الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: ثمرات الإيمان بأشراط الساعة
إن قيام الساعة الذي يعني نهاية هذا العالم، هو من أعظم الأحداث بعد خلق العالم، بل إن تغيير النظام الكوني وإيجاد نظام آخر حدث يعدل خلق العالم أول مرة؛ ولذلك تسبقه أحداث كبرى خارقة للعادة، تكون كالمقدمة له. ولهذا الإيمان ثمرات وفوائد نحاول أن نجملها فيما يلي:
أولاً: تحقيق ركن من أركان الإيمان الستة، وهو الإيمان باليوم الآخر، باعتبار أن أشراط الساعة من مقدماته، كما أنها من الإيمان بالغيب الذي قال فيه عز وجل: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (1)
…
ثانياً: إشباع الرغبة الفطرية في الإنسان التي تتطلع لاستكشاف ما غاب عنه، واستطلاع ما يحدث في المستقبل من وقائع وكائنات، وإذا كان الإسلام سد طرق الدجالين الذين يدعون الاطلاع عليها؛ كالمنجمين، والعرّافين، والكهان، ونحوهم إلا أنه - استجابة لأشواق الفطرة - أطلعنا - من خلال نافذة الوحي- على كثير من هذه الأحداث (2).
ثالثاً: أن الإخبار عن الغيوب المستقبلة - باعتبار ما فيها من خرقٍ للعادة - من أهم دلائل النبوة؛ حيث إنها تتضمن تحدياً لعقول البشر أجمعين، فهذه أمور غيبية لا تدرك بالعقل، ولا يمكن معرفة كنهها على الحقيقة إلا من خلال الوحي الصادق من الله تعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صدرت منه لا على أنها توقعات تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائجها، وإنما هي حديث دقيق قاطع عن تفاصيل المستقبل المجهول، حديثاً لا يحرمه المستقبل، ولا في جزء من أجزائه، وحينئذ فلا شك أنها النبوة، وأن صاحبها متصل بالله- تعالى- عالم الغيب والشهادة؛ كما قال عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:26 - 27] ، ومن ثمرات وقوع تلك المغيبات - على كثرتها - مطابقة لخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن يثبت إيمان المؤمن، ويطمئن قلبه، ويزداد يقينه، ويقول كما قص الله عن المؤمنين: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22] ومن ثمرات ذلك أيضاً إقامة الحجة على الكافرين، وإقناعهم بصدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين.
رابعاً: تعلم الكيفية الصحيحة التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كي نتعامل بها مع بعض الأحداث المقبلة التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها.
(1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
انظر: ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 587 - 588).
قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:((كنا مع رسول الله صلى عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً))
…
الحديث وفيه: ((إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لم يكن نبي قبلي، إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجئ فتنة، فيرفق بعضها بعضاً، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه، هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه))
…
الحديث (1).
لقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين عاصروه نصائح انتفعوا بها كثيراً:
- فقد بشر عثمان رضي الله عنه بالجنة على بلوى تصيبه (2).
- وأخبر عماراً رضي الله عنه أنه تقتله الفئة الباغية (3).
- وأمر أبا ذر رضي الله عنه بأن يعتزل الفتنة، وأن لا يقاتل ولو قتل (4).
- وكان حذيفة رضي الله عنه يسأله عن الشر، مخافة أن يدركه، ودلَّه صلى الله عليه وسلم كيف يفعل في الفتن (5).
- ونهى المسلمين عن أخذ شيء من جبل الذهب الذي سوف ينحسر عنه الفرات (6).
- وبصر أمته بفتنة الدجال، وأفاض في وصفها، وبين لهم ما يعصمهم منها؛ ومن ثم قال عبد الرحمن المحاربي:(ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب)، وقال السفاريني رحمه الله:(مما ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد، والنساء والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن)(7).اهـ.
(1) رواه مسلم (1844).
(2)
رواه البخاري (3674)، ومسلم (2403). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (447) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه مسلم (2916) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(4)
رواه أبو داود (4261)، وابن ماجه (3958)، وأحمد (5/ 149)(21363)، وابن حبان (15/ 78)(6685)، والحاكم (2/ 169)، والبيهقي (8/ 191) (16575). قال أبو داود: لم يذكر المشعث في هذا الحديث إلا حماد بن زيد، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (279)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(5)
رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847).
