الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليست شروطا يجب مراعاتها، وإنما ذكرت وفقا لما ورد في النص الكريم، والعبارة الواضحة في تقرير هذه النكتة أن يقال: يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة للتنبيه -عند الإشارة إلى موصوف- على أن المشار إليه جدير بما أسند لاسم الإشارة من أجل كونه موصوفا ا. هـ.
إيراد المسند إليه اسم موصول:
يؤتى بالمسند إليه اسم موصول لأسباب أهمها ما يأتي:
1-
ألا يكون المخاطب عالما بالأمور المختصة1 بالمسند إليه سوى الصلة.
كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلا ينشده شعرا، ولا عهد له به من قبل، فتقول له من الغد:"أين الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ " فالمخاطب لم يكن يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى أنه كان عنده بالأمس ينشده شعرا، فأنت في هذه الحالة لا طريق لك إلى تعريف الرجل للمخاطب سوى هذه الصلة؛ لأنها هي المعلومة له.
وإنما خص المخاطب بعدم العلم بسوى الصلة، ولم يتعرضوا لصلة لم يكن للمتكلم وحده، أو مع المخاطب علم بغيرها؛ لأن الكلام حينئذ لا يكون فيه كبير فائدة غالبا2 إذ لا يمكن الحكم من المتكلم إلا بالأحوال العامة، والحكم بها قليل الجدوى؛ لأن أغلب الناس لا يجهلونها، فمثال ما إذا كان المتكلم وحده لا يعلم شيئا غير الصلة قولك:"الذين زاروك أمس لا أعرفهم" فمقتضى كون المتكلم لا يعلم شيئا من أحوال المسند إليه سوى هذه الصلة ألا يكون له به سابق معرفة، فإذا أراد أن يحكم عليه بشيء، فلا يعدو حكمه ما سبق في المثال من أنه لا يعرفهم وهو -كما ترى-
1 المراد باختصاصها به عدم عمومها لغالب الناس لا عدم وجودها في غيره.
2 وقد يكون فيه كبير فائدة كما في قولك: الذي ملك مصر يعظم أهل الدين، وكقولك: الذين في بلاد المغرب مخترعون، فليس من شك أن في مثل هذه الأخبار فائدة يعتد بها.
حكم عام ليس فيه كبير جدوى إذ من المعلوم لغالب الناس أن من لا صلة لك به لا تعرفه، ومثال ما إذا لم يكن للمخاطب ولا للمتكلم علم بغير الصلة قولك:"الذين في بلاد اليابان لا نعرفهم" إذ لا يمكن الحكم عليهم إلا بما هو معلوم لغالب الناس.
أما إذا كان المخاطب وحده هو الذي لا يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى الصلة كالمثال السابق فإن الكلام غالبا يكون كثير الفائدة؛ لأن المتكلم يكون في الغالب عالما بالأحوال المختصة به، فيحكم بها عليه.
غير أنه قيل: إن عدم العلم بغير الصلة لا يستدعي إتيان المسند إليه موصولا إذ يمكن التعبير عن المسند إليه بغير الموصول كالإضافة مثلا كقولنا في المثال السابق: "أين منشدك الشعر بالأمس" وإذًا فلا بد من انضمام شيء يترجح به اختيار الموصول على ما سواها من الطرق، وأجيب بأن النكتة لا يشترط فيها أن تكون مختصة بهذه الطريق، ولا أن تكون أولى بها، بل يكفي إمكان حصولها بها، وإن أمكن حصولها بغيرها، وليس معنى اقتضاء النكتة للموصول أنها مستلزمة له، بحيث لا يجزئ سواه، بل إن معنى اقتضائها للموصول مجرد مناسبته لها، وبهذا يجاب على كل سؤال من هذا النوع في آية نكتة.
