المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حذف المسند إليه - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٤

[حامد عونى]

الفصل: ‌حذف المسند إليه

10-

إظهار التعجب من المسند إليه إذا كان الحكم غريبا يندر وقوعه كما في قولك: "علي يصرع الأسد"، أو "يحمل كذا طنا من حديد" إذا دلت عليه قرينة، فتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه.

11-

قصد التسجيل على السامع بين يدي القاضي حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار والتنصل كأن يقول القاضي لشاهد واقعة: هل أقر هذا بأن عليه لعلي كذا، فيقول الشاهد: نعم محمد هذا أقر بأن عليه لعلي كذا، فيذكر المسند إليه لئلا يجد المشهود عليه سبيلا إلى الإنكار فيما لو لم يذكر اسمه بأن يقول للقاضي مثلا عند التسجيل عليه كتابة: إنما فهم الشاهد أنك أشرت إلى غيري، فأجاب بما أجاب به، ولذلك لم أنكر، ولم أطلب الإعذار فيه1.

إلى غير ذلك من نكات الذكر إذ ليست سماعية حتى يمكن استيعابها بل المدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيا من دواعي الذكر أو الحذف، أو غيرهما عمل به، وإن لم يذكره أهل الفن.

1 الإعذار إبداء العذر.

ص: 72

حذف 2 المسند إليه:

ي‌

‌حذف المسند إليه

لأغراض نذكر منها ما يلي:

1-

الاحتراز عن العبث في ظاهر الأمر لدلالة القرينة عليه، وذلك أن ما قامت عليه قرينة، ووضح أمره يكون ذكره عبثا في ظاهر الأمر؛ لأنه معلوم من القرينة، فلا معنى لذكره، وينبغي أن يصان كلام البليغ عن العبث، مثال ذلك أن تقول:"حضر" تريد "الأمير" إذا كان هناك قرينة من لفظ أو حال تدل على أن الذي حضر هو الأمير، فتحذف المسند

1 إنما عبر هنا في جانب المسند إليه بالحذف وفي جانب المسند بالترك على ما سيأتي؛ لأن المسند إليه هو الركن الأعظم الشديد الحاجة إليه، حتى إنه إذا لم يذكر تخيل أنه أتى به ثم حذف بخلاف المسند فليس بهذه المثابة؛ لأنه وصف المسند إليه والوصف متوقف على الموصوف من غير عكس، فهو إذًا أدنى مرتبة منه.

ص: 72

إليه قصدا إلى التحرز عن العبث في ذكره لقيام القرينة الدالة، وإنما كان العبث ظاهريا؛ لأن الحقيقة أن لا عبث في ذكره، وإن قامت عليه قرائن؛ لأن المسند إليه أعظم ركني الإسناد إذ هو المحكوم عليه، فلا يكتفى فيه بالقرينة، بل ينبغي مع ذلك أن ينص عليه اهتماما بأمره.

2-

تخييل العدول إلى أقوى الدليلين1: اللفظ والعقل أي: أن يقصد المتكلم أن يخيل للسامع أنه عدل إلى أقوى الدليلين، وهو العقل.

بيان ذلك: أن الدال على المسند إليه عند حذفه هو "العقل"، وأن الدال عليه عند ذكره هو "اللفظ" غير أن العقل أقوى دلالة من اللفظ؛ لأن العقل ليس بحاجة دائما إلى اللفظ في الدلالة، بل كثيرا ما يستقل بها كما في المعقولات الصرفة، وكما في دلالة الأثر على المؤثر، بخلاف اللفظ فإنه دائما مفتقر إلى العقل في الدلالة، إذ لا يمكن أن يفهم منه شيء بدون معونة العقل، فالعقل آلة الإدراك، ولكن الحقيقة أن العقل أيضا غير مستقل في الدلالة عند الحذف، وإنما يدل بمعونة اللفظ المقدر المدلول عليه بالقرائن، فكلاهما ردء للآخر، وحينئذ لم يتحقق العدول إلى أقوى الدليلين، من أجل هذا جعلوا النكتة في الحذف قصد العدول المتخيل لا المتحقق، مثال ذلك قولك في المثال السابق:"حضر" تريد الأمير فقد حذف المسند إليه؛ لأن المتكلم يريد أن يدخل في روع السامع، وفي خياله أنه عدل عن أضعف الدليلين إلى أقواهما وهو "العقل" كما بين.

