الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الذي حسنت سيرته طابت سريرته، والذي صفا قلبه صدق حبه، فالموصول في المثالين مشير إلى نوع الخبر، وهو كالدليل على ثبوته وتقرره.
إيراد المسند إليه معرفا بأل:
يؤتى بالمسند إليه محلى بأل للغرضين الآتيين بعد:
1-
الإشارة بها إلى معهود خارجا، وهي التي يكون مدخولها معينا في الخارج، واحدا كان ذلك المعين، أو اثنين، أو جماعة، وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي -وهي باعتبار مدخولها ثلاثة أقسام- لام العهد الخارجي، ولام العهد الكنائي ولام العهد العلمي، والأخيرة قسمان: علمي حضوري، وعلمي فقط على ما سيأتي.
فالأولى: أن يتقدم لمدخولها ذكر صريح، وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الصريحي كما في قولك:"صنعت في رجل جميلا فلم يرع الرجل هذا الجميل" فإتيان المسند إليه وهو "الرجل" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا صريحا لتقدم ذكره صراحة في قوله: "صنعت في رجل جميلا" وكقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ، فقد ذكر المصباح والزجاجة منكرين، ثم أعيدا معرفين باللام للغرض السابق، ومنه قوله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} غير أن مدخول اللام هنا ليس مسندا إليه، والكلام في أحوال المسند إليه.
والثانية: أن يتقدم لمدخولها ذكر كنائي أي: غير مصرح به، وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الكنائي كما في قوله تعالى:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى 1} ،
1 للمفسرين في هذه الجملة رأيان: فقيل إنها من كلام امرأة عمران وفيه قلب أي: ليس الأنثى كالذكر في التحرير، وهو من تتمة تحسرها على وضعها أنثى وعدم مساواتها الذكر في التحرير. وعلى هذا تكون اللام فيه للجنس فلا تصلحان مثالين للام العهد، وقيل إنه كلام الله تسلية لها، والمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت بل الأنثى التي وهبتها أرفع مرتبة من الذكر الذي طلبته، وعلى هذا تكون اللام فيها للعهد.
فإتيان المسند إليه1 وهو لفظ "الذكر" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا كنائيا لتقدم ذكره كناية في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} . فإن لفظ" ما" مبهم يعم بحسب وضعه الذكور والإناث لكن التحرير، وهو أن يعتق الولد ليكون وقفا على خدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث، فلفظ "ما" حينئذ كناية2 عن الذكر باعتبار اختصاص التحرير بالذكور، وأما لفظ "الأنثى" فاللام فيه للإشارة إلى ما سبق ذكره صريحا في قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فهي من القسم الأول من أقسام اللام غير أنه ليس مسندا إليه؛ لأنه مجرور بالكاف خبر "ليس" فلا شاهد فيه.
والثالثة: ألا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقا، لا صريحا ولا كناية ولكن للمخاطب علم به، وهذه اللام على قسمين كما ذكرنا سابقا.
الأول: أن يكون مدخولها حاضرا في المجلس، وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي الحضوري" كما تقول في شأن رجل حاضر في المجلس:"أبدع الرجل في كلامه" لمخاطب سبق له علم به.
والثاني: أن يكون مدخولها غائبا عن المجلس، وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي فقط" كأن يقال في شأن رجل غائب عن المجلس:"خطب الرجل فجود في خطابه" لمن سبق له به علم، فإتيان المسند إليه في القسمين محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا علميا لتقدم علم المخاطب به.
1 إنما كان مسندا إليه؛ لأنه اسم "ليس" فهو في الأصل مبتدأ.
2 يحتمل أن يكون المراد الكناية بالمعنى اللغوي، وهو الخلفاء؛ لأن فهم الذكر من لفظ ما الصادق بالذكر والأنثى فيه خفاء لعدم التصريح وإن كان قوله محررا مبينا للمراد، ويحتمل أن المراد بالكناية المصطلح عليها، وإن المطلوب بها موصوف وهي أن تختص صفة بموصوف معين فتذكر تلك الصفة ويراد بها الموصوف، فالتحرير من الصفات المختصة بالذكور فهو إذًا ملزوم والذكر لازم له، وقد أطلق اسم الملزوم وهو لفظ "ما في بطني" الموصوف بالتحرير وأريد اللازم وهو الذكر.