2-
استهجان التصريح بالاسم الدال على ذات المسند إليه بأن كان مشعرا في العرف بما تقع النفرة منه في معناه أو لفظه، مثال الأول قولك:"الذي يخرج من أحد السبيلين ناقض للوضوء"، ومثال الثاني قولك:"الذي نشأت على يديه جدي" إذا كان اسمه قبيحا لا يستحسن ذكره كلفظ جحش أو خنشور، ففي الأول قبح التصريح بذكر الخارج من أحد السبيلين لفحش معناه، وقبح في الثاني لنفرة النفس من سماع اللفظ لهذا أتى بالموصول توقيا من تصريح تمجه النفس، ويعافه الطبع.
3-
زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام كما في قوله تعالى:
{وَرَاوَدَتْهُ 1 الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف، وطهارة ذيله، وبعده عن مظان الريبة، والتعبير بالصلة أدل2 على هذا الغرض مما لو قال: وراودته امرأة العزيز أو زليخاء؛ لأنه إذا كان في بيتها، وتمكن3 من نيل ما طلبت منه، ومع ذلك عف وامتنع كان ذلك غاية في نزاهته وعفته عليه السلام.
وقيل: إن المراد تقرير المسند الذي هو "المراودة": بمعنى أنها وقعت منها لا محالة؛ لأن وجوده في بيتها، مع ما لها من سعة السلطان، وقوة النفوذ، ومع فرط الاختلاط والألفة، أدل على وقوع المراودة، وصدور الاحتيال منها.
وقيل: إن المراد تقرير المسند إليه الذي هو "امرأة العزيز، أو زليخاء" وذلك لإمكان وقوع الإبهام، أو الاشتراك فيهما.
بيان ذلك: أنه لو قال: وراودته "زليخاء" مثلا لم يعلم يقينا أنها المرأة التي هو في بيتها لاحتمال أن يكون هناك امرأة أخرى مسماة بهذا الاسم غير التي هو في بيتها، ولو قيل: وراودته "امرأة العزيز" لوقع مثل هذا الاحتمال أيضا، وإن كان بعيدا، بخلاف التعبير بالموصول فإنه لا احتمال فيه مطلقا؛ لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي
1 مصدر المراودة وهي في الأصل بمعنى المجيء والذهاب من راد برود جاء وذهب ثم أريد منها المخادعة على سبيل الاستعارة التبعية بأن شبهت المخادعة، وهي الاحتيال لأخذ ما بيد الغير بالمراودة الموضوعة للمجيء والذهاب بجامع التردد في كل، ثم استعيرت المراودة للمخادعة، ثم اشتق من المراودة بمعنى المخادعة راودت بمعنى خادعت، ثم هي بعد ذلك ليست على إطلاقها بل على خصوص الجماع، غير أن تفسير المراودة بما سبق يقتضي وقوع الطلب من الطرفين؛ لأنها مفاعلة من الجانبين ويوسف عليه السلام نبي معصوم لا يقع منه طلب من هذا النوع، ولعل الجواب على هذا أن المراودة ليست على بابها بل المراد بها أصل الفعل، أو هي على بابها ولك الطلب اختلفت جهته فطلبها للوقاع، وطلبه للدفاع وبهذا فسر قوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، أي: همت به فعلا وهم بها تركا.
2 أي: إن الغرض يدل عليه كل من الموصول وامرأة العزيز وزليخاء إلا أن الموصول أدل عليه لاقتضائه أنه تمكن منها ولم يفعل بخلاف غيره.
3 أي: ولو بحسب الصورة وإلا فهو نبي معصوم.
زليخاء امرأة العزيز لا غير، لهذا كان هذا الوجه هو الأولى بالاعتبار، والأحق بالتقدير1، ومثل الآية المذكورة قول أبي العلاء المعري:
أعباد المسيح يخاف صحبي
…
ونحن عبيد من خلق المسيحا؟
فقوله: "عبيد من خلق المسيح" أدل على تقرير غرضه وهو نفي خوف أصحابه من قوله: عبيد الله.
غير أنه ينبغي أن يعلم الذي أفاد زيادة التقرير إنما هو الوصول من حيث اشتماله على الصلة، فالصلة هي مبعث هذه الفائدة، وكذلك يقال فيما يأتي بعد من النكات.
