الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: ما الذي يوزن في الميزان
اختلف أهل العلم في الموزون في ذلك اليوم على أقوال:
الأول: أن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها، وأنها تجسم فتوضع في الميزان، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في (الصحيح) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (1). وقد دلت نصوص كثيرة على أن الأعمال تأتي في يوم القيامة في صورةٍ الله أعلم بها، فمن ذلك مجيء القرآن شافعاً لأصحابه في يوم القيامة، وأن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما. ففي (صحيح مسلم) عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما)). (2) وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)). (3) وهذا القول رجَّحه ابن حجر العسقلاني ونصره، فقال: والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق)) (4).
الثاني: أن الذي يوزن هو العامل نفسه، فقد دلَّت النصوص على أن العباد يوزنون في يوم القيامة، فيثقلون في الميزان أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة أجسامهم، وكثرة ما عليهم من لحم ودهن، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105])) (5). ويؤتى بالرجل النحيف الضعيف دقيق الساقين فإذا به يزن الجبال، روى أحمد في (مسنده)، عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، ((أنه كان رقيق الساقين، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه. قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)) (6).
وما أحسن ما قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
…
وفي أثوابه أسد هرير
ويعجبك الطرير فتبتليه
…
فيخلف ظنك الرجل الطرير
(1) رواه البخاري (6406)، ومسلم (2694).
(2)
رواه مسلم (804).
(3)
رواه مسلم (805).
(4)
رواه أبو داود (4799)، والترمذي (2003)، وابن حبان (2/ 230). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(5)
رواه البخاري (4729)، ومسلم (2785).
(6)
رواه أحمد (1/ 420)(3991). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 39): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2750): إسناده حسن وهو صحيح بطرقه الكثيرة.
الثالث: أن الذي يوزن إنما هو صحائف الأعمال. فقد روى الترمذي في (سننه) عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاَ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء)) (1). وقد مال القرطبي إلى هذا القول، فقال: والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف،. . قال ابن عمر: توزن صحائف الأعمال، وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيجعل الله تعالى: رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار. وقال السفارييني: والحق أن الموزون صحائف الأعمال، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما، وصوبه الشيخ مرعي في (بهجته)، وذهب إليه جمهور من المفسرين، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي. ولعل الحق أن الذي يوزن هو العامل وعمله وصحف أعماله، فقد دلت النصوص التي سقناها على أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها. وهذا ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي فقال: والذي استظهر من النصوص – والله أعلم – أن العامل وعمله وصحيفة عمله – كل ذلك يوزن، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن، قد وردت بكل ذلك، ولا منافاة بينها، ويدل كذلك ما رواه أحمد – رحمه الله تعالى: – عن عبدالله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ: قال: قال رسول الله: ((توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه، فيمايل به الميزان. قال: فيبعث به إلى النار. قال: فإذا أدبر، إذ صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة، حتى يميل به الميزان)) (2) فهذا يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى، وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن، ولله الحمد والمنة القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 251
(1) رواه الترمذي (2639). والحديث رواه ابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213)(6994)، والحاكم (1/ 46). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في (الصحيحين) وهو صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (135): وهو كما قالا.
(2)
رواه أحمد (2/ 221)(7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 82): رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 24): إسناده صحيح.