المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع - المستدرك على مجموع الفتاوى - جـ ٤

[ابن تيمية]

الفصل: وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع

وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع. ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره؛ فهي مسألة تفريق الصفقة (1) .

وإجارة المضاف يفسر بشيئين. أحدهما: أن يؤجره سنة أو سنتين. والثاني: أن يؤجره مدة لا يمكن الانتفاع بالمأجور لما استؤجر له في ثاني المدة. فمن الحكام من يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الانتفاع بالعين عقب العقد.

فإذا أراد أن يستأجر الأرض للإزدراع ونحوه كتب فيها: أنه استأجرها مقيلاً ومراحًا ومزدرعًا ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حال العقد (2) .

‌باب السبق

وظاهر كلام أبي العباس: لا يجوز اللعب المعروف بـ «الطاب والمنقلة» (3) وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد. وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وسائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي فكله حرام.

وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم: «أن عائشة رضي الله عنها وجوارٍ كن يلعبن معها يلعبن بالبنات -وهن اللعب- والنبي صلى الله عليه وسلم يراهن» فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار.

(1) اختيارات ص158 ف 2/ 235.

(2)

اختيارات ص156 ف 2/ 235.

(3)

وفي الإنصاف: والنقيلة انظر ج 6/90.

ص: 57

والصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به (1) نصر الإسلام وأخذ السبق عليه أخذ بالحق. فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع به في الدين، كما في مراهنة أبي بكر رضي الله عنه، وهو أحد الوجهين في المذهب.

ويجوز المسابقة بلا محلل، ولو أخرجه المتسابقان. ويصح شرط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة لأنه مما يعين على الرمي (2) .

ويصح تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا على الصحيح من المذهب. زاد في الترغيب من غير تقدير. وقيل: يصح اختاره الشيخ تقي الدين. قاله في الفائق (3) .

ولعب «الكرة» (4) إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حسن. وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه (5) .

ومسابقة الرمي بالحجارة إن كان فيها منفعة للجهاد وإلا فهي باطل (6) .

وأما الرهان على ما فيه ظهور الإسلام وأدلته وبراهينه كما راهن عليه الصديق فهو أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال،

(1) وفي الإنصاف إذا قصد بهما نصر الإسلام وأخذ العوض.

(2)

اختيارات ص160 ف 2/ 236.

(3)

الإنصاف: 6/ 93 ف 2/ 236.

(4)

الكرة بالتشديد يوضحها السياق وهي «الكورة» المسماة بالطاب والمنقلة كما تقدم.

(5)

مختصر الفتاوى ص521 ف 2/ 236.

(6)

مختصر الفتاوى ص 600 ف 2/ 236.

ص: 58

وسباق الخيل والإبل أولى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف. والقصد الأول إقامة الحجة، والسيف منفذ.

قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويظهر الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى. وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية.

قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق. قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قمار، فضلاً عن أن يأذن فيه (1) .

قال ابن القيم رحمه الله: «المسألة الحادية عشرة» : المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل: هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا. إلى أن قال:

وفرقة جوزته بغير محلل، قال شيخ الإسلام: وهو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح. قال: وما علمت في الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب وعنه تلقاه عنه الناس؛ ولهذا قال مالك بن أنس: لا تأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلل، ولا يجب المحلل (2) .

(1) الفروسية ص5، 6 ف 2/ 238.

(2)

الفروسية ص64 ف 2/ 238.

ص: 59

«ومن أدخل فرسًا بين فرسين» الحديث. وسمعت شيخ الإسلام يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه. وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه، عن سعيد بن المسيب مثل الليث بن سعد وعقيل ويونس ومالك بن أنس، وذكره في الموطأ عن سعيد بن المسيب نفسه. ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك (1) .

فصل

الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدًا يطلب كل منهما أن يغلب الآخر - ثلاثة أصناف:

«صنف» أمر الله به ورسوله كالسباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب، لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.

«والصنف الثاني» ما نهى الله ورسوله عنه بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى آخر الآية [90/5] .

مسألة: فالميسر محرم بالنص والإجماع، ومنه اللعب بالنرد والشطرنج وما أشبهه مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، فإن كان بعوض حرم إجماعًا.

