الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيرته بما يثير إعجابه1.
ثم إن الجري على هذا النحو في الخطاب من خلو الكلام من التأكيد لخالي الذهن، واستحسان التأكيد للمتردد، ووجوبه للمنكر هو ما يتطلبه ظاهر حال المخاطب -وحينئذ ينبغي للمتكلم أن يراعي في خطابه ما يبدو من حال مخاطبه ليكون كلامه مطابقا- ويسمى الجري على هذا النحو إخراجا للكلام على مقتضى ظاهر الحال.
إذا علمت هذا فاعلم أن المتكلم قد يغض النظر عن ظاهر حال المخاطب، ويعتبر فيه أمرا آخر غير ما يبدو له من حاله لسبب ما، ويخاطبه على هذا الاعتبار، والجري على هذا النحو يسمى:
1 من ذلك ما روي أن أبا إسحاق الكندي ركب إلى أبي العباس المبرد يسأله: إني لأجد في كلام العرب حشوا. فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجدهم يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، فالألفاظ مختلفة والمعنى واحد. فأجاب أبو العباس: بل المعاني مختلفة، فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر، فقد اختلفت الألفاظ لاختلاف المعاني فما أحار الكندي جوابا.
إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر:
وذلك إنما يكون حيث ينزل الشيء منزلة غيره، فمن ذلك:
1-
تنزيل العالم بالحكم، أو بلازمه منزلة الجاهل بهما لعدم جريه على مقتضى علمه، فإن من لا يعمل بمقتضى علمه هو والجاهل سواء.
مثال العالم بالحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك للمسلم التارك للصلاة "الصلاة واجبة" فهو قطعا يعلم وجوبها بحكم إسلامه، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر، إذ مقتضى الظاهر الكف عن إخباره لعلمه بالحكم لكن نزل علمه به منزلة الجهل به لعدم جريه على موجب علمه، إذ لو كان عالما حقا بوجوب الصلاة ما تركها.
ومثال العالم بلازم الحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك: "ضربت
ابنى" بتاء الخطاب لمخاطب يعلم أنك تعرف أنه اعتدى على ابنك بالضرب، لكنه يناجي غيره بضربه إياه. فالمخاطب إذًا يعلم بلازم الحكم، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر إذ مقتضاه ألا يخبر بما هو عالم به، لكن نزل علمه هذا منزلة الجهل لعدم جريه على مقتضى علمه إذ لو كان عالما حقا بأنك تعلم ما صنعه في ابنك ما ناجى غيره بما فعله، فهو لما أسر إلى غيره بضرب ابنك صار كأنه يخفي عنك ذلك، وكأنه يجهل أنك عالم بما كان منه1.
ونظير ما ذكرنا في تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به قوله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {وَلَقَدْ 2 عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيان ذلك أن عجز الآية في بادئ الرأي يتنافى مع صدرها ذلك: أن معنى الآية: والله لقد علم اليهود أن من آثر كتاب السحر على كتاب الله ما له في ثواب الله من نصيب، ووالله لبئس ما باعوا به سعادتهم وحظوظهم لو كانوا يعلمون سوء مغبة ما فعلوا، فأنت ترى أن العلم الواقع بعد "لو"
1 إنما جاز تنزيل العالم منزلة الجاهل عند عدم القيام بموجب العلم تنديدا به، وتقبيحا لحاله لأنه إذا كان عالما بالشيء ولم يعمل بموجب علمه، ثم أخبر به كان في إلقاء الخبر إليه إشارة إلى أنه هو والجاهل سواء وفي هذا من التوبيخ ما لا يخفى.
2 اللام موطئة للقسم، والضمير في {عَلِمُوا} لليهود واللام في {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ابتدائية، وضمير {اشْتَرَاهُ} عائد على كتاب السحر والشعوذة، والمراد بالاشتراء: الاختيار والاستبدال، و {مَنِ} مبتدأ، وجملة {اشْتَرَاهُ} صلة، وقوله:{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} جملة مركبة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر {مَنِ} ، وجملة "من اشتراه إلخ" سادة مسد مفعولي "علم" لتعليقه بلام الابتداء، وجملة "ولبئس إلخ" معطوفة أما على جملتي القسم والجواب فيقدر فيها قسم، وتكون اللام في لبئس موطئة له، وأما معطوفة على جملة الجواب وحدها فلا يقدر فيها قسم وتكون اللام في لبئس موطئة للقسم الأول كاللام الأولى و"لو" شرطية ومفعول "يعلمون" محذوف أي: لو كانوا يعلمون مذمومية الشراء، أو ينزل الفعل منزلة اللازم أي: لو كانوا من أهل العلم وجواب "لو" محذوف تقديره "لامتنعوا".