2-
الإشارة بها إلى الحقيقة وهي التي يكون مدخولها موضوعا
للحقيقة والماهية وهي باعتباره أقسام ثلاثة أيضا: لام الحقيقة1 ولام العهد الذهني ولام الاستغراق، والأخيرة قسمان على ما سيأتي بعد.
فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به الحقيقة نفسها، أي: الماهية من حيث هي بغض النظر عما ينطوي تحتها من أفراد كما في قولهم: "الرجل خير من المرأة"، وقولهم: الحرير يفضل القطن، وقولهم: الدينار خير من الدرهم، وما أشبه ذلك مما يكون المقصود فيه الحكم على الحقيقة نفسها بمعنى أن حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن. وحقيقة الدينار خير من حقيقة الدرهم. وهذا لا ينافي أن بعض أفراد حقيقة المرأة يفضل بعض أفراد حقيقة الرج كالسيدة عائشة أم المؤمنين، وأن بعض أفراد حقيقة القطن يفضل بعض أفراد حقيقة الحرير كأن يكون الحرير من النوع الرديء، وأن بعض أفراد حقيقة الدرهم أفضل من بعض أفراد حقيقة الدينار كأن يكون في معدن أحد الدنانير غش، وهكذا
…
فالمنظور إليه في المفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرد، وليس من شك أن حقيقة الرجل إذا قطعنا النظر عن الأفراد تفضل المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن، وحقيقة الدينار تفضل حقيقة الدرهم، ومن ذلك قولهم:"أهلك الناس الدرهم والدينار" فأل فيهما للإشارة إلى حقيقتي الدرهم والدينار؛ لأن الحكم المذكور إنما هو على جنس هذين النقدين، لا على نقد بعينه كما هو ظاهر، ومنه قول أبي العلاء:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
…
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
أي: حقيقة الخل تشبه حقيقة الماء فيما ذكر. وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ، يريد حقيقة الماء.
والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة
1 وتسمى أيضا لام الجنس ولا الطبيعة.
لقرينة دالة على ذلك1 مثل ذلك قوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أتى بالمسند إليه معرفا بأل؛ لأن القصد إلى فرد ما من أفراد حقيقة الذئب، والقرينة على ذلك قوله:{أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لأن الحقيقة من حيث هي أمر لا وجود له في الخارج حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وإنما يتحقق ذلك من الأفراد، ولا الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد لاستحالة أن تجتمع الذئاب جميعها على أكله، ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، فتعين أن يكون المراد فردا ما من أفراد الحقيقة2 ومنه قول الشاعر:
ومن طلب العلوم بغير كد
…
سيدركها متى شاب الغراب
فالقصد هنا إلى فرد ما من أفراد حقيقة الغراب بقرينة قوله: "شاب" إذ وصف الشيب من شئون الأفراد، وليس المراد الحقيقة نفسها، ولا هي في ضمن جميع أفرادها، ولا هي من حيث وجودها في فرد معين كما وضح ذلك في المثال قبله، ومن هذا القبيل في غير المسند إليه قولهم:"ادخل السوق" حيث يراد فرد ما من أفراد حقيقة السوق بقرينة قوله: "ادخل" فليس المراد الحقيقة نفسها لاستحالة الدخول في الحقيقة، ولا الحقيقة في ضمن جميع الأفراد لاستحالة دخول الشخص الواحد جميع أفراد السوق- ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد بسوق معينة.
والثالثة: ما يكون مدخولها مرادا به جميع الأفراد المندرجة تحت
1 أي: إن الفرد المبهم مستفاد من القرينة الخارجية لا من المعرف باللام إذ هو موضوع للحقيقة نفسها كما قلنا.