(6)
رواه البخاري (7119)، ومسلم (2894). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 106 – 107).
وامتدت شفقته صلى الله عليه وسلم؛ لتشمل إخوانه الذين يأتون من بعده، ولم يروه؛ فبذل لهم النصح، ودلهم على ما فيه نجاتهم، وحسن عاقبتهم. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((اتركوا الترك ما تركوكم)) (1)
…
الحديث. فمن ثم أمسك المسلمون عن استفزاز واستثارة الترك، فسلموا من غائلتهم، إلى أن خالفوا التوجيه النبوي، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى-:(وقد قتل جنكيزخان من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من (خوارزم شاه)، فإنه لما أرسل جنكيز خان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به فأنكره؟ وقال فيما أرسل إليه:(من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون؛ لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره، وتقتص من نائبك)، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث:((اتركوا الترك ما تركوكم)) (2) ، فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأخذ بلاده، فكان بقدر الله - تعالى- ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها، ولا أبشع) (3) ، فهنا نرى أن المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك الترك جاءت العاقبة عنيفة مريرة؛ حيث اجتاح التتار ديار الإسلام في كارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ (4) ، وفي أكثر من موضع ذكر الحافظ ابن كثير وقائع القتال بين المسلمين والتتار، وبيَّن أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم، ولو كانت الرماح تنالهم؛ ومثال ذلك ما ذكره في حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة:(وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار - لعنهم الله - فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة، وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم؛ ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (5)(6).
خامساً: فتح باب الأمل، والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إذا ادلهمت الخطوب، وضاقت الصدور، مما يعطي المسلمين طاقة يصارعون بها ما يسميه المتخاذلون (الأمر الواقع) ، ليصبح عزهم ومجدهم هو الأمر الواقع؛ وذلك بناء على البشارات النبوية بالتمكين للدين، وظهوره على الدين كله، ولوكره الكافرون.
(1) رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176)(18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2)
رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176)(18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(3)
((البداية والنهاية)) (13/ 119)
(4)
((البداية والنهاية)) (13/ 86 - 91)
(5)
رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176)(18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(6)
((البداية والنهاية)) (13/ 168)
سادساً: قد تمر بالمسلمين وقائع في مقبل الأيام تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، ولو ترك المسلمون إلى اجتهادهم؛ فإنهم قد يختلفون، وربما يكون نقصاً تنزه الشريعة عنه. فمن ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم من أيامه كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا، وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك الأيام الطويلة: أتكفي في الواحد منها صلاة يوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا، اقدروا له قدره)) (1) ، ولو وكل العباد إلى اجتهادهم، لاقتصروا على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غير هذه الأيام.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عيسى- عليه السلام بعد نزوله لا يقبل الجزية من اليهود والنصارى، ولا يقبل منهم إلا الإيمان (2)، وهذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم ضروري؛ لأن عيسى يحكم بهذا الشرع، وهذا الشرع فيه قبول الجزية ممن بذلها إلى حين نزول عيسى ابن مريم، وحين ذاك توضع الجزية، ويقتل كل من رفض الإيمان، ولو بذل الجزية (3).
كما أن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات معينة لأشخاص معينين؛ كالمهدي - مثلاً - يمدنا بالمعيار اللازم للحكم على الدجالين المدعين المهدية، حتى لا نتورط في فتنهم.
