الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللازم عند صاحب هذا الرأي كون الذات الكافرة مستلزمة له، ولم يقل بأن مثل هذا القول كناية أحد1.
الثالث: أن صاحب المفتاح وغيره مثلوا لهذه الكناية بقول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وليس من شك أن المراد "بأبي لهب" في الآية الشخص المعروف المسمى أبا لهب، وهو "عبد العزى" لا كافر آخر وإلا كان استعارة، لا كناية، كما بينا، وإذا كان المراد به عبد العزى، لا كافرا آخر لم يكن كناية عن الجهنمي إلا على الرأي الأول القائل بأن اللفظ مستعمل في معناه العلمي ملاحظا فيه المعنى الإضافي لينتقل منه إلى لازمه، أما على الرأي الثاني فلا يكون كناية إلا إذا أريد به شخص آخر غير "عبد العزى" إذ اللفظ عنده غير مستعمل في معناه الأصلي.
فاستشهاد السكاكي بالآية في بيان معنى الكناية دليل على فساد الرأي الثاني، وصحة الرأي الأول.
1 قد يجاب عن هذا بأنه لا يلزم من فهم الجهنمي من "أبي لهب" فهمه "من أبي جهل" مرادا به كافر، أو من لفظ "هذا" مشارا به إلى كافر لعدم اشتهار المعنى الذي وضع له اللفظ بذلك اللازم بخلاف أبي لهب فإنه اشتهر بكونه جهنميا نظرا إلى معناه الأصلي وهو كونه أبا للنار بمعنى أنه وقودها فقياس أبي جهل على أبي لهب قياس مع الفارق.
إيراد المسند إليه اسم إشارة:
يؤتى بالمسند إليه1 اسم إشارة لدواع يقصدها البلغاء أهمها ما يلي:
1-
أن يقصد تمييز المسند إليه2 أكمل تمييز3 لاقتضاء الحال ذلك كأن يكون المقام مقام مدح بإجراء أوصاف الرفعة، ونعوت المحمدة
1 يعني لفظه لأنه الذي يعرف.
2 أي: معناه لأنه المراد تمييزه.
3 هذا مقتضى أن اسم الإشارة أعرف المعارف وهو مخالف لما هو مقرر عندهم من أن أعرف المعارف الضمائر ثم الأعلام ثم المبهمات، والجواب أن دلالته على أكملية التمييز لا تقتضي أعرفيته؛ لأن دلاته على الأكملية إنما هي بواسطة الإشارة الحسية لا من أصل الوضع كما في الضمير والعلم.
عليه، أو كأن يكون المسند إليه مختصا بحكم بديع، فإن تمييزه بالإشارة حينئذ أعون على كمال المدح، أو على كمال التنويه بمن اختص بذلك الحكم الغريب، مثال الأول قول ابن الرومي الشاعر العباسي:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
…
من نسل شيبان بين الضال والسلم1
يمدح الشاعر هذا الرجل بأنه فذ في خلقه وخلقه، لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء، إذ يسكنون البوادي2، وهي لا تخضع لسلطان حاكم، ولا تدين لسلطة قانون، والشاهد فيه قوله:"هذا أبو الصقر" حيث عبر عن المسند إليه باسم إشارة لقصد تمييزه كاملا اقتضاه مقام المدح إذ وصفه بالانفراد في الحسن، وبالعزة والمنعة، ومثله قول الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى
…
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
1 "أبو الصقر" خبر عن اسم الإشارة أو بدل منه أو عطف بيان، "وفردا" منصوب على المدح أو على الحال من الخبر وسوغ مجيء الحال منه كونه مفعولا في المعنى لمعنى اسم الإشارة أو لمعنى ها التنبيه لتضمن كل منهما معنى الفعل، وهو أشير أو أنبه أي: أشير إليه أو أنبه عليه حال كونه منفردا بالمحاسن على حد قوله تعال {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} و"من نسل شيبان" حال ثانية من صاحب الحال الأول، أو خبر ثان ذكر بيانا لنسبه بعد ذكر حسبه "وشيبان" اسم قبيلة، وبين الضال والسلم حال من نسل شيبان وهو الأوجه "والضال" بتخفيف اللام جمع ضالة، وهو شجر السدر "والسلم" جمع سلمة بالتحريك وهو شجر ذو شوك عظيم يسمى شجر العضاة.