منفي بها؛ لأنها حرف امتناع، وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية، وهذا بحسب ظاهره تناف، ولأجل التحلل من هذا التنافي، والتوفيق بين ثبوت العلم لهم أولا، ونفيه عنهم ثانيا نزل العلم المثبت لهم منزلة عدمه لعدم جريهم على موجبه إذ لو علموا حقا سوء عاقبة ما فعلوا من إيثارهم كتاب السحر على كتاب الله لأقلعوا عنه.
وإنما كانت الآية نظيرا لما نحن بصدده، وليست مثالا له؛ لأنها ليست من قبيل تنزيل العالم بالفائدة، أو لازمها منزلة الجاهل بهما؛ لأن اليهود ليسوا مخاطبين بالآية، ولم يقصد إعلامهم بها، منزلين منزلة الجاهلين وإنما المخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قدمنا، وهم ليسوا عالمين بفائدة الخبر1.
2-
تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد، وذلك إنما يكون حيث يقدم له كلام يلوح بجنس الخبر، ويشير إليه كأن يأتي إليك رجل يتشفع إليك في ابن لك غضبت عليه لسبب ما، فتقول له:"لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق إنه مطرود من منزلي"، فقولك:"إنه مطرود" هو الخبر، وقد ألقي لخالي الذهن مؤكدا تنزيلا له منزلة المتردد في الحكم، الطالب لمعرفته.
ذلك لأنه قدم له كلام يشعر بجنس هذا الحكم، وهو قولك أولا:"لا تحدثني في شأن هذا العاق" فإن هذا القول يشعر المخاطب أن المتشفع فيه قد استحق العقاب، وصار في مقام المتردد في نوع هذا العقاب أهو ضرب، أم طرد، أم حرمان من كذا، أم نحو ذلك من أنواع العقاب؟ وكأنه يطلب معرفته لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه، فخلوا الذهن هو ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه متحقق يقتضي
1 قد ينزل وجود الشيء منزلة عدمه كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فقد نزل الرمي منه صلى الله عليه وسلم منزلة العدم باعتبار ما ترتب عليه من الآثار العجيبة التي لا تترتب على فعل غيره من سائر البشر عادة، وهي إصابة جميع الكفار بالتراب في أعينهم، ولهذا نفي عنه بقوله: وما رميت، ثم أثبت له ثانيا بالنظر إلى الظاهر.
أن يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد، لكن المتكلم صرف النظر عن هذا الظاهر المتحقق، واعتبر في المخاطب أمرا آخر غير متحقق فيه، وذلك هو التردد لما قدم له من الكلام الملوح للخبر، وعامله في الخطاب معاملة المتردد، ومثله قوله تعالى خطابا لنوح عليه السلام:{وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} فقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشعر بأن سيحل بقومه العقاب1، فصار نوح عليه السلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه.
3-
تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر إذا ظهر2 عليه شيء من أمارات الإنكار3 وحينئذ يؤكد له الكلام كما يؤكد للمنكر حقيقة كما إذا كان المخاطب مسلما تاركا للصلاة، أو معاقرا للخمر، فتقول له مؤكدا:"إن الصلاة لواجبة، أو إن الخمر لحرام"، فالمخاطب بحكم إسلامه يعلم قطعا بوجوب الصلاة، كما يعلم بحرمة الخمر، ولا ينكر ذلك، لكن تركه للصلاة، أو معاقرته للخمر جعله في منزلة المنكر ذلك إذ لو كان يؤمن حقا بوجوب الصلاة، أو بحرمة الخمر لما خالف أمر الله فيهما، لهذا خوطب خطاب المنكر خروجا بالكلام عن مقتضى ظاهر حاله -ومنه قول حجل4 بن نضلة القيسي.
1 أي: مشعر بجنس الخبر وهو مطلق عقاب، ولا إشعار فيه بخصوص الخبر الذي هو الإغراق نعم إذا لاحظنا ضميمة قوله قبل ذلك: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، كان فيه إشعار بخصوص هذا العقاب.
2 أو كان الحكم بعيدا والمخاطب سيئ الظن بالمتكلم، أو أن المتكلم يعرف من المخاطب أنه لا يقبله، أو غير ذلك من الأسباب التي تستدعي التأكيد.
3 أي: في زعم المتكلم لا الأمارات الموجبة لظن الإنكار وإلا كان التأكيد حقيقيا لا تنزيليا.
4 بفتح الحاء والجيم وهذا لقبه واسمه أحمد بن عمرو بن عبد القيس: نضلة: بفتح فسكون اسم أمه.
جاء شقيق عارضا رمحه
…
إن بني عمك فيم رماح1
فشقيق هذا لا ينكر أن في بني عمه رماحا، بل إنه ليعلم ذلك بحكم الجوار، أو بحكم الخصومة القائمة بين الطرفين، لكن مجيئوه على هذه الصورة، واضعا رمحه عرضا من غير تهيؤ واستعداد، شأن الصلف، المزهو بنفسه، المدل بقوته جعله في منزلة المنكر أن في عمه من يستطيع نزاله في ميدان القتال، إذ لو كان معترفا بذلك لجاء على هيئة المستعد للقائهم، المتهيئ لقتالهم2.