2 قيل: كيف سميت هذه اللام لام العهد الذهني مع أن مدخولها فرد غير معين فلا عهد فيه لا ذهنا ولا خارجا بل هو مبهم، ويجاب بأنه معهود في الذهن باعتباره أحد أفراد الحقيقة والحقيقة معهودة في الذهن بمعنى أنها معلومة متميزة عما عداها من الحقائق فعهديته تبع لعهدية الماهية فصح بهذا الاعتبار اعتباره معهودا ذهنيا وصحت تسمية أل الداخلة عليه لام العهد الذهني.
الحقيقة عند قيام القرينة على ذلك1 ولهذا سميت: لام الاستغراق إذ إن المفاد بها استغراق جميع أفراد الحقيقة -وهذه اللام قسمان- لام الاستغراق الحقيقي، ولام الاستغراق العرفي.
فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب الوضع كما في قولنا: "الغيب يعلمه الله" فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الغيب" وضعا والمعنى: كل أفراد الغيب لا تخفى على الله، وكما في قوله تعالى:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الإنسان" وضعا أي: كل إنسان، ومنه في غير المسند إليه قوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: محيط علما بكل مغيب وكل مشاهد.
والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف2 والعادة كما في قولك: "امتثل الجند أمر الأمير" فإن المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الجند" عرفا أي: جنود مملكته؛ لأن هذا هو المفهوم بحسب العرف، لا جنود الدنيا، إذ ليس في وسع الأمير أن يبسط نفوذه على جنود العالم أجمع عادة، ومنه في غير المسند إليه قولهم:"جمع الأمير الصاغة"3، أي: صاغة مملكته، لا صاغة الدنيا بأسرها.
والقرينة على إرادة الشمول في لام الاستغراق نوعان: حالية،، ومقالية.
فالحالية: كما في نحو ما سبق من قولنا: "الغيب يعلمه الله" فالقرينة
1 أي: على أن ليس القصد إلى الحقيقة من حيث هي ولا من حيث وجودها في فرد مبهم فيكفي في الحمل على الاستغراق وجود القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة من حيث هي، ومن حيث وجودها في بعض الأفراد.
2 المراد العرف العام أما ما كان بحسب العرف الخاص فهو داخل في الاستغراق الحقيقي.
3 أصله صوغه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وهو جمع صائغ، وهذا المثال مبني على القول بأن أل الداخلة على اسم الفاعل الدال على الثبوت والدوام كما في المثال المذكور معرفة لا موصولة.
هنا على إرادة الاستغراق حالية لظهور أن ليس المراد حقيقة الغيب وماهيته إذ ليس ذلك مما استأثر الله بعلمه، ولا أن يكون المراد فردا مبهما أو معينا من أفراد الغيب، فحاشا لله العليم بخفايا الأمور أن يقتصر علمه على بعض الغيوب فتعين إذًا أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب وضعا.
والمقالية: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقرينة هنا على أن المراد عموم الأفراد، لا الحقيقة نفسها، ولا فرد مبهم أو معهود من أفرادها صحة الاستثناء الآتي بعد في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} " الآية"، فهي أمارة العموم1 إذ إن شرط الاستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستثنى، ودخوله فيه فرع عن عمومه الدال على الاستغراق، ولو أريد بالإنسان الحقيقة نفسها لما صح استثناء الأفراد منه لعدم تناول اللفظ هنا، وإن أريد بعض مبهم أو معين لم يصح الاستثناء كذلك لعدم تحقق دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا الدخول -كما قلنا- شرط في صحة الاستثناء فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها الإنسان وضعا.
ومثل الآية ما مثلنا به للاستغراق العرفي من نحو قولنا: "امتثل الجند أمر الأمير"، فالقرينة فيه على أن المراد عموم الأفراد عرفا، لا الحقيقة نفسها ولا فرد مبهم من أفرادها قوله:"امتثل" فإن الحقيقة من حيث هي لا توصف بالامتثال أو عدمه، وإنما ذلك من صفات الأفراد، كما لا معنى أن يقال: امتثل الجند أمر الأمير ويراد فرد مبهم من أفرادهم فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب عرفا.