2 يحتمل أن يكون المراد بالوصف بسكنى البادية الإشارة إلى وصفهم بكمال البلاغة والفصاحة، من حيث إنهم لا يخالطون طوائف العجم؛ فلغاتهم سليمة نقية لا تشوبها عجمة، غير أن المعنى الأول أولى أن يكون مرادا تصديقا لقول المعري....
لا يحضرون وفقد العز في الحضر
ومثال الثاني قول الراوندي:
كم عاقل أعيت مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
…
وصير العالم النحرير زنديقا
يقول: كثير من ذوي الرأي والحجا ضاقت بهم سبل العيش الرغيد، وسدت في وجوههم مسالك الحياة الهنيئة، بينما نرى الكثير من ذوي الجهل في بسطة من العيش، وسعة في الرزق، وهذا الأمر لبعده في بادئ الرأي عن مظان الحكمة والصواب، وخروجه عن العرف المألوف، خليق أن يترك العقول حائرة، ويجعل العالم الراسخ في العلم زائع العقيدة، مسلوب الرشاد، والشاهد قوله:"هذا الذي" حيث أتى بالمسند إليه اسم إشارة لقصد تمييزه تمييزا كاملا لما اختص به من هذا الحكم البديع، وهو ترك العقول حائرة، والعالم النحرير زنديقا.
2-
أن يقصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفتخر عليه:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يريد: أن جريرا لا يستطيع أن يأتي بمثلهم آباء ذوي مجد وحسب إذا جمعتهما مجامع الفخر والمساجلة، والشاهد قوله:"أولئك آبائي" حيث أورد المسند إليه اسم إشارة قصدا إلى أن يصمه بوصمة الغباوة، وأنه لا يدرك إلا المحس بحاسة البصر، ولو أنه ذكر آباءه بأسمائهم، فقال: فلان، وفلان وفلان آبائي لم يكن فيه ما أراده من التعريض عند من له ذوق سليم، والأمر في قوله:"فجئني" أمر تعجيز على حد قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أي: إنك لن تستطيع يا جرير أن تأتي بمثلهم في مناقبهم إذا جمعتنا مجامع المساجلة يوما ما1.
1 لا يبعد أن تكون نكتة التعبير باسم الإشارة في بيت الفرزدق تمييزهم أكمل تمييز أو تعظيم شأنهم على ما سيأتي، بل قد يبدو ذلك واضحا.
3-
أن يقصد بيان حال المسند إليه من القرب، أو البعد، أو التوسط فيقال:"هذا" لمشار إليه قريب، ويقال:"ذلك" لمشار إليه بعيد، ويقال "ذاك" لمشار إليه في مكان وسط، لا هو بالقريب ولا بالبعيد.
غير أنه قيل: إن كون "هذا" للقريب، وذلك للبعيد، وذاك للمتوسط بحث خاص بعلماء اللغة؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني اللغوية، فلا ينبغي أن يتناوله بحث علماء المعاني؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني الزوائد على أصل المعنى الذي هو ثبوت الحكم للمسند إليه أيا كان حاله.
والجواب: أن لأسماء الإشارة جهتين، فاللغة تبحث فيها من جهة معانيها الوضعية أي: من حيث إن "هذا" موضوع للقريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، "وذاك" موضوع للمتوسط، وعلم المعاني يبحث فيها من جهة المعاني الثانوية أي: من جهة أنه يؤتى "بهذا" إذا قصد بيان قرب المشار إليه بأن كان المقام يقتضي ذلك، ويؤتى "بذلك" إذا أريد بيان بعد المشار إليه لاقتضاء الحال إياه وهكذا، فالبحث فيها عند علماء اللغة من حيث الوضع، وعند علماء المعاني من جهة اقتضاء الحال لها، فوضح الفرق بينهما.
4-
أن يقصد تعظيم المسند إليه بالقرب تنزيلا لقربه من النفس، ومخالطته للروح منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
ووجه دلالته على التعظيم هو أن المحبوب يكون عادة مخالطا للنفس، حاضرا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فتعظيمه حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا الاعتبار.
5-
أن يقصد تحقير المسند إليه بالقرب تنزيلا لدنو منزلته، وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} قاله أبو جهل قبحه الله مشيرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقصد إهانته "في زعمه" لعنة الله عليه، ومثله قوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} .
ووجه دلالته على التحقير هو أن الحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل يكون قريب الوصول إليه، سهل التناول، مبتذلا، واقعا بين أيديهم وأرجلهم، فتحقيره حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير.