فعدم الإنكار فيما مثلنا "أولا وثانيا" ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه ووصف له في الواقع يقتضي أن يلقي إليه الكلام خلوا من التأكيد، بل يقتضي ألا يلقي إليه الخبر أصلا لعلمه بالحكم الذي تضمنه، لكن المتكلم غض النظر عن هذا الظاهر، واعتبر في المخاطب أمرا آخر ليس متحققا فيه، ولا وصفا له هو "الإنكار" لما بدا عليه من أماراته، وخوطب خطاب المنكر حقيقة على غير ما يقتضيه ظاهر حاله كما تراه في البيت، وفي المثال قبله.
4-
تنزيل المتردد في الحكم منزلة المنكر كما في قولك: "إن أخاك لناجح" لمن يتردد في نجاح أخيه، ولكنه يرجح عدم نجاحه، فهذا القول خبر وقد ألقي للمتردد مؤكدا تأكيدا يناسب المنكر للحكم تنزيلا له منزلته -ذلك أنه لما غلب على رأيه عدم نجاح أخيه صار بمثابة المنكر لنجاحه، واستحق أن ينزل منزلة المنكر في الخطاب- فالتردد حال ظاهرة
1 عارضا رمحه أي: واضعا رمحه وهو راكب على فخذيه يكون عرضه جهة العدو، وإنما سماهم بني عم باعتبار أنهم جميعا من فصيلة العرب وإن تعددت قبائلهم، ولا يبعد أن يكون بين شقيق وهؤلاء القوم وشائج قربى.
2 في الشطر الثاني من البيت التفات من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا تهكم وسخرية بشقيق ورمي له بالنزق وخرق الرأي إذ لو علم بعدة بني عمه ما اتجه إليهم بل لم تقو يده على حمل السلاح لضعف بنائه؛ ولأنه لم يألف هذه المواقف وكأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان.
للمخاطب، وهي وصف ثابت له حقيقة، يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا تأكيدا يناسبه، ولكن غض النظر عن هذه الحال الظاهرة، واعتبر فيه أمر آخر ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخوطب خطاب المنكر.
5-
تنزيل المنكر منزلة المتردد كما في قولك: "إن الأدب نافع" لمن ينكر نفع الأدب، ولكن إنكاره ضعيف يزول بأدنى تأكيد فهذا القول خبر، وقد ألقى للمنكر مؤكدا تأكيدا يلائم المتردد في الحكم تنزيلا له منزلته بسبب ضعف إنكاره حتى كاد يكون مترددا لا منكرا، فالإنكار حال ظاهرة في المخاطب، وهي أمر ثابت فيه حقيقة، يقتضي أن يخاطب خطاب المنكر، فيؤكد له الخبر تأكيدا يتناسب مع إنكاره، لكن صرف النظر عن هذه الحال الظاهرة، وفرض فيه أمر آخر غير متحقق فيه هو "التردد" وخوطب خطابه1.
6-
تنزيل المنكر منزلة خالي الذهن إذا كان الدليل على غير ما يعتقد واضحا، بحيث لو استطاع التأمل فيه لارتدع عن إنكاره كما في قوله تعالى خطابا لمنكر الوحدانية:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فهذا القول خبر، وقد ألقي للمنكر خلوا من التأكيد تنزيلا له منزلة من لم يكن منكرا ولا مترددا، ذلك أن الدليل على الوحدانية قائم بين يديه، لو نظر فيه نظرة عادلة، وأزال تلك الغشاوة من عينيه، والتفت إلى ما يحيط به من الآثار لأذعن عن جحوده، فالإنكار ظاهر حاله، وهو وصف له في الواقع يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا وجوبا، لكن قطع النظر عن هذا الأمر الثابت، وفرض فيه أمر آخر غير متصف به في الواقع، وهو خلو الذهن من الحكم لنكتة وضوح الدليل القائم، بحيث يعتبر الإنكار معه كلا إنكار، وخوطب خطاب غير المنكر، ومثله قوله تعالى:{لا رَيْبَ فِيهِ} ، ومعناه:
1 قد يقال: أي: ثمرة لتنزيل المنكر منزلة المتردد أو العكس مع أن كليهما يؤكد به القول من غير تنزيل، ويجاب بأن فائدة التنزيل نقص التوكيد في الأول، وزيادته في الثاني فإن المتردد يؤتى معه بتأكيد واحد، ويؤتى مع المنكر بأكثر من ذلك، وهذا الجواب أحسن مما أجاب به بعضهم من أن فائدة التنزيل صيرورة التأكيد مع المنكر واجبا، ومع المتردد مستحسنا إذ الوجوب والاستحسان لا يفهمان من اللفظ.