تنبيهان:
الأول: علم مما سبق أن حمل "أل" التي للعهد الذهني على
1 دلالة الاستثناء على الاستغراق بناء على القول بوجوب دخول المستثنى في المستثنى منه، أما على القول بأنه يكفي في صحة الاستثناء جواز الدخول فلا دلالة للاستثناء على الاستغراق حينئذ.
الفرد المبهم، والتي للاستغراق على جميع الأفراد مشروط بالقرينة الدالة على ما حملتنا عليه أما بدونها فكلتا اللامين محمولة على الحقيقة؛ لأن مدخولها موضوع للحقيقة -كما أسلفنا- وإذًا فالنظر إلى الفرد المبهم "في لام العهد الذهني"، أو إلى جميع الأفراد "في لام الاستغراق" إنما هو بالقرينة لا بالوضع.
الثاني: قلنا إن المعرف بلام العهد الذهني موضوع للحقيقة، وإنما يحمل على الفرد المبهم عند قيام القرينة الدالة عليه، فهو إذًا ذو شبهين من جهتين، يشبه النكرة من جهة المعنى، ويشبه المعرفة من جهة اللفظ.
أما شبهة بالنكرة؛ فلأن مفاد كل منهما غير معين1 ولهذا يعامل معاملة النكرة، فيوصف بالجملة كما توصف النكرة قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
…
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني2
يريد أنه كريم الخلق، بعيد الأناة، لا تنال منه سقطة اللئيم، ولا تستفزه سفاهة الجاهل فهو إذ يسمع من اللئيم ما يسيئه يصدف عنه، محدثا نفسه بأن اللئيم لا يعنيه ولا يقصده، بل يريد غيره3، ويحتمل أن يكون المراد: أنه يصدف عنه غير عابئ به، فلا يعيره أذنا، ولا يقيم له وزنا4 حفظا لكرامته، والشاهد قوله:"يسبني" فإن الجملة هنا صفو "للئيم" لأنه في معنى النكرة إذ إن الشاعر لم يرد لئيما بعينه؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يريده من التمدح بفضيلة الحلم فقد يحلم الإنسان مع شخص،
1 غير أن النكرة تدل على هذا البعض وضعا والمعرف بلام العهد الذهني يدل عليه بالقرينة، وإلا فهو موضوع للحقيقة نفسها فبينهما فرق؛ ولهذا أشبه النكرة ولم يكن عينها، وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر فإن قلنا إنها موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني غير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلا.
2 عدل إلى المضارع في -أمر- قصدا إلى الاستمرار وعدل إلى الماضي في قوله: فحضيت وقلت، دلالة على التحقق وثم حرف عطف وإذا لحقتها علامة التأنيث كما هنا اختصت بعطف الجمل.
3 من عناه إذا قصده وأراده.
4 من عناه الأمر إذا أهمه.
ولا يحلم مع غيره، والحليم من يكون الحلم سجية فيه، كما أنه لم يرد الماهية من حيث هي بقرينة المرور، ولا من حيث وجودها في جميع أفرادها لعدم تأتي المرور بكل لئيم، بل المراد الجنس في ضمن فرد مبهم فهو كالنكرة لهذا جعلت صفة لا حالا.
أما من قال: إن الجملة حال من اللئيم فلا شاهد فيه فليس بشيء إذ يفيد الكلام حينئذ: أن السبب مقيد بوقت المرور فقط كما هو شأن الحال، وهذا يتنافى مع ما أراده الشاعر من أن اللئيم دأبه وشأنه السب، وهو مع ذلك يفسح له صدرا، ولا يعيره اهتماما1.
وأما شبهه بالمعرفة فلجريان أحكام المعارف عليه غالبا، فهو يقع مبتدأ كما تقول:"الذئب في حقلك يرتقب فريسته" ويكون ذا حال كما في قولك: "رأيت ذئبا خارجا من حقلك يطارده كلب" ويأتي موصوفا بها كما في قولك: "السوق ذات السلع الجيدة يؤمها الناس" إلى غير ذلك.