4-
قصد التفخيم والتهويل في المسند إليه كما في قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} يريد غشيهم ماء غزير لا يقدر كنهه، لهذا عبر عن المسند إليه "بما" الموصولية إذ إن في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يفي به التصريح فيما لو قال: فغشيهم من اليم ثلاثون قامة مثلا ففي الموصول إذًا إشارة إلى أن تفصيل المسند إليه، وبيانه مما لا تفي به عبارة، ولا يحيط به علم2 ومثله قول الشاعر يصف الخمر:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها
…
وفي الزجاجة باق يطلب الباقي3
يريد تفخيم ما ذهب من عقول المعاقرين لها.
5-
تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه، أو من غيره: مثال الأول قول عبدة بن الطيب من قصيدة يعظ بها بنيه:
1 ما ذكرناه من أن الآية مثال لزيادة التقرير هو الظاهر، ولا يبعد أن تكون أيضا لاستهجان التصريح بالاسم، إما لأن العادة جرت باستقباح التصريح بأسماء النساء، أو لأن السمع يمج لفظ زليخاء لكونه مركبا من حروف يستقبح في السمع اجتماعها.
2 لا يقال إن صلة الموصول يشترط فيها أن تكون معهودة للمخاطب ليتعرف المسند إليه باعتبارها والإبهام في الصلة ينافي مقام التعريف، لا يقال ذلك لأن اشتراطهم عهدية الصلة إنما هو في غير مقام التعظيم والتفخيم.
3 ومنه في غير المسند إليه قول دريد بن الصمة:
صبا ما صبا حتى علا الشبب رأسه
…
فلما علاه قال للباطل ابعد
إن الذين ترونهم إخونكم
…
يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1
يقول: إن الذين تظنونهم أصدقاءكم، يتمنون الخير لكم، هم على غير ما تظنون، يودون دماركم، وإيقاع الشر بكم، فأنتم إذًا مخطئون في هذا الظن، والشاهد فيه قوله:"إن الذين ترونهم إخوانكم" حيث أتى بالمسند إليه موصولا لقصد تنبيه المخاطبين2 على خطئهم في ظنهم أن أمثال هؤلاء أصدقاء لهم إذ قد تحقق منهم ما لا يتفق مع هذه الصداقة من تربص الدوائر بهم، بخلاف ما لو صرح بأسمائهم مثلا فقيل: فلان وفلان وفلان يشفي غليل إلخ، فليس في ذلك ما يفيد تنبيههم إلى هذا الخطأ، ومثال ما فيه تنبيه على خطأ غير المخاطب قولك: إن الذي يحسبه محمد صديقه الحميم يغتم لسروره، ويبتهج لحزنه، ويود له ما لا يجب. ففيه من التنبيه على خطأ "محمد" في هذا الحسبان ما ليس في التصريح بالاسم، ومنه قول عروة بن أذينة3:
إن التي زعمت فؤادك ملها
…
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطئها في زعمها.
6-
تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه، وذلك حيث يكون مضمون الصلة حكما غريبا كما في قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه
…
حيوان مستحدث من جماد4
1 "ترونهم" بضم التاء على صورة المبني للمجهول، ولكن على معنى البناء للفاعل وعلى هذا تكون الواو فاعلا وهم مفعولا أولا وإخوانكم مفعولا ثانيا، وأما فتح التاء على أن تكون "ترى" بمعنى تبصر فلا يصح؛ لأنه غير مراد نعم يصح على جعل الرؤية قلبية بمعنى الاعتقاد لكن الرواية تخالفه، والغليل هنا بمعنى الحقد، وتصرعوا من الصرع وهو الإلقاء على الأرض، وهو إما كناية عن الهلاك أو عن الإصابة بالحوادث.
2 منشأ التنبيه كما علمت هو الصلة.
3 هو أحد بني ليث بن بكر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء المدينة ومعدود من الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس.
