المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إيراد المسند إليه منكرا: - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٤

[حامد عونى]

الفصل: ‌إيراد المسند إليه منكرا:

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزلها في القرائب1

يقول: إن المرأة الحمقاء لا تتهيأ في الصيف للشتاء بإعداد الغزل حتى إذا ما طلع الكوكب المذكور في بدء الشتاء سحرا وزعت غزلها على قريباتها ليغزلنه، والشاهد قوله:"إذا كوكب الخرقاء" إذ قد أضيف المسند إليه إلى "الخرقاء" لاعتبار لطيف طريف، وهو الإشارة إلى أن الإهمال والتكاسل ديدنها وعادتها، وأنها غافلة عن القيام بشئونها، ولا تفيق إلا على ضوء هذا النجم، وكأنما خلق لأجلها، إلى غير ذلك من دواعي الإضافة كالاستهزاء في قوله تعالى:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . وكغير ذلك.

1 "الخرقاء" الحمقاء "وسهيل" بدل من كوكب، وهو نجم يطلع في بدء الشتاء وقت السحر "وأذاعت" وزعت وفرقت.

ص: 125

‌إيراد المسند إليه منكرا:

يؤتى بالمسند إليه نكرة لدواع أهمها ما يأتي:

1-

أن يكون القصد بالحكم إلى فرد غير معين من الأفراد التي يصدق عليها مفهوم اللفظ1، إما لأن الغرض لم يتعلق بتعيينه وإن كان معينا بل المقصود أن الحكم لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، وأما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف من علمية أو صلة، أو نحو ذلك، فمثال الأول قوله تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى 2} أي: رجل واحد، لا رجلان، ولا رجال فقد أتى بالمسند إليه منكرا للقصد فيه إلى فرد ما من أفراد مفهوم لفظ "رجل" لأن حكم المجيء لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، ومثال الثاني قولك: "جاء هنا رجل

1 اعلم أن دلالة النكرة على الفرد ظاهرة إن قلنا أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر، وأما إن مشينا على رأي من قال إنها موضوعة

للحقيقة فدلالتها على الفرد باعتبار الاستعمال الغالب؛ لأن الغالب

استعمالها في الفرد بقرينة المقام.

2 هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون وأراد بالمدينة مدينة فرعون وكانت تسمى "منف" وليست منف المشهورة الآن بل هي بلدة كانت بإقليم الجيزة فخربت بدعوة من موسى عليه السلام.

ص: 125

يسأل عنك" تقول ذلك إذا لم تعرف اسمه ولا شيئا يتعلق به فالقصد فيه حينئذ إلى فرد ما من أفراد مفهوم اللفظ وهو مطلق رجل، ومثله قولك1: "لقيني رجلان، وتبعني رجال"، فإن القصد في الأول إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "المثنى" وهو مطلق اثنين، والقصد في الثاني إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "الجمع" وهو مطلق جماعة.

2-

أن يكون القصد بالحكم إلى نوع خاص من أنواع الجنس المنكر كما في قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فقد نكر المسند إليه؛ لأن القصد فيه إلى نوع خاص من أنواع الأغشية غير ما يتعارفه الناس ذلك هو غطاء التعامي عن الحق أي: الإعراض عن آيات الله، وليس المراد فردا واحدا من أفراد الغشاوة بأن يكون المعنى: وعلى أبصارهم غشاوة واحدة لا غشاوتان مثلا؛ لأن الفرد الواحد لا يقوم بالأبصار المتعددة، ومنه قول الشاعر:

لكل داء دواء يستطب به

إلا الحماقة أعيت من يداويها

أي: لكل داء نوع خاص من أنواع الأدوية.

ويرى السكاكي أن التنكير في الآية للتعظيم بمعنى: وعلى أبصارهم غشاوة عظيمة ذلك؛ لأنها تحجب أبصارهم حجبا تاما، وتحول دون إدراكها الأدلة إلى معرفة الله تعالى، قالوا: وهذا الرأي أولى بالرعاية؛ لأن المقصود بيان أنهم بعيدون عن الإدراك أشد البعد، والتعظيم أدل على ذلك، وأوفى بتأديته، غير أن هذا المعنى لا يتنافى مع قصد النوعية؛ لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن آيات الله نوع خاص من مطلق غشاوة.