هذا، ولما ذكر فيما سبق أن من أفراد اللام المشار بها إلى الحقيقة "لام الاستغراق" أرادوا لهذه المناسبة أن يذكروا إحدى قضاياهم المشهورة هي قولهم:
واستغراق2 المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع.
ومعنى هذا: أن اسم الجنس المفرد إذا دخلت عليه أداة الاستغراق كان شموله للأفراد أكثر مما لو كان اسم الجنس مثنى أو جمعا، بمعنى أن اسم الجنس المفرد يتناول كل واحد من الأفراد، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.
1 لكن قيل إن المناسب جعله حالا؛ لأن المتبادر من قوله: قلت لا يعنيني أنه قال ذلك حال سماع السب في حال المرور لا أنه قاله فيمن دأبه السب ولو في غير حال المرور.
2 سواء كان الاستغراق بحرف التعريف كما في مسألتنا أو بغير كحرف النفي في النكرة كما ستأتي أمثلته.
بيان ذلك: أنك إذا قلت مثلا: "لا طالبين في الفصل" وكان فيه طالب واحد لم تكن كاذبا في قولك؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس المثنى أي: نفيت أن يكون فيه طالبان، ولم تنف أن يكون فيه طالب واحد، وإذا قلت:"لا طلبة في الفصل"، وكان فيه طالبان كنت صادقا أيضا؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس الجمع أي: نفيت أن يكون في الفصل طلبة، وأقل الجمع ثلاثة، فلم تنف إذًا أن يكون فيه طالب أو طالبان.
أما إذا قلت: "لا طالب في الفصل"، وكان فيه طالب واحد، أو اثنان أو ثلاثة، أو أكثر كنت كاذبا في قولك؛ لأنك نفيت الكينونة في الفصل عن هذا الجنس وهو يتناول جميع أفراده، فدل ذلك على أن استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع1.
وجملة القول في هذا: أن معنى الاستغراق شمول أفراد مدلول اللفظ، ومدلول صيغة المثنى "اثنان"، ومدلول صيغة الجمع "ثلاثة فأكثر"، ومدلول صيغة المفرد "الجنس"، والنفي منصب على مدلول كل من هذه الصيغ الثلاث لا يتعداه إلى غيره، غير أنه ورد على هذه القضية اعتراضان:
1 قيل: هذا منقوض بقولنا: لا يرفع هذا الحجر العظيم كل رجال، وبقولك: هذا الخبز يشبع كل رجال فإن ذلك أشمل من قولك: لا يرفع الحجر المذكور كل رجل، ومن قولك: هذا الخبز يشبع كل رجل إذ يلزم من عدم استطاعة الجمع عدم استطاعة الفرد كما يلزم من إشباع الجمع إشباع الفرد بخلاف العكس في المثالين، فلا ينبغي إذًا أن يطلق القول بأن استغراق المفرد أشمل بل تارة يكون اسغراقه أشمل وأخرى يكون استغراق غيره أشمل كما في المثالين المذكورين، وأجيب: بأن المراد الأشملية بحسب الوضع، وبالنظر إلى المدلول المطابقي والأشملية في المثالين بالالتزام؛ لأن الحكم على الكل يستلزم الحكم على كل واحد، على أن الكلام في الاستغراق المفاد أو بالجمع والمفيد للاستغراق في المثالين المذكورين لفظ "كل" بل قد يندفع هذا القيل من أساسه إذا اعتبرنا القضية جزئية بأن يكون المراد: واستغراق المفرد قد يكون أشمل.
الأول هو: أن الحكم بأشملية استغراق المفرد ليس على عمومه كما هو ظاهر العبارة، وإنما هو خاص بالنكرة المنفية -كما مثلنا- أما في المعرف باللام فالجمع والمفرد سواء في الاستغراق الشامل بحيث يتناول كل واحد من الأفراد، وليس أحدهما بأوسع استغراقا من الآخر.
