الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: غلق باب التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها
إذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لا يقبل الإيمان ممن لم يكن قبل ذلك مؤمناً، كما لا تقبل توبة العاصي، وذلك لأن طلوع الشمس من مغربها آية عظيمة يراها كل من كان في ذلك الزمان، فتنكشف لهم الحقائق، ويشاهدون من الأهوال ما يلوي أعناقهم إلى الإقرار والتصديق بالله وآياته، وحكمهم في ذلك حكم من عاين بأس الله تعالى كما قال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84 - 85].
قال القرطبي: (قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة، في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت)(1).
وقال ابن كثير: (إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن كان مخلطاً فأحدث توبة حينئذٍ لم تقبل منه توبة)(2).
وهذا هو الذي جاء به القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة فإن الله تعالى: قال: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل)) (3).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله عز وجل جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)) الآية)) (4).
ويرى بعض العلماء أن الذين لا يقبل إيمانهم هم الكفار الذين عاينوا طلوع الشمس من مغربها، أما إذا امتد الزمان ونسي الناس ذلك فإنه يقبل إيمان الكفار وتوبة العصاة (5).
(1)((التذكرة)) (ص: 706)، و ((تفسير القرطبي)) (7/ 146).
(2)
((تفسير ابن كثير)) (3/ 371).
(3)
رواه أحمد (1/ 192)(1671)، والطبراني (19/ 381) (895). من حديث ابن السعدي رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 371): إسناده حسن، وقال الهيثمي (5/ 253): رجال أحمد ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 133).
(4)
رواه الترمذي (3536)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 118). من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده المنذري، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 450) حسن، كما قال ذلك في المقدمة.
(5)
((التذكرة للقرطبي)) (ص: 706) و ((تفسير الألوسي)) (8/ 63).
قال القرطبي: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) (1) أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة ومقعده من النار، فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله، وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك، أو كان كالشاهد له مردودة ما عاش لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة، فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه والله أعلم (2).
وأيد ذلك بما روي (أن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان)(3).
وبما روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة)) (4).
وروي عن عمران بن حصين أنه قال: ((إنما لم تقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت ثم هلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته)) (5).
والجواب على هذا: أن النصوص دلت على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها وأن الكافر لا يقبل منه الإسلام، ولم تفرق النصوص بين من شاهد هذه الآية وبين من لم يشاهدها.
والذي يؤيد هذا ما رواه الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إذا خرج أول الآيات: طرحت الأقلام، وحبست الحفظة وشهدت الأجسام على الأعمال)) (6).
والمراد بأول الآيات هنا هو طلوع الشمس من مغربها، أما ما كان قبل طلوعها من الآيات فإن الأحاديث تدل على قبول التوبة والإيمان في ذلك الوقت.
وروى ابن جرير الطبري أيضاً عن عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه قال: ((التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها)) (7).
وروى الإمام مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل. حتى تطلع الشمس من مغربها)) (8) فجعل صلى الله عليه وسلم غاية قبول التوبة هو طلوع الشمس من مغربها.
وقد ذكر ابن حجر أحاديث وآثار كثيرة تدل على استمرار قفل باب التوبة إلى يوم القيامة. ثم قال: (فهذه آثار يشد بعضها بعضاً متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة)(9).
وأما ما استدل به القرطبي فالجواب عنه أن حديث عبد الله بن عمرو قال فيه الحافظ ابن حجر: (رفع هذا لا يثبت)، وحديث عمران بن حصين (لا أصل له)(10).
وأما حديث (أن الشمس والقمر يكسيان الضوء والنور .. ) إلخ فلم يذكر له القرطبي سنداً. وعلى فرض ثبوته فإن عودتهما إلى ما كانا عليه ليس فيه دليل على أن باب التوبة قد فتح مرة أخرى، وذكر الحافظ أنه وقف على نص فاصل في هذا النزاع وهو حديث عبد الله بن عمرو الذي ذكر فيه طلوع الشمس من المغرب وفيه يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158] (11) أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 310
(1) رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253)، وأحمد (2/ 153)(6408)، وابن حبان (2/ 394)(628)، والحاكم (4/ 286). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 449).
(2)
((تفسير القرطبي)) (7/ 146)، ((التذكرة للقرطبي)) (ص: 706).
(3)
((الكشف والبيان)) للثعلبي (4/ 209).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 506)، ونعيم بن حماد في ((الفتن)) (2/ 656، 702). عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 361): رفعه لا يثبت، وقد أخرجه عبد بن حُميد في تفسيره بسند جيد، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً.
(5)
((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/ 515)، و ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 705). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 361): لا أصل له.
(6)
رواه الطبري في تفسيره (12/ 265)، وابن أبي شيبة (8/ 670). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 363): إسناده صحيح وهو إن كان موقوفاً فحكمه الرفع.
(7)
رواه الطبري في تفسيره (12/ 262).
(8)
رواه مسلم (2759).
(9)
((فتح الباري)) (11/ 361).
(10)
((فتح الباري)) (11/ 361).
(11)
((فتح الباري)) (13/ 88).