الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآراء حول كتاب العين:
وإن الخلاف حول هذه المسألة يتلخص في وجهات النظر الآتية:
أولًا: الخليل لم يؤلف كتاب العين ولا صلة له به.
ثانيًا: الخليل لم يضع نص كتاب العين ولكنه صاحب الفكرة في تأليفه.
ثالثًا: الخليل لم ينفرد بتأليف كتاب العين ولكن كان لغيره أيضًا عون في ذلك.
رابعًا- الخليل عمل من كتاب العين أصوله، ورتب أبوابه وصنف مواده ولكن غيره حشا المفردات:
خامسًا: الخليل عمل كتاب العين بمعنى أنه ألفه وروى عنه:
والآن لنعرض بالتفصيل فنوضح جميع وجهات النظر هذه لنناقش بعد ذلك القائلين بها.
الرأي الأول:
فأما الذين لم يعترفوا بكتاب العين، فيذكر لنا السيوطي بعضًا منهم يتمثل في أبي علي القالي وأستاذه أبي حاتم. واعتمد القائلون بهذا على أن الكتاب ليس له إسناد، وأنه لم يكن معروفًا لتلاميذ الخليل بعد موته، وأن اللغويين في البصرة التي نشأ فيها الخليل لم يقتبسوا من كتاب العين في كتبهم. وهذا الرأي المنسوب إلى أبي حاتم، والمزعوم أنه رأى القالي أيضًا لا يعتمد إلا على الرواية الصرفة، وهذا يدل على أصحاب الطبقات اعتمدوا كليًّا على الروايات المختلفة دون اعتبار آخر. وإلَّا فقد كان أمامهم كتاب العين ليحكموا عليه منه. وكان أمامهم معجم القالي1 ليعرفوا رأيه في العين منه2.
الرأي الثاني:
أما من قال: إن الخليل صاحب الفكرة فقط، ولم ينكروا وجود العين كلية. فأولهم الأزهري صاحب التهذيب. ولقد افترض الأزهري هذا الفرض ثم أخذ يؤيده بمختلف الحجج التي ترضيه هو. فنجد أنه في مقدمة
1 لقد سبق أن أشرنا إلى أن القالي اعترف بتأليف الخليل للعين حين نقل عنه، وستأتي مناقشة أكثر في هذه المسألة.
2 ولعل هذا هو ما شجع واضعي الحديث في أن يضعوا ما يشاءون على الرسول كذبا، ويخترعوا له الإسناذ الكامل مع وضوح تعارض نصوص الحديث.
كتابه قد ذكر استعراضًا للغويين الذين قسمهم إلى مجموعتين الثقاة وغيره الثقاة. وقال عن المجموعة الثانية: إنهم قد خلطوا في كتبهم بين الصحيح والفاسد لدرجة أنه يصعب التمييز بين النوعين. وقد عد الأزهري في قائمة هؤلاء الليث الذي وصفه بأنه وضع كتاب العين، ونسبه للخليل بن أحمد.
وزيادة على ذلك فإن الأزهري قد ذكر الخليل في قائمة اللغويين الثقاة، ولكنه عندما أخذ يترجم لكل منهم لم يوف الخليل حقه في ذلك1 مع أنه اضطر إلى ذكره عرضًا عند الترجمة لتلاميذه، فقد ذكر مثلًا عند سيبويه أنه جالس الخليل بن أحمد، وأخذ عنه مذاهبه في النمو. كما ذكر عند ترجمة النضر بن شميل أنه كان من أبرع تلاميذ الخليل.
والأكثر من هذا أن الأزهري كتب لنا ضمن مراجعه في مقدمته، أن كتاب العين من بين هذه الكتب، ولكنه سيقتبس عنه بشيء من التحفظ نظرًا لوجود بعض الأخطاء فيه، ثم زاد على هذا بأن ذكر أن الأخطاء التي في العين إنما هي من الليث، ويبدو أن الأزهري كان يرى في بعض الأوقات أن الكتاب للخليل، ولكنه عندما صنف مقدمته للتهذيب أراد أن ينسى الخليل لحاجة في نفس يعقوب. ولكن برغم هذا فقد أفلت لسانه بما يفيد أن الكتاب جميعه ليس لليث، فقد روى ذلك دون تشكك منه في الرواية إذ قال: قال الحنفي لقد مات الخليل قبل أن يتم كتاب العين، فأتمه الليث ولنذكر هنا نص عبارة الأزهري2. "وإذا فرغنا من ذكر الإثبات والثقاة من
1 اكتفى الأزهري في ذلك بالنقل عن ابن سلام فقال: كان الخليل بن أحمد وهو رجل من الأزد من فراهيد، ويقال: رجل فراهيدي وكان يونس يقول: فرهودي، قال: فاستخرج العروش واستنبط منه ومن علمه ما لم يستخرجه أحد.
2 مقدمة التهذيب ص27.
