول: أنه يأتي من عدّة أسانيد مختلفة.
الثاني: أنه لا يمكن الترجيح بين هذه الأسانيد.
الثالث: أنه يلزم الضعف لأحد هذه الأوجه.
مثال للمضطرب:
اجتهد أهل العلم في التمثيل، فابن الصلاح والعراقي ـ رحمها الله تعالى ـ ذكرا حديث الخط من المصلي للسترة في الصلاة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليَخُطّ خطّاً، ثم لا يضرّه من مرّ بين يديه " فاختارا هذا المثال للتمثيل على المضطرب، وهو فعلاً مضطرب فحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أسانيده كثيرة جدّاً، لكن في الحقيقة أنه يمكن الترجيح بينهما، ولهذا صححه الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ، ولهذا بن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في بلوغ المرام قال: ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن. أهـ، يقصد بذلك بن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ.
والمثال الذي أراه مستقيماً تماماً هو:
حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في تشبيك الأصابع قبل الصلاة في الطريق للصلاة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكنّ بين أصابعه فإنه في صلاة) ، فهذا في نظري هو من أحسن الأمثلة على الحديث المضطرب، وقد وجدت الحافظ بن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ حكم على هذا الحديث بالاضطراب قال: وفي إسناده اختلاف كثير واضطراب، وهو كذلك، فتجد سعد بن إسحاق يروي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، مرةً يرويه عن أبي ثمامة، ومرةً يرويه عن أبي سعيد المقبري عن كعب، فلا تستطيع أن ترجح مع أن بعض هذه الأسانيد تصحح الحديث،فتتحيّر بين أسانيد الثقات والضعفاء في أي الأسانيد ترجح.
وهو قد يكون عند عالم مضطرباً وقد يكون عند عالم آخر غير مضطرب، فلا مشاحة فنحن نتفق على أن هذا الحديث أسانيده مختلفة كثيرة فيها اضطراب واختلاف، لكن أنت قد تميل إلى ترجيح أحد الأسانيد، وأنا قد أميل إلى أنه لا يمكن الترجيح بينها.
ومثلاً بعض أهل العلم حكم على حديث (من غسل ميتاً فليتوضأ) بالاضطراب لأن هناك تسعة أسانيد لهذا الحديث، وإن كنت لا أرى أن هذا يستقيم مثالاً للمضطرب، لأنه يمكن الترجيح وبسهولة في هذا الإسناد، وعلى ذلك فقس.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: -
وذو اختلافِ سندٍ أو متنٍ
…
مضطربٌ عند أهيل الفنِّ
فقوله " وذو اختلاف سندٍ أو متن ": أي أنه يأتي الاضطراب في السند والمتن، وأحياناً يكون في الإسناد فقط، ولا يلزم أن يكون هناك متن دون اضطرابٍ في إسناده هذا لا يكون اضطراب، وإنما يكون هذا في الإسناد لأن المتن ـ وإن ذكروا له أمثلة لكن الترجيح سهل جدّاً فلا أعرف متناً لا نستطيع أن نرجح في المتن، فتستطيع أن ترجح من خلال الإسناد المحفوظ.
وقوله " أهيل ": تصغير كلمة أهل.
فقوله: " أهيل الفنّ ": هم أهل الحديث.
قد يسأل سائل فيقول: إذا كان في أحد الأسانيد المضطربة ضعف، فلنرجح الصحيح ونترك الضعيف؟
نقول نحن نتكلم عن ما هو الإسناد المحفوظ لهذا الحديث الذي سأحكم عليه؟ ، فلم أحكم عليه إلى الآن، هل هذا الراوي ساقط في الإسناد أو موجود؟ إذاً لا ندري نحن الآن، فقد يكون هذا الذي أسقط هذا الراوي ليس هو الإسناد المحفوظ لهذا الحديث الذي سأحكم عليه، وبعدما أختار وأرجح سأبدأ في البحث في إسناده.
إذاً عندنا درجات:-
أولاً: أختار ما هو المحفوظ في هذا الإسناد لهذا المتن؟ فعندي مثلاً خمسة أسانيد لهذا المتن، فما هو الإسناد الذي سأحكم عليه؟
ثانياً: أحكم على الإسناد الذي اخترته.
فإذاً لا يخلو من ثلاث حالات أمام هذا المتن الذي له أربعة أسانيد:
الحالة الأولى: إما أن أبحث في هذه الأسانيد لأختار أيها الأمثل، فأرجح بأن الأمثل هو الصحيح فهذا فعلاً محفوظ، إذاً سأحكم على الحديث بالصحة.
الحالة الثانية: أو قد أحكم بأن المحفوظ لهذا المتن الإسناد الذي فيه راوٍ ضعيف، إذاً سأحكم عليه بالضعف.