وإن لم يكن بعوض ففيه نزاع عند الصحابة وجمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد. ونص الشافعي على تحريم النرد وإن كان بلا عوض، وتوقف في الشطرنج. ومنهم من أباح النرد الخالي عن

(1) الفروسية ص41 بعضه غير موجود في ج 18 وفي ج 28 والأصل هناك فيه بياض، ف 2/ 238.

ص: 60

العوض، لما ظنوا أن الله حرم الميسر لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمنة أكل المال بالباطل. فقالوا: إذا لم يكن فيه أكل مال بالباطل زال سبب التحريم.

وأما الجمهور فقالوا: إن تحريم الميسر مثل تحريم الخمر؛ لاشتماله على الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولإلقائه العداوة والبغضاء، ومنعه عن صلاح [ذات] البين الذي يحبه الله ورسوله، وإيقاعه اللاعبين في الفساد الذي يبغضه الله ورسوله، واللعب بذلك يلهي القلب ويشغله ويغيب اللاعب به عن مصالحه أكثر مما يفعله الخمر؛ ففيها ما في الخمر وزيادة، ويبقى صاحبها عاكفًا عكوف شارب الخمر عن خمره وأشد، وكلاهما مشبه بالعكوف على الأصنام، كما في المسند أنه قال:«شارب الخمر كعابد الوثن» وثبت عن أمير المؤمنين رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) وقلب الرقعة.

وإذا كان ثم مال تضمن أيضًا أكل المال بالباطل، فيكون حرامًا من وجهين. والله حرم الربا لما فيه من أكل المال باطلاً.

وما نهي عنه من بيع الغرر كبيع حبل الحبلة وبيع الثمار قبل بدو الصلاح والملامسة والمنابذة إنما حرمه لما فيه من أكل المال بالباطل.

«النوع الثالث» من المغالبات: ما هو مباح لعدم المضرة الراجحة، وليس مأمورًا به على الإطلاق لعدم احتياج الدين إليه، ولكن قد يقع أحيانًا كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه. فهذا مباح باتفاق المسلمين إذا خلا عن مفسدة راجحة. وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن يزيد، وسابق عائشة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتسابقون على أقدامهم بحضرته. لكن أكثر العلماء لا يجوزون في هذا سبقًا وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في

خف أو حافر أو نصل» ولأن السبق إنما أبيح إعانة على ما أوجبه الله

ص: 61

ورسوله من الجهاد. وأبو حنيفة أباح السبق بالمحلل، كما يبيحه في سباق الخيل بناء على أن العمل بنفسه مباح، والسبق عنده من الجعالة، والجعالة تجوز على العمل المباح. والذي قاله هو القياس، ولو كان السبق من جنس الجعالة فإن الناس قد تنازعوا في جواز الجعالة، وأبطلها طائفة من الظاهرية. والصواب الذي عليه الجمهور جوازها، وليست عقدًا لازمًا؛ لأن العمل فيها معلوم. ولهذا يجوز أن يجعل للطبيب جعلاً على الشفاء، كما جعل سيد الحي اللديغ لأصحاب - النبي صلى الله عليه وسلم حين رقاه أبو سعيد الخدري.

ولا يجوز أن يستأجر الطبيب على الشفاء، لأنه غير مقدور عليه.

ومن هنا يظهر فقه «باب السبق» فإن كثيرًا من العلماء اعتقدوا أن السبق إذا كان من الجانبين وليس بينهما محلل كان هذا من الميسر المحرم، وأنه قمار؛ لأن كلاً منهما متردد بين أن يغرم أو يغنم، وما كان كذلك فهو قمار. واعتقدوا أن القمار المحرم إنما حرم لما فيه من المخاطرة والتغرير، وظنوا أن الله حرم الميسر لذلك، وهذا موجود في المتسابقين إذا أخرج كل منهما السبق، فحرموا ذلك. وروي في ذلك حديث ظنه بعضهم صحيحًا؛ وهو قوله:«من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار» ومعلوم أن هذا الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام سعيد بن المسيب، هكذا رواه الثقاة، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف.