أن القرآن ليس مظنة للريب، ولا موضعا للشك، ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكره الكثير من الكفار وكان مقتضى الظاهر أن يؤكد، فيقال: إنه لا ريب فيه، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه لما بين أيديهم من الدليل الواضح1 الدال على أنه لا ينبغي أن يكون موضع ريب.
وإنما كان معنى الآية ما ذكرنا من كون القرآن ليس بمظنة للشك؛ لأننا لو أبقيناها على ظاهرها من نفي الريب على الاستغراق بمعنى: لم يقع فيه ريب من أحد لم يكن مطابقا للواقع لكثرة المرتابين فيه، فلا تكون الآية من قبيل جعل المنكر كغير المنكر؛ لأن الحكم الذي يجعل فيه المنكر كغيره يجب أن يكون مطابقا للواقع، عليه من الدلائل ما لو تأملها المنكر لأذعن، وأقلع عن إنكاره، وهذا الحكم -وهو نفي الريب على سبيل الاستغراق- ليس كذلك لثبوت الريب في الواقع2- إلى غير ذلك من المواضع التي يخرج فيها الكلام على غير مقتضى الظاهر لتنزيل الشيء منزلة غيره.
تنبيهان:
الأول: يعلم مما تقدم أن الحال وظاهر الحال -مع اتفاقهما في أن كلا منهما يدعو المتكلم إلى اعتبار أمر زائد في الكلام- يفترقان من حيث إن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال؛ لأن ظاهر الحال هو الوصف الثابت للمخاطب في الواقع كخلو الذهن أو التردد، أو الإنكار، بخلاف الحال فهو أعم من أن يكون وصفا ثابتا للمخاطب في الواقع، أو كان أمرا مفروضا فيه
1 هو كونه معجزا تحدي العرب في أبين صفاتهم فعجزوا عن مباراته.
2 الأولى أن تكون الآية المذكورة من قبيل التنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه، بناء على وجود ما يزيله، فينزل ريب المرتابين منزلة عدمه اعتمادا على ما يزيله من الأدلة والأمارات كما ينزل الإنكار منزلة عدمه، أما جعل الآية من قبيل المثال لما نحن بصدده فيحتاج إلى تأويل الآية بما ذكرنا من أن المعنى: ليس القرآن بمظنة للريب، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج.
فرضا، فالحال في نحو قولك لمنكر حقية الإسلام:"إن الإسلام لحق" هو الإنكار؛ لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر في كلامه خصوصية هي "التأكيد" وهو ظاهر حال أيضا؛ لأنه أمر ثابت للمخاطب في الواقع فقد اتحد الحال وظاهر الحال في مثل هذا المثال، أما في نحو قولك للمسلم التارك للزكاة:"إن الزكاة لواجبة" فإن الحال فيه "الإنكار" لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر التأكيد في خطابه، وليس ظاهر حال له إذ ليس وصفا ثابتا له في الواقع، وإنما الثابت له "عدم الإنكار"، غير أن المتكلم لم يعتبر هذا الوصف، وفرض فيه أمرا ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخاطبه على هذا الاعتبار، فظهر أن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال.
الثاني: أن ما تقدم من الاعتبارات السابقة من ترك التأكيد لخالي الذهن، واستحسانه للمتردد، ووجوبه للمنكر على حسب إنكاره كما يجري في الإسناد المثبت -كما سبق- يجري مثله في الإسناد المنفي، فيقال لخالي الذهن في النفي:"ما محمد شاعرا" بلا تأكيد، ويسمى ابتدائيا، ويقال للمتردد:"ما محمد بشاعر" بالتأكيد المستحسن، ويسمى طلبيا، ويقال للمنكر:"والله ما محمد بشاعر" بالتأكيد الواجب، ويسمى إانكاريا. كذلك قد يخرج الكلام في النفي على غير مقتضى الظاهر كما في الإثبات، فينزل غير المنكر مثلا منزلة المنكر إذا ظهرت عليه أمارات الإنكار، فيؤكد له القول كما يؤكد للمنكر حقيقة، فيقال:"والله ما خلا هذا البلد من بني فلان" لمن بدت عليه أمارة إنكار أن هذا البلد لم يخل من هؤلاء الأعداء لذهابه إليهم على هيئة الآمن المطمئن، كما يجعل المنكر كغير المنكر إذا كان الدليل على غير ما يعتقد قائما بين يديه، لو تأمل فيه ارتدع، وحينئذ لا يؤكد له القول كما هو الشأن مع خالي الذهن، فيقال:"ما دين المجوسية حقا" لمنكر أن دين المجوسية ليس حقا، وعلى هذا يكون القياس.