3-

قصد إفادة تعظيم المسند إليه أو تحقيره، وأنه بلغ في رفعة الشأن حدا فوق متناول الإدراك، أو انحط إلى درجة لا يعتد بها، ولا يلتفت إليها، فمثال التعظيم قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي: حياة عظيمة إذ إن في القصاص منعا لهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد،

1 أي: لا فرق في ذلك بين المفرد والمثنى والجمع.

ص: 126

ومثال التحقير قولهم: "شعور بالكرامة منجاة من مواقف الذل"، وقد اجتمعا في قول مروان بن أبي حفصة:

له حاجب في كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب1

يقول: إنه من النزاهة والطهر بحيث يحول دون ما يشينه حجاب عظيم2 وهو -إلى جانب هذا- في متناول أيدي العفاة: ما استقصاه ذو لبانة إلا قضى حاجته وسد خلته، والشاهد في لفظي "حاجب" في شطري البيت حيث أتى بهما منكرين، أما في الشطر الأول فلقصد تعظيم الحائل دون ما يشينه، وأنه في حصن حصين من كل ما يزري به، وأما في الشطر الثاني فلقصد تحقير ما يحول بينه وبين قاصديه كناية عن أن بابه مفتوح على مصراعيه لمن يريد الولوج، فليس هناك أدنى مانع يحجبهم عن فضله ومعروفه3، ومثله قول الشاعر:

1 "يشينه" من الشين هو القبح، "والعرف" المعروف والإحسان غير أن الحجب يتعدى إلى المفعول الثاني بعن، وأما المفعول الأول فيتعدى إليه بنفسه يقال: حجبت فلانا عن الأمر، وإذا "فحاجب" الأول جاء على أصله؛ لأن صلته محذوفة "وفي كل أمر" ظرف مستقر صفة لحاجب أي: له حاجب عن ارتكاب ما لا يليق في كل أمر يشينه، أو تجعل "في" بمعنى "من" وأما "حاجب" الثاني فعلى خلاف الأصل؛ لأن العرف مفعوله الثاني والطالب له مفعوله الأول، والحاجب إنما يحجب الطالب عن العرف لا الممدوح عن الطالب كما هو ظاهر الشطر الثاني من البيت ففي العبارة قلب قضت به الضرورة، وقبل هذا البيت:

فتى لا يبالي المدلجون بناره

إلى بابه ألا تضيء الكوكب

يصم عن الفحشاء حتى كأنه

إذا ذكرت في مجلس القوم غائب

2 أخذ معنى التعظيم من كون المقام مقام مدح، وأنه إذا هم بفعل ما لا ينبغي حال دونه مانع، وإذا طلب منه معروف لم يحل دون بذله مانع ضئيل فضلا عن التعظيم فهو في غاية الكمال.

3 قيل يحتمل أن يكون التنكير في الشطر الثاني لقصد الفردية كما في نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بل هذا الاحتمال أولى لدلالة التركيب على نفي جميع الأفراد مطابقة، ورد هذا بأن حمل التنكير فيه على التحقير أولى لما فيه من سلوك طريق البرهان، وهي إثبات الشيء بدليل لاستفادة انتفاء الحاجب العظيم من انتفاء الحقير بالطريق الأولى مع حسن مقابلة تنوين التعظيم في الشطر الأول بتنوين التحقير في الثاني وهو محسن بديعي.

ص: 127

ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

فقد نكر "جانب" في الشطرين وأريد بالتنكير في الأول التعظيم، وفي الثاني التحقير.