ثم الذين اعتقدوا أن هذه المسابقة بلا محلل قمار تنازعوا بعد ذلك فمنهم من لم يجوز العوض بحال. ومنهم من جوزه من أحدهما بشرط ألا يرجع إليه بل يعطيه الجماعة إن غلب. وروي ذلك عن مالك وغيره، وهو أصح.

ص: 62

والقياس: لو كانت المسابقة من الطرفين قمارًا محرمًا فإنهم رأوا أن هذه ليست جعالة يقصد الجاعل فيها بدل الجعل في عمل ينتفع به؛ إنما قصد أن يغلب صاحبه فحرموها، وقالوا: دخول المحلل فيها يزيدها شرًا، وأن المقامرة حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل، والمحلل يزيدها شرًا؛ فإن المتسابقين إذا غلب أحدهما صاحبه فأخذ ماله كان هذا في مقابلة أن الآخر إذا غلبه أخذ ماله. فكان مبناها على العدل؛ بخلاف المحلل فإنه ظلم محض؛ فإنه بعرضة أن يغنم أو يسلم، والآخران قد يغرمان فلا يستوون في المغنم والمغرم والسلامة؛ بخلاف إذا لم يكن بينهما محلل فكلاهما قد يغنم وقد يغرم وقد يسلم فيما إذا تساويا وجاءا معًا. فهذا أقرب إلى العدل؛ فإذا حرم الأقرب إلى العدل فلأن يحرم الأبعد عنه بطريق الأولى.

وأيضًا فإذا قيل: هذا محرم لما فيه من المخاطرة وأكل المال بالباطل كان بالمحلل أشد تحريمًا؛ لأنها أشد مخاطرة وأشد أكلاً للمال بالباطل؛ لأنها عند عدمه إنما أن يغنم أو يغرم أحدهما، وهنا المخاطرة باقية كل منهما قد يغنم أو قد يغرم، وانضم إلى ذلك مخاطرة ثالثة وهي أنه هناك يغرم إذا غلبه صاحبه، وهنا يغرم إذا غلبه، وإذا غلبه المحلل فكان المحلل زيادة في المخاطرة.

وأيضًا: فإن كلا يحتمل أن يغلب ويغنم أو يغرم. وأما المحلل فلا يحتمل أن يغلب أو يغرم؛ بل هو يغنم لا محالة أو يسلم.

فمن تدبر هذه الأمور علم أن الشريعة منزهة عن مثل هذا أن تحرم الشر لمجرد مفسدة قليلة وتبيحها بالمفسدة عينها إذا كثرت، ولكن أصحاب الحيل كثيرًا ما يقعون في هذا فيحرمون على الرجل بعض أنواع الزيادة دفعًا لأكل المال بالباطل لئلا يتضرر، ويفتحون له حيلة يؤكل فيها ماله بالباطل أكثر، ويكون فيها ظلمه وضرره أعظم.

ص: 63

ومن العلماء من أباح السبق بالمحلل، كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك. وهذا مبني على أصلين.

أحدهما: أن هذه جعالة.

والثاني: أن القمار هو المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم، وهذا المعنى ينتفي بالمحلل، فإنه حينئذ يدور على أمرين: أن يغنم، أو يغرم، أو يسلم. وقد تقدم التنبيه على بعض ما في كل من الأصلين.

والمقصود الأعظم بيان فساد ظن الظان أنه بدون المحلل قمار وبالمحلل يزول القمار.

فيقال: أولاً: إن الدليل الشرعي قد دل على أن القمار هو هذا دون هذا.

ويقال ثانيًا: المتسابقان كل منهما متردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم؛ فإنهما لو جاءا معًا لم يأخذ أحدهما سبق الآخر. فقولهم: إن القمار هو المتردد بين أن يغنم أو يغرم فقط ليس بمستقيم؛ بل عندهم وإن تردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم فهو أيضًا قمار وهذا موجود مع المحلل؛ فإن كلاً منهما يتردد بين أن يغنم إن غلب وبين أن يغرم إن غلب، وبين أن يسلم إن جاءا معًا، أو جاء هو ورفيقه معًا، فالمخاطرة فيها موجودة مع المحلل؛ وبدون المحلل، بل زادت بدخوله فتبين أن المعنى لم يزل بدخول المحلل. بل ازداد مفسدة؛ فإنه على بر السلامة ولا عدل فيه؛ بخلاف ما لو كانوا بلا محلل. فكان كل منهما مساويًا للآخر في الاحتمال، وهذا عدل، وهو على الميزان بينهما؛ بل الذي بذلك الجعل ليجعل الرغبة فيما يحبه لا ينظر في مصلحته، بل معرضًا للخسارة،