4 المراد بحيرة الناس فيه اختلافهم في أمر بعثه فقد أطلقت الحيرة وأريد لازمها وهو الاختلاف، إذ يلزم من الحيرة في الشيء الاختلاف فيه=
يقول: إن الذي تحيرت الخلائق فيه أي: اختلف الناس في أمر بعثه، وهل يعاد ثانيا بعد موته أو لا يعاد؟ هو ذلك الحيوان الآدمي المتولد من النطفة، أو طينة آدم -على الخلاف في المراد بالجماد- والشاهد قوله:"والذي حارت البرية فيه" إذ عبر المسند إليه باسم الموصول لتضمن الصلة أمرًا غريبا هو إيقاع البرية كلها في حيرة وارتباك، ومثل هذا الأمر العجيب يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة، ومثله قولك: الذي يقاوم الأسود في مرابضها فلا، والذي يصيد الأفاعي من أعشاشها فلان، وأشباه ذلك مما تضمن أمرا لا يقره الألف والعادة.
7-
الإشارة إلى نوع الخبر المحكوم به على المسند إليه المعبر عنه بالموصول كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} فإن مدلول الصلة -وهو الإيمان والعمل الصالح- ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع، وكقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين ففي مضمون الصلة وهو الاستكبار عن العبادة تلميح وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة، من ذلك قولهم: من صبر وتأنى نال ما تمنى، وقولهم: من استمرأ مرعى الكسل جانبه الأمل، ففي الأول إشارة إلى أن الخبر من نوع الفوز والفلاح، وفي الثاني إشارة إلى أنه من نوع الإخفاق والحرمان، وهكذا يؤتى بالمسند إليه اسم موصول للإشارة به إلى أن الخبر المحكوم به عليه من أي نوع هو؟ أمن
= فلا يقال حينئذ أن كل فريق جازم بما يراه في أمر بعثه فأين الحيرة إذًا؟ ولفظ "حيوان" على حذف مضاف أي: معاده؛ لأن الاختلاف إنما وقع في أمر بعثه لا في ذاته، والمراد بالحيوان المستحدث بنو آدم بدليل سياق الحديث؛ لأن البيت من قصيدة يرثي بها فقيها حنفيا إذ يقول فيها:
وفقيها أفكاره شدن للنعـ
…
ـمان ما لم يشده شعر زياد
فيبعد إذًا أن يكون المراد بالحيوان غير الآدميين كناقة صالح، أو ثعبان موسى عليه السلام كما قيل، ويتعين أن الذي وقعت من أجله الحيرة هو معاده وبعثه من جديد.
نوع الثواب، أو العقاب، أو الفوز، أو الإخفاق، أو نحو ذلك، فيفطن المخاطب من فاتحة الكلام إلى ما تدل عليه خاتمته.
غير أن الإيماء إلى نوع الخبر قد يكون غير ما يهدف إليه المتكلم، وإنما يكون هدفه شيئا آخر يتوسل إليه بهذا الإيماء أي: يجعله وسيلة إليه، وهذا الغرض هو التعريض بتعظيم شأن الخبر، أو التعريض بإهانته1.
فمثال ما فيه تعريض بتعظيم شأن الخبر قول الفرزدق يفتخر على جرير بن عطية.
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتا2 دعائمه أعز وأطول
يقول: إن الذي رفع السماء "ذلك البناء العظيم" بنى لنا مجدا وشرفا لا يطاولهما شيء، وجعل قبيلتنا سيدة القبائل، ورمز فخارها، أما أنت يا جرير فلا مجد فيك ولا شرف، والشاهد فيه قوله:"إن الذي سمك السماء" فإن في الموصول تلميحا إلى أن الخبر المحكوم به عليه أمر من جنس البناء والرفعة عند من له ذوق سليم3 لكن ليس هذا هو المقصود بالذات إنما الغرض الذي يهدف إليه الشاعر متوسلا بهذا الإيماء هو التعريض بتفخيم بيته من حيث إن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء،
1 قد يقال: ليس في بيت الفرزدق الآتي تعريض بتعظيم شأن الخبر وإنما فيه تعريض بتعظيم شأن البيت وهو واقع مفعولا لا خبرا، ويجاب بأن تعظيم البيت إنما جاء من كونه بناء من سمك السماء، وإذًا فلا محيد من اعتبار البناء في التعظيم، أو يجاب بأن المراد بالخبر ما وقع في سياق الجملة الخبرية، ولو مفعولا كما في بيت الفرزدق ونحوه في الأمثلة ولا شك أن لفظ "بيتا" في كلام الفرزدق واقع في جملة الخبر وفي سياقه.
