المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء: - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٤

[حامد عونى]

الفصل: ‌تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء:

وجه انحصاره في هذه الأبواب:

إن الكلام إما خبر، أو إنشاء، وإذا لا بد من باب ينعقد لبيان ما يعرض للإنشاء من أحوال ستوافيك فيما بعد.

والخبر لا بد له من مسند إليه، ومسند، وإسناد، ولا بد لهذه الثلاثة من بيان أحوالها، فتحصل لنا ثلاثة أبواب، باب أحوال الإسناد الخبري، وباب أحوال المسند إليه، وباب أحوال المسند.

والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو ما في معناه كالمصدر، واسم المفعول، والظرف، ونحو ذلك، فلا بد إذا من باب خامس يبين فيه أحوال متعلقات الفعل.

والإسناد: أما بقصر، أو بغير قصر، فلا بد إذًا من باب سادس يبحث فيه عن أحواله يسمى "باب القصر".

وكل جملة قرنت بأخرى، أما معطوف عليها، أو لا، فلا بد إذا من باب سابع يسمى "باب الفصل والوصل".

والكلام إما أن يكون أقل مما يتضمن من معنى، أو يكون أكثر منه لفائدة، أو مساويا له، فلا بد حينئذ من باب ثامن يسمى:"باب الإيجاز والإطناب والمساواة".

ص: 10

‌تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء:

لكل كلام تام طرفان هما: المسند، والمسند إليه، فالطرفان في

ص: 10

قولك: "علي كاتب" هما: الكتابة وعلي، وفي قولك:"اكتب يا علي" هما: الكتابة والفاعل المستتر، والإيجاب والسلب في ذلك سواء.

ولا بد للطرفين من رابط يربط بينهما يسمى "نسبة" فالنسبة هي تعلق أحد الطرفين بالآخر، إما على سبيل الحكم بأحدهما على الآخر -إيجابا أو سلبا- كما في الخبر، وإما على وجه الطلب كما في الإنشاء.

فالنسبة في قولك: "علي شاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث ثبوته له، وفي قولك:"علي ليس بشاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث سلبه عنه1، وفي نحو قولك:"اقرأ يا محمد" تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب إيجادها منه، وفي نحو قولك:"هل قرأ محمد؟ " تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب فهم حصولها منه وهكذا

أما ما قيل من أن النسبة هي: "الإيقاع والانتزاع" أي: إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة فتفسير بعيد عن الصواب لعدم شموله للنسب الإنشائية إذ لا يتأتى فيها ذلك كما سيأتي بيانه، وحينئذ فلا يصح تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء.

وهذه النسبة أنواع ثلاثة: كلامية، وذهنية، وخارجية، فالكلامية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الكلام، والذهنية: تعلق أحد الطرفين بالآخر القائم بذهن المتكلم، والخارجية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الخارج والواقع. فقولك: "علي بطل" يشتمل على النسب الثلاث، فثبوت البطولة لعلي باعتبار فهمه من الكلام يسمى "نسبة كلامية"، وثبوت البطولة له باعتبار قيامه بذهن المتكلم يسمى "نسبة ذهنية"، وثبوت البطولة له باعتبار حصوله في الخارج يسمى "نسبة خارجية"- ومثل النسبة الإيجابية في ذلك النسبة السلبية، كذلك قولك:"أقدم يا علي" فإن طلب الإقدام منه باعتبار فهمه من الكلام يسمى

1 الإيجاب والسلب إنما يكونان في الخبر كما رأيت، ولا يتصف بهما الإنشاء؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود.

ص: 11

نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم يسمى نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بالنفس، واتصافها به يسمى نسبة خارجية1.

وإذ علمت ذلك فالكلام باعتبار هذه النسبة نوعان- خبر وإنشاء، وقد وضح لك ذلك من الأمثلة المذكورة، وتحقيق الفرق بينهما من وجوه:

الأول: أن الخبر قول يحتمل الصدق والكذب لذاته أي: هو ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب، فقولك:"علي شاعر" خبر إذ يحتمل في الواقع أن يكون شاعرا، فيكون الخبر صادقا، وألا يكون شاعرا فيكون الخبر كاذبا، وأما الإنشاء فقول لا يحتمل صدقا ولا كذبا لذاته أي: لا يجوز أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب، فقولك:"اكتب يا علي" إنشاء معناه: طلب الكتابة منه، ولا يتعلق بهذا الطلب صدق ولا كذب؛ لأنهما من خواص الصيغ الحاكية لنسب حاصلة.