لا يعلم متى الساعة إلا الله وحده:
قال- تعالى -: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187]
فقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي، وقوله عز وجل: إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات: 44] (فيه إيذان بأن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد، فهو تعالى قد رباه ليكون منذراً ومبشراً، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، والإنذار إنما يناط بالإعلام بالساعة وأهوالها، وسلاسلها وأغلالها، ولا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها؛ ليخشى أهل كل زمن إتيانها فيه، والإعلام بوقت إتيانها، وتحديد تاريخها، ينافي هذه الفائدة، بل فيه مفاسد أخرى، فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: إن الساعة تأتي بعد ألفي سنة من يومنا هذا - مثلاً -، وألفا سنة في تاريخ العالم، وآلاف السنين تعد أجلاً قريباً، لرأى المكذبين يستهزئون بهذا الخبر، ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتياباً، حتى إذا ما قرب الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم ينغص عليهم حياتهم، ويوقع الشلل في أعضائهم، والتشنج في أعصابهم، حتى لا يستطيعون عملاً، ولا يسيغون طعاماً ولا شراباً، ومنهم من يخرج من ماله وما يملكه، في حين يكون الكافرون آمنين، يسخرون من المؤمنين
…
فالحكمة البالغة - إذاً - في إبهام أمر الساعة للعالم، وكذا الساعة الخاصة بأفراد الناس، أو بالأمم والأجيال، أو جعلها من الغيب الذي استأثر الله - تعالى - به) (4).
(1) رواه مسلم (2937). من حديث النواس بن سمعانا لكلابي رضي الله عنه.
(2)
حديث نزول عيسى رواه البخاري (3448)، ومسلم (155). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: ((القيامة الصغرى)) د. عمر الأشقر (ص: 132).
(4)
((تفسير المنار)) (9/ 389 – 390).
وقوله تعالى: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ [الأعراف:187]، معناه: لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها فيوقتها المحدود عن الرب تعالى إلا هو، فلا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها، ولا في الإعلام بميقاتها، وإنما وساطة الرسل، عليهم السلام، في الإنذار بها) (1).
ونقل الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عن الآلوسي، رحمه الله وله:(وإنما أخفى سبحانه، أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضاً لم يبعد، وتدل الآيات على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم وقت قيامها، نعم علم صلى الله عليه وسلم قربها على الإجمال وأخبر صلى الله عليه وسلم به)(2)(3).
وقال صاحب المنار، رحمه الله، تعالى - أيضاً -:
(فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم، وأن يحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى، في أعمالهم؛ فيلتزموا فيها الحق، ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي، ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدال، والقيل والقال، وإننا نرى بعض المتأخرين قد شغلوا المسلمين عن ذلك ببحث افتجره بعض الغلاة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق طول عمره لا يعلم متى تقوم الساعة، كما تدل عليه آيات القرآن الكثيرة، بل أعلمه الله تعالى به، بل زعم أنه أطلعه على كل ما في علمه، فصار علمه كعلم ربه (4) ، أي صار نداً وشريكاً لله تعالى، في صفة العلم المحيط بالغيوب التي لا نهاية لها، ومن أصول التوحيد أنه تعالى، لا شريك له في ذاته، ولا في صفة من صفاته، والرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله، لا يعلم من الغيب إلا ما أوحاه الله تعالى إليه، لأداء وظيفة التبليغ، ولكن الغلاة يرون من التقصير في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أن تكون صفاته دون صفات ربه وإلهه، وخالق الخلق أجمعين، فكذبوا كلام الله تعالى، وشبهوا به بعض عبيده، إرضاء لغلوهم، ومثل هذا الغلو لم يعرف عن أحد من سلف هذه الأمة، ولو أراد الله تعالى أن يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بوقت قيام الساعة بعد كل ما أنزله عليه في إخفائها واستئثاره بعلمه لما أكده كل هذا التأكيد في هذه السورة وغيرها، كقوله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [الأعراف:187] ا. هـ.
الحكمة في تقديم أشراط الساعة ودلالة الناس عليها:
ثبت في حديث جبريل المشهور أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرني عن الساعة)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) ، قال:((فأخبرني عن أمارتها)) (5) وفي رواية قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها
…
)) الحديث (6).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد)(7).
ونقل القرطبي رحمه الله عن العلماء قولهم: (والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها، تنبيه الناس عن رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها، والله أعلم، وتلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا وانقضائها)(8) المهدي وفقه أشراط الساعة لمحمد أحمد المقدم - ص:589 - 597
(1)((تفسير المنار)) (9/ 390).
(2)
حديث السؤال عن الساعة رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
((تفسير المنار)) (9/ 393).
(4)
((تفسير المنار)) (282 - 283).
(5)
رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه البخاري (4777)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
((فتح الباري)) (11/ 350).
(8)
((التذكرة)) (ص: 624).