ويجعل الدخيل الذي جاء تابعًا للغرض لا يخسر شيئًا من ماله، والذي يتقرب إلى الله بما يحبه يخسر، والذي لم يقصد لم يعط

ص: 64

شيئًا ولا يخسر؛ بل إما سالمًا وإما غانمًا، فهل يحسن هذا في شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وإن كان القائلون علماء فضلاء أئمة. فإنما وقعت الشبهة من حيث ظنوا أن الميسر المحرم الذي هو القمار حرم لما فيه من المخاطرة، ثم منهم من رأى المخاطرة كلها محرمة من المحلل وعدمه، وهذا أقرب إلى الأصل الذي ظنوا لو كان صحيحًا. ومنهم من رأى الحاجة إلى السبق، وقد جاء الشرع بها، فجمع بين ما أمر الله به وبين ما أبطله من القمار، فأباحه مع المحلل فقط. والمقصود هنا بالجعل أن يظهر أنه قوي؛ لأن صاحبه يغلبه ويأخذ ماله، بخلاف الجعالة فإن الغرض بها العمل من العامل الذي يأخذ الجعل، فليست هذه جعالة، والجاعل قصده وجود الشرط، والمسابق الذي أظهر المال قصده ألا يوجد الشرط الذي هو سبق صاحبه له؛ بل قصده عدمه. فأين هذا من هذا؟! هذا يكره أن يغلب، وذاك يجب أن يحصل قصده الذي هو رد آبقه أو بناء حائطه، كما يقول الحالف: إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو علي الحج. ومقصده أنه لا يفعله؛ بخلاف الناذر الذي يقول: أن شفى الله مريضي فعلي أن أصوم شهرًا، وكالمخالع الذي يقول: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق.

ومن تبين حقيقة هذه المسألة تبين له أن من رأى أنه حرام ولو مع المحلل فقوله أصح على ما ظنوه.

وأما إذا تقرر أن تحريم الميسر لما نص الله تعالى على أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله عز وجل وعن الصلاة، وقد يشتد تحريمه لما فيه من أكل المال بالباطل. والمسابقة التي أمر الله بها ورسوله لا تشتمل لا على هذا الفساد ولا على هذا فليست من الميسر، وليس إخراج السبق فيها مما حرمه الله ورسوله، ولا من القمار الداخل في الميسر؛ فإن لفظ القمار المحرم ليس في القرآن، إنما فيه لفظ الميسر، والقمار داخل في هذا الاسم، والأحكام الشرعية يجب أن تتعلق

ص: 65

بكلام الله ورسوله ومعناه -فلينظر في دلالة ألفاظ القرآن والحديث، وفي المعاني والعلل، والحكم والأسباب التي علق الشارع بها الأحكام، فيكون الاستدلال بما أنزل الله من الكتاب والميزان. والقياس الصحيح الذي يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين هو العدل وهو الميزان.

وذلك أن المسابقة والمناضلة عمل صالح يحبه الله ورسوله، وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل، وكان أصحابه يتناضلون، ويقول لهم:«ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا» وكان قد صار مع أحد الحزبين ثم قال: «ارموا وأنا معكم كلكم» تعديلاً بين الطائفتين.

والرمي والركوب قد يكون واجبًا، وقد يكون فرضًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًا، وقد نص أحمد وغيره على أن العمل بالرمح أفضل من صلاة الجنازة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد كالثغور، فكيف برمي النشاب؟ وروي «أن الملائكة لم تحضر شيئًا من لهوكم إلا الرمي» وروي أن قومًا كانوا يتناضلون فحضرت الصلاة، فقالوا: يا رسول الله قد حضرت الصلاة، فقال:«هم في صلاة» وما كان كذلك فليس من الميسر الذي حرمه الله؛ بل هو من الحق، كما قال:«كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته لامرأته فإنهن من الحق» .