6-
أن يقصد تعظيم المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعد درجته، وعلو مرتبته منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لم تقل "هذا" مع أنه كان حاضرا في المجلس رفعا لمنزلته في الحسن، ومثله في قوله تعالى:{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فالإشارة فيه "بذلك" لقصد تعظيمه وأنه بعيد المنزلة.
ووجه دلالته على ذلك أن العظيم عادة يتأبى على الناس، ويبعد عنهم لعزته ورفعة شأنه، فتعظيمه حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا الاعتبار.
7-
أن يقصد تحقير المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعده عن ساحة عز الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على التحقير، كما تقول لحاضر مجلسك:"ذلك الرجل وشى بي عند الأمير". ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} .
ووجه دلالته على ذلك هو أن الحقير عادة شأنه ألا يلتفت إليه، ولا يعرض للخاطر لنفرة النفس منه. فتحقيره حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا التقدير.
فائدة: علمت أن "ذلك" موضوع للبعد المحس بحاسة البصر، وقد يشار به للغائب عن حاسة البصر، سواء كان ذاتا أو معنى تنزيلا
للبعد عن العيان منزلة البعد عن المكان، فمثال الأول قوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، ومثله قولك:"جاءني رجل فقال لي ذلك الرجل كذا"، تحكي أمره بعد غيبته، فالمشار إليه في كلا المثالين ذات غائبة عن حاسة البصر، غير أنه في الأول مما لا يمكن إدراكه بحاسة الإبصار، وفي الثاني مما يمكن إدراكه ومثال الثاني قولك:"وفى محمد بوعده فسرني منه ذلك الوفاء" فإن الوفاء معنى غائب عن حاسة الإبصار، ومنه ما حكي عن سيدنا الخضر مخاطبا نبينا موسى عليه السلام إذ قال له:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، يشير بذلك إلى الأمور التي حملته على ما فعل من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار، والاستعمال المذكور من قبيل المجاز بالاستعارة1.
8-
أن يقصد التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بعد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . فالمشار إليه في الآية بأولئك هم "المتقون" وقد ذكر عقيبه أوصاف هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق، والإيمان بما أنزل، والإيقان بالآخرة، وإنما أشار إليهم، "بأولئك" مع أن المقام للضمير لتقدم المرجع تنبيها على أن المشار إليهم أحقاء، من أجل هذه الأوصاف المذكورة، بما يرد بعد اسم الإشارة من الفوز بالهداية في العاجلة، وبالفلاح في الآجلة، ومن هذا القبيل قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه
…
ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
…
تيمم كبراهن ثمت صمما
ويغشى إذا كان يوم كريهة
…
صدور العوالي وهو مختضب دما
1 فقد شبه غير المدرك بالبعيد بجامع عدم إدراك كل بحاسة البصر ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه.
إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت
…
وولي هدان القوم أقبل معلما
فذلك أن يهلك فحسنى ثناؤه
…
وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما1
فالمشار إليه "بذلك" هو "صعلوك" ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، إلى غير ذلك مما ذكره بعد، ثم عقب ذلك بقوله: فذلك أن يهلك إلخ فكان في ذلك تنبيه على أن المشار إليه جدير من أجل هذه الخصال بما ذكر بعد اسم الإشارة.
ووجه التنبيه على ما ذكر أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية هم الذوات، مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يؤذن بعلية الوصف أي: إن الأوصاف السابقة هي العلة في الاستحقاق، أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في العلية، وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة لهذا كان المقام للإشارة، لا للضمير.
تنبيه:
ينبغي أن يعلم أنه ليس بشرط في هذه النكتة أن تتعدد أوصاف المشار إليه، ولا أن تأتي عقيبه، كما لا يشترط أن يكون ما هو جدير به من الجزاء واردا بعد اسم الإشارة، بل يصح أن يكون المشار إليه موصوفا بوصف واحد، وأن يكون سابقا عليه، كما يجوز أن يكون ما هو خليق به من الجزاء سابقا على اسم الإشارة، فيقال مثلا:"جاءني الكامل محمد ويستحق الإكرام هذا" فالوصف واحد لا تعدد فيه وهو لفظ "الكامل"، وقد تقدم على موصوفه الذي هو "محمد"، وما هو جدير به من استحقاق الإكرام ذكر قبل اسم الإشارة، فدل ذلك على أن ما ذكر من هذه الأمور
1 صعاليك العرب فقراؤهم ومتلصصوهم، ويساور همه يواثبه، والهم العزيمة، وأعرضت ظهرت. والعوالي الرماح والهدان الأحمق والمعلم بفتح اللام المخففة الموسوم بسيما الحرب.