4-

قصد إفادة التكثير أو التقليل، فمثال التكثير قولهم:"إن له لإبلا وإن له لغنما" أتى بالمسند إليه في الجملتين نكرة لقصد إفادة أن لديه عددا كبيرا من الإبل والغنم، وإنها من الكثرة بحيث لا يمكن الإحاطة بها والوقوف على مقدارها1، ومثاله في التقليل قولهم:"كلمات تتضمن حكما خير من سفر ينضح هراء" فالمسند إليه "كلمات" وقد نكر لقصد إفادة أنه قليل، وعليه قوله تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: شيء قليل من رضوان الله خير مما ذكر في صدر هذه الآية2 من الجنة ونعيمها، غير أن وصف الرضوان بالقلة مجازا تنزيلا للرضا منزلة المعدود باعتبار تعدد ما يتعلق من مظاهره كعدم الفضيحة يوم العرض، والأمن من العذاب، والخلود في دار السلام، وغير ذلك وإلا فإن الرضى معنى من المعاني، لا يقبل القلة والكثرة، والتفاوت فيه إنما هو بحسب الضعف والقوة ليس غير3.

ولا يخطر بالبال أن التعظيم والتكثير شيء واحد، وأن التحقير والتقليل كذلك فبين هذه المعاني من الفرق ما لا يخفى، ذلك أن التعظيم يراعى فيه الحال والشأن كعلو المرتبة، وسمو القدر، وبعد الدرجة أما

1 استفيد التكثير من أن المقام للمدح وإنما أفاد التنكير التكثير مع أن الأصل في النكرة الإفراد وهو يتنافى مع التكثير؛ لأن التنكير يشعر بعدم الإحاطة بالمنكر، وهذا يدل على أنه كثير بالغ الكثرة.

2 هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} .

3 وإنما كان الرضوان وإن قل أعظم من كل ما في الجنة من نعيم؛ لأن المراد بالرضوان إعلامهم به ولا شك أن مجرد إعلامهم به أكبر من كل نعيم يأتي بلا إعلام؛ لأن لذة النفس بشرف كونها مرضية عند ملك الملوك تفوق كل لذة، وقد تعلل أكبرية الرضوان بأن ما سواه من صنوف النعيم إنما هو من ثمراته ونتائجه.

ص: 128

التكثير فالمراعى فيه الكميات والمقادير كالمعدودات، والمكيلات، والموزونات، وكذلك يقال في الفارق بين التحقير والتقليل.

وقد اجتمع التعظيم والتكثير في قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} نكر المسند إليه وهو "رسل" لقصد إفادة التعظيم أو التكثير باعتبارين مختلفين، فعلى اعتبار أنهم ذوو شأن عظيم، يحملون آيات عظاما لمن أرسلوا إليهم كان التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أن عددهم كبير كان التنكير للتكثير، وقد اجتمع التحقير والتقليل أيضا في قولهم:"لي في هذا المال نصيب" أي: حقير قليل فالتنكير للتحقير إن روعي من حيث الشأن، وهو للتقليل إن روعي من حيث العدد، ومنه قولهم: عطاء كريم خير من عطايا تتبعها أذى أي: عطاء قليل أو ضئيل.

5-

أن يمنع من التعريف مانع كما في قول الشاعر:

إذا سئمت مهندده يمين

لطول العهد بدله شمالا

نكر المسند إليه وهو لفظ "يمين" تحاشيا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح فيما لو قال "يمينه" وهو اعتبار لطيف.

6-

أن يراد إخفاؤه عن المخاطب خوفا عليه كما تقول لآخر: "قال لي رجل إنك تنكبت محجة الصواب" فتخفي اسمه لئلا يلحقه أذى من المخاطب إذ نسب إليه ما لا يحب، إلى غير ذلك من دواعي التنكير1.

1 إن ما تقدم من معاني الإفراد، وهي: النوعية، والتعظيم، وبالتحقير وغيرها ليست خاصة بتنكير المسند إليه، بل تأتي فيه، وفي غيره، وهاك أمثلة منها، فمن تنكير غير المسند إليه للإفراد أو النوعية قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فقد نكر كل من "دابة وماء" وهما غير مسند إليهما لقصد الإفراد أو النوعية، فالمعنى على الإفراد: والله خلق كل فرد من أفراد الدواب من فرد خاص من أفراد المياه، وهو الماء الخاص بأبيه، فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة الفردية، والمعنى على النوعية: والله خلق كل نوع من أنواع الدواب من نوع خاص من أنواع المياه، وهو نوع النطفة المختصة بذلك النوع من الدواب فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة النوعية، ومن تنكيره للتعظيم قوله تعالى: {فَأْذَنُوا =

ص: 129