مثال الجمع المحلى بأل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فالاستغراق في هذه الجموع شامل كل فرد، ونحو قولك:"أحب المسلمين إلا زيدا" فإن المراد كل فرد من أفراد المسلمين لا كل جمع، وإلا قيل في الاستثناء إلا الجمع الفلاني.
ومثال المفرد المعرف بأل قولك: "المؤمن جدير بالاحترام، أي: كل مؤمن، وقد اجتمعا في قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أي: كل فرد ممن يصدق عليه "مسلم" هو من يسلم من شره جميع أفراد المسلمين.
وأجيب بأن الحكم المذكور عام البتة أي: إن المفرد أشمل استغراقا من الجمع مطلقا1 وكون الجمع المحلى بأل مساويا للمفرد في الشمول فذلك لأن "أل" الجنسية حينما تدخل عليه تبطل منه معنى الجمعية، ويصير معناه مفردا فإفادته للشمول حينئذ إنما جاءت من ناحية إفراد معناه، أما على تقدير بقاء الجمع على معناه الأصلي، وهو ما مشى عليه الخطيب تبعا لعلماء المعاني، فإن استغراق المفرد حينئذ يكون أشمل.
وقيل في الجواب: إن القضية المذكورة خاصة بالنكرة المنفية بدليل اقتصارهم على التمثيل بها في معرض البيان، فالاعتراض مدفوع من أصله.
الاعتراض الثاني هو: أن المفرد ما قابل المثنى والجمع، فمعناه حينئذ واحد لا تعدد فيه، وأن أداة الاستغراق الداخلية عليه تفيد تعدده، ومحال أن يكون الشيء الواحد متعددا غير متعدد في آن واحد لتنافيهما
1 أي: سواء كان نكرة منفية أو محلى بأل.
فكيف ساغ إذًا دخول أداة الاستغراق على المفرد؟ وإليك جوابين: أحدهما بالمنع، والآخر بالتسليم.
حاصل الأول: أننا نمنع أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد ذلك أن الوحدة في المفرد معناها عدم اعتبار شيء آخر معه، وأن التعدد في المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: كل فرد فرد على حدة أي: من غير اعتبار ضم شيء آخر إليه، ولذلك امتنع وصفه بنعت الجمع عند الجمهور1، فيكون كل فرد -على هذا الاعتبار- متصفا بالوحدة إذ لم يجتمع معه شيء آخر، فإذا قلت مثلا:"لا طالب في الفصل" فقد سلبت الكينونة في الفصل عن كل طالب طالب على حدة، بحيث لا يخرج فرد من الأفراد عن هذا الحكم، وهذا هو معنى التعدد، وكون هذا الحكم واقعا على كل فرد على حدة، من غير اعتبار اجتماعه بفرد آخر هو معنى الوحدة، فلا تنافي حينئذ بين الوحدة والتعدد على هذا الاعتبار، وإنما يحصل التنافي لو أن المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: الأفراد مجتمعة لا كل فرد على حدة.
وحاصل الثاني: سلما أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد، غير أن المفرد حينما دخلت عليه أداة الاستغراق كان مجردا عن اعتبار الدلالة على معنى الوحدة، وصار محتملا لها وللتعدد؛ لأنه قصد به الجنس، وبدخول أداة الاستغراق عليه تعين للتعدد، وإنما لم يطرد2 وصفه بنعت الجمع، فيقال مثلا:"إن المسلم القائمين الليل لهم أجر عظيم" لأجل المحافظة على التشاكل اللفظي ا. هـ.
1 حكاه الأخفش عن بعضهم في قوله: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ نظرا لأن أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحقيق الجنس فيه.
2 هو جواب عما يقال. حيث جرد المفرد المذكور عن معنى الوحدة وصحبته أداة الاستغراق كان معناه متعددا، ومقتضى ذلك جواز وصفه بنعت الجمع مع أنه ممنوع، والجواب ما ذكرنا، وإنما لم يمتنع بتاتا وصفه بنعت الجمع لوقوع الوصف به مراعاة لمعناه في قوله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لهذا قلنا لم يطرد وصفه بنعت الجمع.