2 المراد بيت المجد والشرف وللفرزدق الحق في هذا الفخر؛ لأن قبيلته من قريش فآباؤه أماجد وأشراف بخلاف جرير فإن آباءه من أرذال بني تميم.
3 أي: إن الذوق شاهد على هذا التلميح فإنه إذا قيل "الذي اخترع هذا البناء البديع" فهم منه عرفا أن ما يترتب عليه أمر من جنس الأبنية المتقنة فإذا قيل "ابتدع لي هذا البناء" كان كالتأكيد لما أشير إليه في أول الكلام.
وأي بناء أرفع وأعظم من سماء هي صنع يد ذلك المبدع القادر؟ وإنا لنعلم أن آثار المؤثر الواحد متشابهة لا تختلف، ومثل بيت الفرزدق قولك:"الذي بنى سراي القبة بنى لنا هذه الفلة"1، ففيه من غير شك إشارة إلى التعريض بتعظيم شأن "الفلة" وأنها فخمة البناء دقيقة الصنع، ولو أنه عبر عن هذا التعبير فقيل مثلا: إن الله بنى لنا بيتا2، أو قيل: إن الذي بنى بيت3 فلان بنى لنا فلة، لتعطل جيد العبارتين من تلك الحلية البلاغية لخلو الأولى من الإشارة إلى نوع الخبر، وخلو الثانية من التعريض بتعظيم شأنه، وإن أشير فيه إلى جنسه.
ومثال ما فيه تعرض بإهانته قولك: "إن الذي لا يحسن قرض الشعر أنشأ قصيدة" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من نوع التأليف والإنشاء لكن ليس هذا هو الغرض، وإنما المقصود التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير هذه القصيدة، وأنها من النوع المبتذل الساقط؛ لأنها صنع من لا يحسن التأليف في الشعر.
وقد يكون التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانته، مثال الأول قوله تعالى:{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ففي
صلة الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخيبة والخسران، وذلك أن شعيبا نبي فتكذيبه يفضي إلى هذه الصفة الخاسرة، لكن المقصود من هذا إنما هو الإيماء إلى التعريض بتعظيم شأن شعيب عليه السلام إذ إن تكذيبه أوجب هذا الخسران المبين، ولفظ "شعيب" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر فالتعريض هنا بتعظيم شأن غير الخبر، ومثال الثاني قولهم:"إن من يتبع الشيطان خاسر" ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخزي والخذلان؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من التخاذل والاندحار، غير أن الغرض هو التعريض بتحقير شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يفضي
1 اسم لبناء على صورة شاعت في هذا العصر.
2 قد يقال إن تعظيم البيت يفهم من لفظ الجلالة، وإن لم يكن فيه إيماء إلى نوع الخبر، إلا أن يقال إن التعظيم بواسطة الإيماء أتم منه بدونه.
3 أي: على فرض أن بيت فلان ليس على طراز ممتاز حتى لا يكون فيه تعريض بتعظيم الخبر.
إلى هذا المصير البغيض1 ولفظ "الشيطان" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر، فالتعريض إذًا بالتهوين من شأن غير الخبر، ومثله قولك:"إن من لا يحسن معرفة فن الأدب قد صنف فيه" ففي الموصول مع صلته إيماء إلى أن الخبر من نوع ما يتعلق بالأدب، وفي ذلك الإيماء تعريض بأن مصنفه من النوع المبتذل؛ لأنه عمل من لا يحسن تعاطي الأدب.