3-

ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب ما قد يعتري المتكلم من توجع أو ضجر ناشئين من أحداث الزمان، أو تباريح الهوى، بحيث لا يستطيع التكلم بأكثر مما يفيد الغرض كما في قول الشاعر:

قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل

سهر دائم وحزن طويل

لم يقل: "أنا عليل" لضيق صدره عن الإطالة بسبب ما ينوء به

1 أي: على المسند إليه.

ص: 73

من أعباء الهموم، أو ما يعانيه من آلام الهوى، ومنه قوله تعالى1:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} لم تقل "أنا عجوز" لما تحسه من ضيق الصدر عن الإطالة في القول بسبب ما انتابها من عقم، وما لحقها من كبر.

4-

الحذر من فوات الفرصة كأن يقول رجل لصائد: "غزال" يريد: "هذا غزال" فيحذف المسند إليه وهو "هذا" مخافة أن تفوت الفرصة بإطالة الكلام، فيفلت الصيد من يد الصائد، ومثله قولك:"قطار" لواقف في طريقه غافلا عنه أي هذا قطار فتحذف المسند إليه انتهازا للفرصة حتى لا يدهمه القطار.

5-

اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة على المسند إليه أيتنبه إليه لهذه القرينة القائمة، أم لا يتنبه إلا بالتصريح؟ مثال ذلك أن يحضر إليك رجلان تربطك بأحدهما صداقة، فتقول لآخر يعلم بهذه الصلة:"غادر" تريد أن تقول: الصديق غادر، فتحذف المسند إليه اختبارا للسامع أيتنبه إلى أن المسند إليه المحذوف هو "الصديق" بقرينة ذكر "الغدر" إذ لا يناسب إلا الصديق أم لا يتنبه؟ ومثله قولك:"مستفاد نوره من الشمس" تريد "القمر" فتحذفه اختبارا لذكاء السامع.

6-

اختبار مقدار تنبه السامع ومبلغ ذكائه عند قيام قرينة خفية على المسند إليه أيتنبه بالقرائن الخفية أم لا؟ مثال ذلك أن يحضرك شخصان تجمعك بهما صداقة غير أن أحدهما أقدم من الآخر فيها، فتقول لآخر يعلم بهذه الصحبة:"جدير بالإحسان" تريد أقدمهما صحبة، وهو "محمد" مثل، فتحذف المسند إليه اختبارا لمبلغ ذكاء المخاطب أيتنبه إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان ذو الصداقة القديمة، دون حادثها أم لا يتنبه2؟

1 حكاية عن قول السيدة سارة عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها إبراهيم عليه السلام، وبشروه بأنه سيولد له ولد كثير العلم هو إسحاق عليه السلام، فلما بلغها ذلك صاحت ولطمت وجهها وقالت يا ويلتا: أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا؟ إن هذا لشيء عجيب.

2 حكي عن بعض خلفاء بني العباس أنه ركب سفينة مع أحد ندمائه فسأله الخليفة: أي طعام أشهى عندك؟ فقال: مخ البيض المسلوق فاتفق عودهما هنالك في المقابل فقال له الخليفة: مع أي شيء؟ فأجاب النديم مع الملح فتعجب الخليفة من قوة استحضاره وكمال تنبهه ويقظته.

ص: 74

7-

إيهام1 صون المسند إليه عن لسانك من أن يتلوث بنجاسة بمروره عليه لكونه عظيما خطيرا، أو إيهام صون لسانك عنه لحقارته وامتهانه، فالأول نحو:"رافع راية التوحيد، هادم دعائم الشرك" تريد النبي صلى الله عليه وسلم فتحذفه مخافة أن يتلوث من لسانك. والثاني نحو قولك: "مخذول مطرود" تريد إبليس اللعين، فتحذفه لئلا يتلوث اللسان بذكره، وكما يكون الحذف لإيهام صونه عن اللسان أو عكسه يكون أيضا لإيهام صونه عن سماع المخاطب، أو عكسه.

8-

تأتي الإنكار وتيسره عند الحاجة إليه، مثال ذلك أن يحضر إليك جماعة من بينهم خصم لك، فتقول لآخر:"وغد لئيم" تريد هذا الخصم، فتترك ذكر اسمه ليتأتى لك الإنكار عند لومه لك على سبه، فتقول له: ما عنيتك وإنما أردت غيرك.