اللغويين فلنذكر بعقب ذلك أقوامًا اتسموا بسمة المعرفة أودعوا كتبهم الصحيح، والسقيم وحشوها بالمزال والمصحف المغير الذي لا يتميز ما يصح منه مما لا يصح إلا عند الثقات المبرز والعالم الفطن، ولتحفظ اعتماد ما دونوه والاستبانة إلى ما ألقوه. فمن المتقدمين الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب العين جملة لينفقه باسمه ويرغب فيه من حوله. وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث بن المظفر رجلًا صالحًا. ومات الخليل، ولم يفرغ من كتاب العين فأحب الليث أن ينفق كتابه كله فسمى لسانه الخليل. فإذا رأيت في الكتاب سألت الخليل بن أحمد، أو أخبرني الخليل بن أحمد فإنه يعني الخليل نفسه وإذا قال. قال الخليل فإنما يعني لسان نفسه".
الرأي الثالث:
أما من قال: إن الخليل لم ينفرد بتأليف الكتاب، ولكن قد اشترك غيره معه فقد مال أغلبهم إلى أن الليث هو الذي ساعد في إتمام الكتاب، ومرة أخرى نجد التهمة تلصق بنفس الشخص، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من مجهود الليث في تأليف الكتاب.
ولكن أصحاب هذا الرأي يختلفون فيما بينهم في تفسير اشتراك الليث مع الخليل، وإلى أي مدى عاون الليث في تأليف الكتاب.
أ- الليث أعاد وضع الكتاب:
وينسب هذا الرأي إلى ابن المعتز1 الخليفة الشاعر. فقد اتسع له خياله الشاعري أن يذكر لنا رواية محبوكة هي أشبه بالقصص الغرامية منها
1 طبقات الشعراء ص38.
بالروايات العلمية فقد ذكر لنا أن الخليل عندما ضاقت به الحال في البصرة رحل إلى الليث في خراسان. فوجد فيه ميلًا شديدًا للغة، وإطلاعًا واسعًا ودراية بالشعر. وزيادة على ذلك وجد من إكرام ضيافته ما جعله يقيم عنده إقامة معززة مكرمة قد عوضت عليه بعض أيام الفقر في البصرة، فقدم له الخليل أغلى هدية عنده، وهي كتاب العين الذي كان قد بدأه: لعله يقصد بدأ فكرته. ثم أتمه عنده في حياته: وقد دفع له الليث جائزة كبرى على ذلك، كما عكف على دراسة الكتاب ليلًا، ونهارًا حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب.
وقد طاب لليث يومًا من الأيام أن يشتري جارية حسناء مما أحفظ قلب زوجته عليه، وأشعل نار الغيرة في صدرها. ولقد كادت له امرأته فرأت أن تنتقم منه في أعز شيء لديه. غاب الليث عدة أيام عن منزله ثم عاد فتفقد كتاب العين فلم يجده. ولكنه أحسن أن زوجته قد فعلت به شيئًا. وكان حسن الظن عندما حسب أنها قد أخفته. فساومها على إرجاع الكتاب. وقد كان الثمن شيئًا تحبه زوجته أكثر من المال إذ وعدها بأن يهدي لها جاريته، ومعنى هذا أنها تصبح محرمة عليه، وأن امرأته حرة في أن تعتقها، أو تتبيعها من تشاء خارج المدينة. ولكن زوجته أحضرت إليه رماد الكتاب الذي كانت قد أحرقته.
لم يتوان الليث عن التفكير في طريقة يحيي بها الكتاب من جديد، فأخذ يكتب مرة أخرى ما كان يحفظه من الكتاب حتى أتم نصفه تقريبًا. ثم جمع بعضًا من اللغويين المعاصرين الذين عاونوه على إتمام الكتاب1.
ب- الخليل وضع كتاب العين والليث أكمله:
ونسب هذا الرأي إلى أبي الطيب اللغوي الذي ذكر أن الخليل بدأ
1 ولكن ابن المعتز لم يستطع معرفة اسم واحد من هؤلاء اللغويين.
كتاب العين في حياته، ولكنه مات قبل أن يتمه وقد نصب تلميذه الليث نفسه لأداء هذه المهمة، فأنتم بقية الكتاب ولهذا نجد أن الكتاب لا يشبه أوله آخره.
ج- الفكرة للخليل والليث قد وضع الكتاب بما يتفق وهذه الفكرة، وقد نسب هذا الرأي فيما نسب إلى النواوي إذ قال: إن كتاب العين المنسوب إلى الخليل ما هو إلا من عمل الليث الذي وضعه بناء على ترتيب الخليل.
د- الخليل رتب أصول الكتاب، ثم وضع النص من بعده.
وأشهر من قال بذلك أبو بكر الزبيدي من المتقدمين وتبعه في هذا عالمان معاصران هما يوسف عش، والمستشرق الألماني أهلوارت.