وحينئذ فأكل المال بهذه الأعمال أكل بالحق لا بالباطل، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الرقية:«لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلتم برقية حق» فجعل كون العمل نافعًا لا ينهى عنه، بل إذا أكل به المال فقد أكل بحق، وهنا هذا العمل نافع للمسلمين مأمور به لم ينه عنه، فالمعنى الذي لأجله حرم الله الميسر أكل المال بالقمار، وهو أن يأكل بالباطل، وهذا أكل بالحق.

وأما المخاطرة فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل

ص: 66

مخاطرة؛ بل قد علم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة، ولا كل ما كان مترددًا بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم، وليس في أدلة الشرع ما يوجب تحريم جميع هذه الأنواع لا نصًا ولا قياسًا؛ ولكن يحرم من هذه الأنواع ما يشتمل على أكل المال بالباطل، والموجب للتحريم عند الشارع أنه أكل مال بالباطل، كما يحرم أكل المال بالباطل وإن لم يكن مخاطرة؛ لا أن مجرد المخاطرة محرم، مثل المخاطرة على اللعب بالنرد والشطرنج لما فيه من أكل المال بالباطل، وهو ما لا نفع فيه له ولا للمسلمين؛ فلو جعل السلطان أو أجنبي مالاً لمن يغلب بذلك جاز وإن لم يكن هناك مخاطرة، وكذلك لو جعل أحدهما جعلاً، وكذلك لو أدخلا محللاً، فعلم أن ذلك لم يحرم لأجل المخاطرة؛ لا سيما وجمهور العلماء يحرمون هذا العمل، وإن خلا عن عوض.

وأما أخذ العوض في المسابقة والمصارعة فهذه الأعمال لم تجعل في الأصل لعبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسوله، فلهذا لم يحض الشارع عليها ولا رغب فيها، وإنما يقصد بها في الغالب راحة النفوس، أو الاستعانة على المباحات، فأباحها الشارع لعدم الضرر الراجح، ولم يأمر بها ولا رغب فيها لأنها ليست مما يحتاجه المسلمون، ولا يتوقف قيام الدين عليها، كالرمي والركوب، ولو خلي المسلمون عن مصارع ومسابق على الأقدام لم يضرهم لا في دينهم ولا في دنياهم، بخلاف ما لو خلوا عن الرمي والركوب لغلب الكفار على المسلمين؛ ولهذا لم يدخل فيها السبق.

ألا ترى أن للإمام أن يخرج جعلاً لمن يرمي، ولا يحل له أن يخرجه لمن يصارع؟

وإذا عرف هذا عرف أن مجرد المخاطرة ليس مقتضيًا لتحريم المسألة، وانكشفت، وظهرت، وعرف أن الصواب: أن يعرف مراد

ص: 67

رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وحكمه وعلله التي علق بها الأحكام؛ فإن الغلط إنما ينشأ عن عدم المعرفة بمراده صلى الله عليه وسلم.

والمخاطرة مشتركة بين كل من المتسابقين؛ فإن كلا يرجو أن يغلب الآخر ويخاف أن يغلبه، فكان ذلك عدلاً وإنصافًا بينهما كما تقدم.

وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلا يرجو أن يربح فيها ويخاف أن يخسر. فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. والتاجر مخاطر وكذلك الأجير المجعول له جعل على رد آبق، وعلى بناء حائط؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل مال فيكون مترددًا بين أن يغرم أو يغنم، ومع هذا فهو جائز.

والمخاطرة إذا كانت من الجانبين كانت أقرب إلى العدل والإنصاف، مثل المضاربة، والمساقاة، والمزارعة؛ فإن أحدهما مخاطر قد يحصل له ربح وقد لا يحصل.

وما علمت أحدًا من الصحابة شرط في السباق محللاً ولا حرمه إذا كان كل منهما يخرج، وإنما علمت المنع في ذلك عن بعض التابعين، وقد روينا عن أبي عبيدة بن الجراح: أنه راهن رجلان في سباق الخيل ولم يكن بينهما محلل.