9-

تعين المسند إليه2، إما لأن المسند لا يصلح إلا للمسند إليه، أو لأن المسند كامل فيه، وإما لأن المسند إليه معهود بين المتكلم والمخاطب، فمثال الأول قولك:"عالم الغيب والشهادة" تريد الله سبحانه، فتحذفه لتعينه إذ إن علم الغيب والشهادة وصف خاص به تعالى، لا يكون لسواه، ومثال الثاني: قولك: "عادل في حكومته" تريد عمر الفاروق، فتحذفه لتعينه؛ لأن صفة العدالة بلغت فيه الكمال، ومثله قولهم:"أمير الشعراء يريدون "شوقي"، فيحذفونه لتعينه لأن صفة الشاعر بلغت فيه الذروة، ومثال الثالث قولك: "حضر اليوم" تريد إنسانا معينا بينك وبين مخاطبك.

10-

ادعاء تعين المسند إليه كقولك، "وهاب الألوف" تريد

1 إنما عبر بالإيهام؛ لأن التلوث المراد صون الذكر أو اللسان عنه أمر اعتباري محض.

2 قيل إن ذكر الاحتراز عن العبث يغني عن ذكر التعيين؛ لأنه متى نعين المسند إليه كان حذفه احترازا عن العبث، وأجيب بأن القصد إلى التعين مغاير للقصد للاحتراز عن العبث، فقد يجوز أن يقصد أحدهما مع الذهول عن الآخر فتكون نكتة الحذف للبليغ قصد التعين دون الاحتراز وإن كان حاصلا، ويمكن أن يقال ذلك في سائر النكات التي يمكن اجتماعها.

ص: 75

"الأمير" فتحذفه لتعينه ادعاء، وأنه لا يتصف بذلك أحد من رعاياه، وإنما كان تعينه ادعائيا؛ لأنه يمكن غيره من أفراد شعبه أن يبذل ذلك.

11-

المحافظة على وزن، أو سجع، أو قافية، مثال الأول قول الشاعر:

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا علي ولا ليا

أي لا علي شيء، ولا لي شيء. حذف المسند إليه فيهما، وهو لفظ "شيء" لأن في ذكره إفسادا لوزن البيت، ومثله قول الشاعر المتقدم: قال لي كيف أنت قلت عليل

لم يقل أنا عليل محافظة على الوزن، ومثال الثاني قولهم:"من طابت سريرته حمدت سيرته" أي: حمد الناس سيرته، فحذف المسند إليه1، وهو "الناس"، محافظة على السجع المستلزم رفع الفاصلة2 من الفقرة الثانية، وهي قوله:"سيرته" إذ لو ذكر المسند إليه لكانت الأولى مرفوعة، والثانية منصوبة، ومثله قولهم:"من كرم أصله وصل حبله" أي: وصل الناس حبله، فحذف المسند إليه محافظة على السجع على نحو ما سبق، ومثال الثالث قول لبيد:

وما المرء والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن ترد الودائع

أي: أن يرد الناس الودائع، فحذف المسند إليه وهو لفظ "الناس" للمحافظة على القافية، ولولاه لاختلفت لصيرورتها مرفوعة في الشطر الأول، منصوبة في الثاني، ومثله قول الشاعر:

قد قال عذول مناك أتى

فأجبت وقلت كذبت متى

فقال حبيبك ذو خفر

وكبير السن فقلت فتى

فالمسند إليه في البيتين محذوف محافظة على القافية تقديره متى الإتيان وهو فتى3.

1 المراد بالمسند إليه الأصلي الذي هو الفاعل، وهذا لا ينافي أن نائب الفاعل مسند إليه أيضا.

2 هي الكلمة الأخيرة من جملة مقارنة لأخرى.

3 وفي مثل هذا محافظة على الوزن إلا أنه غير مقصود، وفرق بين الحاصل قصدا والحاصل من غير قصد.