غير أنه قيل: إن منشأ تعظيم شأن الخبر أو إهانته إنما هو الموصول مع صلته، وإذًا فلا مدخل للإيماء إلى نوع الخبر في التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدليل وجود التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدون ذلك الإيماء في قولنا:"بنى لنا بيتا الذي سمك السماء"، وقولنا "أنشأ قصيدة من لا يحسن قرض الشعر" بتقديم المسند فيهما، فإن التركيبين بلا شك مفيدان للتعريض بتعظيم شأن الخبر في الأول، وإهانته في الثاني في حين أن لا إشارة فيهما لنوع الخبر؛ لأن الإشارة إنما تكون حيث يجعل الموصول مقدما، وإذ ثبت أن ليس للإيماء دخل في التعريض بالتعظيم كما وضح لك من المثالين المذكورين. فكيف يتوسل به ويجعل ذريعة إليه؟
وأجيب بأن التعريض بالتعظيم أو الإهانة المستفاد من المثالين المذكورين إنما أفاده مجموع الكلام، ومثل هذا لا يحتاج لإيماء إلى نوع الخبر، وكلامنا في التعظيم أو التحقير المستفادين من الوصول وصلته فقط، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى التوسل إليهما بالإيماء المذكور، فإن تعظيم شعيب عليه السلام في الآية السابقة إنما استفيد من الصلة لما فيها من الإيماء إلى نوع من الخبر بدليل أنه لو بني على الصلة شيء غير المومئ إليه، بأن رتب عليها غير الخسران، فقيل مثلا: الذين كذبوا شعيبا أبناء قبيلة كذا لم يستفد منه تعظيمه، على أن استفادة التعظيم أو الإهانة من الصلة بواسطة الإيماء كما في بيت الفرزدق، أو آية شعيب لا تنافي استفادتهما من مجموع الكلام كما في المثالين المذكورين.
1 قد يقال إن إهانته تفهم من العلم بقبح اتباعه بلا حاجة إلى إيماء، ويجاب بأن حصول الإهانة مع الإيماء أتم منه بدونه.
تنبيه:
قد يكون في الموصول إيماء إلى نوع الخبر على نحو ما تقدم، وهو -مع ذلك- بمثابة الدليل على تحقيق الخبر وتثبيته في ذهن السامع، وذلك إنما يكون حيث تصلح الصلة دليلا على وجود الخبر كما في قول الشاعر يشكو ويتوجع من جفاء حبيبه وهجره:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
…
بكوفة الجند غالت ودها غول1
يقول: إن التي نزعت إلى الكوفة، واتخذت بها موطن إقامة دائمة تصرمت حبال ودها، وانحلت عرا العلاقة بيني وبينها، والشاهد فيه تعبيره بالموصول وصلته إذ قال:"إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند" فإن فيه إشارة إلى أن الخبر الآتي بعد من نوع زوال المحبة، وانقطاع المودة حيث قال: غالت ودها غول؛ لأن الإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره -في العادة- إلا إذا كان كارها لأهله، راغبا عنهم، ومع ما في الصلة من هذه الإشارة هي كالدليل على ثبوت هذا الجفاء، وانصراف قلب محبوبه عنه، وإلا فكيف استساغ لنفسه فراق محبه، واتخذ ذلك البلد النائي موطن إقامة؟ وهذا المعنى مفقود في مثل قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا إلخ" فهو -وإن كان فيه إشارة إلى أن الخبر من نوع البناء- لا دليل فيه على ثبوت هذا البناء وتحققه إذ لا يلزم عقلا، ولا عرفا من سمك السماء بناء البيت المذكور؛ لأن رفع السماء ليس علة لبناء البيت، بخلاف ما نحن فيه فإنه يلزم عادة من المهاجرة إلى الكوفة، وضرب البيت بها للإقامة فيه زوال المحبة وانصرام حبل المودة، ومثل البيت المذكور قولهم:
1 ضرب البيت في الأصل أن تشد حباله بالأوتاد، وهو كناية عن الإقامة من باب الانتقال من الملزوم إلى اللازم "ومهاجرة" حال من فاعل "ضربت" أفادت أن الكوفة ليست بلدها الأصلي، والكوفة إحدى المصرين بالعراق وإضافتها إلى الجند لإقامة جند كسرى بها فالإضافة لأدنى ملابسة "وغالت" أهلكت والغول بمعنى المهلك أي: اغتالت ودها الغوائل، وقد أنث الفعل؛ لأن الغول مؤنث سماعا ولفظ البيت خبر والمعنى على إنشاء التحسر.