وثبت في المسند والترمذي وغيرهما: «أنه لما اقتتلت فارس والروم فغلبت فارس الروم وبلغ ذلك أهل مكة وكان ذلك في أول الإسلام ففرح بذلك المشركون؛ لأن المجوس أقرب إليهم من أهل الكتاب، وساء ذلك المسلمين لأن أهل الكتاب أقرب إليهم من المجوس، فأخبر أبو بكر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} فخرج أبو بكر رضي الله عنه فراهن المشركين على أنه إن غلبت الروم في بضع سنين أخذ

ص: 68

الرهان، وإن لم تغلب الروم أخذوا الرهان» وهذه المراهنة هي مثل المراهنة في سباق الخيل والرمي بالنشاب، وكانت جائزة لأنها مصلحة للإسلام؛ لأن فيها مصلحة بيان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أن الروم سيغلبون بعد ذلك، وفيها ظهور أقرب الطائفتين إلى المسلمين على أبعدهما. وهذا فعله الصديق رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه، ولا قال: هذا ميسر وقمار. والصديق أجل قدرًا من أن يقامر؛ فإنه لم يشرب الخمر في جاهلية ولا إسلام وهي أشهى إلى النفوس من القمار.

وقد ظن بعضهم أن هذا قمار لكن فعله هذا كان قبل تحريم القمار، وهذا إنما يقبل إذا ثبت أن مثل هذا ثابت فيما حرمه الله من الميسر، وليس عليه دليل شرعي أصلاً. بل هي مجرد أقوال لا دليل عليها وأقيسة فاسدة يظهر تناقضها لمن كان خبيرًا بالشرع، وحل ذلك ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أقر صديقه على ذلك؛ فهذا العمل معدود من فضائل الصديق رضي الله عنه وكمال يقينه حيث أيقن بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب ظهور أقرب الطائفتين إلى الحق، وراهن على ذلك رغبة في إعلاء كلمة الله ودينه بحسب الإمكان.

وبالجملة إذا ثبتت الإباحة فمدعي النسخ يحتاج إلى دليل.

والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع، وإنما كتبت ذلك في جلسة واحدة.

و «السبق» بالفتح هو العوض. وبالسكون هو الفعل.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» مطلقًا لم يشترط محللاً لا هو ولا أصحابه، بل ثبت عنهم مثل ذلك بلا محلل.

ص: 69

ومما يوضح الأمر في ذلك أن السبق في غير هذه الثلاثة لم يحرم لأنه قمار. فلو بذل أحدهما عوضًا في النرد والشطرنج حرم اتفاقًا مع أن العوض ليس من الجانبين. ولو كان بينهما محلل في النرد حرم اتفاقًا أيضًا. فالعوض في النرد والشطرنج حرام سواء كان منهما أو من أحدهما أو من غيرهما بمحلل أو غير محلل. فلم يحرم لأجل المخاطرة. فلو كان الميسر المجمع على تحريمه والنرد والشطرنج لأجل المخاطرة لأبيح مع عدمها. فلما ثبت أنه محرم على كل تقدير علم بطلان تعليل تحريمه بذلك. وأكثر العلماء يحرمون العوض من الجانبين في المصارعة وإن كان بينهما محلل يرفع المخاطرة عند من يقول بذلك، فعلم أن المؤثر هو أكل المال بالباطل، أو كون العمل يصد عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل ويوقع العداوة والبغضاء كما دل عليه القرآن، كما أن بذل المال لما فيه من إعلاء كلمة الله ودين الله هو من الجهاد الذي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم به، سواء كان فيه مخاطرة أو لم يكن؛ فإن المجاهدة في سبيل الله عز وجل فيها مخاطرة قد يغلب وقد يغلب، وكذلك سائر الأمور من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر وغيرهما كما تقدم بيانه. وفي هذا كفاية والله أعلم (1) .

وإذا كان السبق من أحد الحزبين أو من غيرهما لم يحتج إلى محلل. ويمكنهم مع هذا أن يكون الحزب الأول يخرج السبق أول مرة والآخر يخرجه في المرة الثانية والأول في المرة الثانية، ولم يحتج إلى محلل. وعليهم مع هذا أن يكرروا الرمي (2) .

(1) مختصر الفتاوى ص525-535 هذه فتوى مطولة وفيها زيادات عما في المجموع وتسديد للبياض هناك، وتصحيح للموجود ف 2/ 238.

(2)

مختصر الفتاوى ص520 ف 2/ 238.

ص: 70