الثاني: أن الخبر لا يتوقف حصول مدلوله على النطق به، فقولك:"محمود جواد" خبر لأن مدلوله، وهو ثبوت الجود له حاصل -سواء نطقت بهذا الخبر أو لا- أما الإنشاء: فمدلوله متوقف على حصوله على النطق بصيغة الطلب، فقولك:"أقبل يا سعيد" إنشاء لأن مدلوله وهو حصول الإقبال منه متوقف على النطق بهذا الطلب.

الثالث: أن مدلول الخبر -وهو ما يسمى بالنسبة الكلامية- يراد به أن يكون حكاية عن أمر حاصل في الواقع، وهو ما يسمى بالنسبة الخارجية، فقولك:"سعيد كريم" أو سعيد ليس بكريم" خبر لأنه قصد به أن يكون حكاية عن ثبوت الكرم لسعيد، أو عن عدم ثبوته له في الخارج بمعنى: أن في الواقع شيئا هو ثبوت الكرم لسعيد أو عدم ثبوته له، وقد قصد بهذا القول حكايته، أما الإنشاء فلا يقصد به أن يكون

1 من هذا يعلم أن النسبة الخارجية في الإنشاء ما كان خارجا عن اللفظ كتعلق الإقدام بعلي القائم بالنفس على وجه الطلب بخلاف النسبة الخارجية في الخبر فإن المراد بها ما كان خارج الأعيان.

ص: 12

حكاية عن أمر حاصل، وإنما يقصد به إيجاد أمر لم يحصل، فلفظ "اقرأ" مثلا لم يقصد به أن يكون حكاية عن قراءة حاصلة في الخارج، بل المقصود به طلب إحداث مدلوله، وهو إيجاد القراءة بهذا اللفظ بحيث لا يحصل هذا المعنى بدون النطق به.

على أنه إذا قصد بصيغة الإنشاء أن تكون حكاية للنسبة الخارجية التي هي الطلب القائم بالنفس كان الإنشاء خبرا مجازا، وصار معنى "اقرأ": أنا طالب القراءة، ولكن هذا القصد غير ملاحظ في النسب الإنشائية بخلاف النسب الخبرية لأنها -كما قلنا- حاكية للنسب الخارجية، فالمطابقة بين النسبتين في الخبرية مقصودة البتة.

ومن هنا يتبين أن للإنشاء كما للخبر نسبة خارجية تطابق الكلامية، أو لا تطابقها، أما في الخبر فظاهر، وأما في الإنشاء فبيانه أنك إذا قلت لآخر:"قم" فإن كان في نفسك أن تطلب قيامه، بأن كنت مريدا له حقيقة فقد تطابق النسبتان، وإن لم يكن في نفسك هذا الطلب بأن طلبته على غير إرادة لم تحصل المطابقة، غير أن المطابقة وعدمها في الخبر مقصودة له.

قال بعضهم: والتحقيق أن الإنشاء، وإن كانت له نسبة لكن لا خارج لها؛ لأن النسبة التي لها خارج هي التي تكون حاكية لهذا الخارج، ونسب الإنشاء ليست حاكية، بل موجدة، ولو كان لها خارج لزم أن يتصور فيه الصدق والكذب، واللازم باطل.

وقد عرفت من قريب أن لنسب الإنشاء خارجا هو الطلب النفسي، وأنها حاكية قطعا لهذا الطلب القائم بالنفس غير أن ذلك غير مقصود فيها، وهو محط الفرق بينها وبين النسب الخبرية.

تنبيه:

اعلم أن احتمال الخبر للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الخبرية بقطع النظر عن المخبر، أو الواقع: إذ لو نظرنا إلى ذلك لوجدنا بعض الأخبار مقطوعا بصدقه، لا يحتمل كذبا، وبعضها مقطوعا بكذبه،

ص: 13