أما أهلوارت فهو مؤلف الكتالوج الألماني للمخطوطات العربية ببرلين، فقد أتيحت له الفرصة أن يتكلم عن هذه المسألة حينما عرض للحديث عن مخطوطتين عبارة عن قطعتين من معجم على نظام التقليبات، والأبجدية الصوتية، وقد رأى أهلوارت أن هاتين القطعتين من كتاب العين. وقد استنتج من استطلاعه أن كتاب العين ليس للخليل بن أحمد، وإنما هو قد حشي بواسطة لغويين متأخرين بدليل أنه عثر فيهما على أسماء رواة متأخرين جدًّا عن الخليل مثل كراع والزجاج، وقد أجهد نفسه في تتبع هذه المواضع وذكر الصفحات التي وردت فيها تلك الأسماء، ثم قرر أنه يميل إلى رأي الزبيدي في هذه المشكلة. ولكن كما سيأتي. لقد بنى أهلوارت حكمه على أساس غير صحيح إذ إن هاتين القطعتين بعد مقارنتهما بمخطوطة العين ليستا من العين على الإطلاق بل من كتاب آخر كما سنوضحه بعد.
أما الأستاذ عش فقد لخص1 آراء اللغويين السابقين، وعرض المرويات المختلفة ورتبها إلى ثلاث مجموعات بين قائل بعدم نسبة الكتاب للخليل ومن قائل بهذه النسبة. ومن يتخذ طريقًا وسطًا. وقد رجح هو بناء على تعادل الروايات من حيث القوة. وبناء على وجاهة الأسباب التي ذكرها أصحاب كل قول. رجح أن يأخذ بالرأي الأخير؛ لأنه أوسطها وخير الأمور -كما قال- الوسط. ولم يشأ أن يذهب أعمق من هذا إلى كتاب العين نفسه ليستهديه الرأي بل بدا له أن يتبع الزبيدي في ذلك.
أما الزبيدي فقد نقل لنا رأيه في مصدرين مختلفين أولهما مقدمة كتابه مختصر العين، فقد ذكر أن الخليل وضع ترتيب الكتاب، ونظم أبوابه ثم حشاه من بعد أقوام غير أثبات. أما ثاني المصدرين فهو رواية ذكرها السيوطي2، وانفرد بها ولم أر احدًا من اللغويين أو أصحاب الطبقات قد اشترك معه في ذكرها. هذه الرواية تتضمن أن الزبيدي كان قد أرسل خطايا إلى بعض إخوانه الذي اتهم الزبيدي بتعصبه ضد الخليل، ومما جاء في تلك الرسالة قوله: "أوليس من العجيب الماجب والنادر الغريب أن يتوهم علينا من به مسكة من نظر، أو رمق من فهم تخطئة الخليل في شيء من نظره والاعتراض عليه فيما دق، أو جل من مذهبه والخليل بن أحمد أوحد عصره وقريع دهره. ولو أن الطاعن علينا يتصفح صدر كتابنا المختصر من كتاب العين لعلم أنا نزهنا الخليل عن نسبه المحال إليه. وذلك أنا قلنا في صدر الكتاب، ونحن نربأ بالخليل عن نسبة الخليل إليه أو التعرض للمقاومة له. وأكثر الظن فيه أن الخليل سبب أصله وثقف كلام العرب ثم هلك قبل كماله فتعاطى إتمامه من لا يقوم في ذلك مقامه. ومن الدليل على ذلك
1 مجلة المجمع العلمي بدمشق 1941.
2 المزهر ص49-53.
ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخرين مثل أبي عبيد وابن الأعرابي.
ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أن جميع ما وقع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين، وبخلاف مذهب البصريين من ذكر مخارج الحروف وتقديمها وتأخيرها، وهو على خلاف ما ذكره سيبويه في كتابه.
وكذلك ما مضى عليه الكتاب كله من إدخال الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة
…
ولو أن الكتاب للخليل لما أعجزه، ولما أشكل عليه تثقيف الثنائي الخفيف من الصحيح، والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعلتين، ولما جعل ذلك كله في باب سماه اللفيف.
ولما خلط الرباعي والخماسي إلخ"، وقد عقب السيوطي على هذا بقوله "قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجه التخطئة في بعضه من جهة التصريف والاشتقاق
…
وأما أنه يخطئ في لفظة من حيث اللغة بأنه يقال: هذه اللفظة كذب أولًا تعرف فمعاذ الله لم يقع ذلك، وحينئذ لا قدح في العين".
وهكذا نرى أن الزبيدي إذا مسح أن هذه الرسالة له قد بنى رأيه على دليل بعيد، وهو وجود بعض أخطاء في الكتاب لا يجوز في رأيه أن تنسب للخليل، ولكنه لم يوضح لنا شيئًا من هذه الأخطاء. كذلك مسألة الكوفيين والبصريين لا دخل لها في التنظيم المعجمي. كما ستوضحه بعد، وفوق هذا فإن الزبيدي عند ما بين في مقدمة المختصر أن الكتاب حشاه قوم غير ثقاة لم يشأ أن يعينهم لنا، أو يذكر لنا شيئًا عنهم.
والآن بعد سرد هذه الآراء لنعرض إلى مناقشتها لنتبين الأسس التي بنيت عليها، ولعله يتضح لنا آخر الأمر الرأي الصواب في المسألة.