الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: مقتضى بشرية الأنبياء والرسل
مقتضى كون الرسل بشراً أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك البشرية عنها، وهي:
أولاً: يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم: الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب، ويحدِثونَ كما يحدث البشر، لأنّ ذلك من لوازم الطعام والشراب، وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ [الأنبياء: 7 - 8].
ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر، لهم آباء وأمهات، وأعمام وعمات، وأخوال وخالات، يتزوجون ويولد لهم، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً [الرعد: 38].
ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض، فهم ينامون ويقومون، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر وهو الموت، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه: وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ [الشعراء: 79 - 81]. وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ [الزمر: 30]، وقال مبيناً أنّ هذه سنته في الرسل كلهم: وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] وقد جاء في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كان بشراً من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)) (1).
وقد صح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأمّ سُلَيم: ((يا أم سُلَيم، أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيّما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها طَهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة)) (2).
ثانياً: تعرض الأنبياء للبلاء:
ومن مقتضى بشرية الرسل أنّهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر، فقد يسجنون كما سجن يوسف قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ [يوسف: 33]، وذكر الله أنه فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42]، وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم، كما أصابوا الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فأدموه، وكسروا رباعيته، وقد يخرجونهم من ديارهم كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام، وكما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وقد يقتلونهم أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] وقد يصابون بالأمراض، كما ابتلى الله نبيّه أيوب فصبر، وقد صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم:((أن نبيّ الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه .. )) (3).
(1) رواه أحمد (6/ 256)(26237)، وأبو يعلى (8/ 286)(4873)، وابن حبان (12/ 488)(5675). من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5760)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
(2)
رواه مسلم (2603).
(3)
رواه أبو يعلى (6/ 299)(3617)، وابن حبان (7/ 157)(2898)، والحاكم (2/ 635)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 374)، والضياء (7/ 184) (2617). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الضياء: إسناده صحيح.
وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله، وكان ذا مال وولد كثير، وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83 - 84]. والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب، بل هم أشدُّ الناس بلاءً، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال:((قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) (1).
((ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضع يده على الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد حرّه بين يديه فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك، يُضّعَّف علينا البلاء، ويُضَعَّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة التي يُحَوِّيها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)) (2).
ثالثاً: اشتغال الأنبياء بأعمال البشر:
ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر، فمن ذلك اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة، قبل البعثة، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم، فقد روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال:((كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالأسود منه، فإنّه أطيبه، قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها)) رواه البخاري في صحيحه (3).
ومن الأنبياء الذين نصّ القرآن على أنهم رعوا الغنم نبيّ الله موسى عليه السلام، فقد عمل في ذلك عدةّ سنوات، فقد قال له العبد الصالح: إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص: 27 - 28] قال ابن حجر: (والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم)(4).
(1) رواه الترمذي (2398)، وابن ماجه (3265)، وأحمد (1/ 173)(1494)، والدارمي (2/ 412)(2783)، وابن حبان (7/ 161)(2901)، والحاكم (1/ 100). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (832) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 97)، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (226): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 167) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح.
(2)
رواه ابن ماجه (3266)، وأبو يعلى (2/ 312)(1045)، والحاكم (1/ 99). وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال البوصيري (2/ 286): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه على شرط مسلم الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (144).
(3)
رواه البخاري (3406). ورواه مسلم (2050).
(4)
((فتح الباري)) (6/ 439).
ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام، فقد كان حدّاداً يصنع الدروع، قال تعالى: وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: 80]، كان حداداً، وفي نفس الوقت كان ملكاً، وكان يأكل مما تصنعه يداه.
ونبي الله زكريا كان يعمل نجاراً، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((كان زكريا يعمل نجاراً)) (1).
رابعاً: ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية:
ومقتضى كونهم بشراً أنهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيء، ولذلك فإنّ الرسل يتبرَّؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يَدَّعون شيئاً من صفات الله تعالى، قال تعالى مبيناً براءة عيسى مما نسب إليه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116 - 117].
هذه مقالة عيسى في الموقف الجامع في يوم الحشر الأكبر، وهي مقولة صدق تنفي تلك الأكاذيب والترهات التي وصف بها النصارى عبد الله ورسوله عيسى فطائفة قالت: الله هو المسيح ابن مريم حلّ في بطن مريم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72]، وأخرى قالت: هو ثالث ثلاثة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] وطائفة ثالثة قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً [مريم: 88 - 89].
لقد غلا النصارى في عيسى غلواً عظيماً، وهم بمقالتهم الغالية هذه يسبُّون الله أعظم سبّ وأقبحه، فهم يزعمون:(أنّ ربَّ العالمين نزل عن كرسي عظمته، فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدةً من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء، تحت ملتقى الأعكان، ثمّ خرج صبياً رضيعاً يشبُّ شيئاً فشيئاً، ويبكي، ويأكل، ويشرب، ويبول، ويتقلب مع الصبيان، ثمّ أودع المكتب بين صبيان اليهود، يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثمّ جعل اليهود يطردونه من مكان إلى مكان، ثمّ قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذلّ والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثمّ ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله والأيمان، ثمّ أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان، ثمّ شدّت بالحبال يده مع الرجلين، ثمّ خالطهما تلك المسامير، التي تكسر العظام، وتمزق اللحمان، وهو يستغيث، ويقول: ارحموني، فلا يرحمه منهم إنسان، هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي، الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، ثمّ مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان، ثمّ قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان)(2).
فأيّ سبّ أعظم من هذا السبّ الذي نسبوه إلى الباري جل وعلا! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال!. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 74
(1) رواه مسلم (2379) بلفظ: ((كان زكريّاء نجاراً)).
(2)
((هداية الحيارى)) (ص: 3 - 4).