ص: 76

12-

اتباع الاستعمال الوارد على ترك المسند إليه كقولهم في المثل: "رمية من غير رام"1 أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي حذف المسند إليه وهو "الضمير" اتباعا لما ورد في استعمالاتهم من ترك المسند إليه في مثل هذه المواضع، ومثله قولهم:"شنشنة أعرفها من أخزم"2. أي: هي شنشنة، فحذف المسند إليه اتباعا للاستعمال الوارد، ومنه قولهم في النعت المقطوع إلى الرفع لقصد إنشاء المدح، أو الذم، أو الترحم، "الحمد لله أهل الحمد" برفع أهل، وقولهم: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" برفع الرجيم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك المسكين" برفع المسكين على تقدير: هو أهل الحمد، وهو الرجيم، وهو المسكين، فقد حذف المسند إليه في هذه المثل اتباعا للاستعمال الوارد على تركه في نظائرها كقول العرب: "الحمد لله الكريم" برفع الكريم على المدح، وقولهم: "مررت بزيد الخبيث" برفع الخبيث على الذم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك الفقير" برفع الفقير، ومن هذا القبيل قول ابن عنقاء الفزاري يمدح عميلة وقد شاطره ماله لفقره3:

1 مثل يضرب لمن صدر منه فعل ليس أهلا له قاله الحكم بن يغوث حين نذر أن يذبح مهاة على الغبغب وهو جبل بمنى، وكان من أرمى الناس فصار كلما رمى مهاة لا يصيبها، ومكث على ذلك أياما حتى كاد يقتل نفسه فخرج معه ابنه "مطعم" إلى الصيد فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها مطعم فأصابها، وكان لا يحسن الرمي فقال الحكم عندئذ: رمية من غير رام فصار مثلا.

2 هذا المثل عجز بيت قاله أبو أخزم الطائي، كان ابنه أخزم يؤذيه كثيرا، ثم مات في حياة أبيه، وترك أولادا له فوثبوا على جدهم يوما وأوسعوه ضربا حتى أدموه فأنشد:

إن بني ضرجوني بالدم

من يلق آساد الرجال يكلم

ومن يكن ردءا له يقدم

شنشنة أعرفها من أخزم

يقول إن ضربهم إياهه خصلة يعرفها من أبيهم أخزم، فذهب الشطر الأخير مثلا سائرا.

3 قال التبريزي في خبر هذه الأبيات: إن قوما من العرب أغاروا على نعم له فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء، فأتى ابن أخيه عميلة وقال له: يابن أخي إنه نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة؟ قال: نعم يا عم حين إذ يروح المال فأبلغ مرادك منه فلما راح المال قاسمه إياه وأعطاه شطره، فقال ابن عنقاء هذه الأبيات.

ص: 77

رآني على ما بي عميلة فاشتكى

إلي ما له حالي، أسركما جهر

دعاني فآساني ولو ضن لم ألم

على حين لا بدو يرجى ولا حضر

غلام رماه الله بالخير يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر1

أي: هو غلام ومنه قول الشاعر2.

سأشكر عمرا ما تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت3

أي: هو فتى، وهكذا يذكرون الممدوح، ثم يعقبون بعد ذلك بقولهم: غلام من شأنه كذا وكذا، أو فتى من شأنه كيت وكيت، ولا تكاد

1 "اشتكى حاله إلى ماله" كناية عن أنه رق له وعطف وهو من أروع الكنايات وألطفها، وقوله:"أسركما جهر" يريد: أن باطنه كظاهره فلم يعطه رياء بل كان عطفه عليه وليد رغبة صادقة فيه، ورماه الله بالخير غمره به، واليافع الشاب من أيفع الغلام إذا ناهز العشرين، والسيمياء الحسن والبهجة يرد أن سيماءه في وجهه وأن ما ينطوي عليه من خير يدرك بمجرد النظر إليه.

2 هو عمرو بن كميل. نظر إليه عمرو بن ذكوان وعليه جبة بلا قميص فجعل يسعى له ويتشفع حتى ولي البصرة فقال هذه الأبيات، وقيل إن قائل هذه الأبيات أبو الأسود يمدح بها عمرو بن سعيد العاصي.

3 ما تراخت منيتي يريد: ما امتد بي الأجل أي: ما حييت، والأيادي جمع يد بمعنى العطية، ولم تمنن أي: متصلة لم تنقطع، وقوله غير محجوب الغنى عن صديقه يريد أن أمواله في متناول أيدي قاصديه، وقوله. "ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت" يريد أنه جلد على قضاء الله لا يجزع لمكروه.

ص: 78