الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: التفاضل في المحشر
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يحشرون حفاة عراة غرلاً (1) ، وأخبر سبحانه أنه يحشر الكافرين على وجوههم، قال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء: 97]. وقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ [الفرقان: 34]. وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) (2).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير. ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) (3). أخرجه البخاري في باب الحشر وذكره مع الحديثين السابقين في حشر المؤمنين وحشر الكافرين.
وقد نقل ابن حجر عن الخطابي – قال: (وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي وقواه) - أن الحشر في هذا الحديث يكون في الدنيا قبل قيام الساعة يحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو ما ورد في الحديث حفاة عراة مشاة (4).
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم الجزم بأنه الحشر بعد الخروج من القبور، وهو ظاهر صنيع البخاري من إيراده الحديث على الوجه المذكور.
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم أن حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه، وذكر أربعة أوجه، منها: أن الحشر إذا أطلق في عرف الشارع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه بدليل (5). وذكر ابن حجر أنه قد جمع بين الحديث، وحديث حشر الناس عراة حفاة مشاة بأنهم يخرجون من قبورهم على هذا الوصف ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف على ما في هذا الحديث (6). ومعلوم أن القيامة أحوال متعددة، إلا أن ابن حجر رجح أن الحشر الوارد في الحديث إنما يكون قبل المبعث (7). والحديث دال على التفاضل في الحشر، وقد نقل ابن حجر عن بعض أهل العلم قوله:(نرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة: 7]. الآيات، فقوله في الحديث: ((راغبين راهبين)) يريد به عوام المؤمنين، وهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيترددون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئاتهم، ويرجون رحمة الله بإيمانهم، وهؤلاء أصحاب الميمنة، وقوله ((واثنان على بعير .. الخ)) السابقين وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركباناً، وقوله:((وتحشر بقيتهم النار)) يريد به أصحاب المشأمة) (8).
وقد ذكر ابن القيم أن المراد بالطبقات المذكورة في آخر سورة الواقعة – طبقة المقربين وطبقة أصحاب اليمين، وطبقة المكذبين – الطبقات عند الحشر الأول (9).
(1) رواه البخاري (3349)، ومسلم (2860). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (4760). من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6522)، ومسلم (2861). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
((فتح الباري)) (11/ 379).
(5)
((فتح الباري)) (11/ 380).
(6)
((فتح الباري)) (11/ 379).
(7)
((فتح الباري)) (11/ 382).
(8)
((فتح الباري)) (11/ 380).
(9)
((التبيان في أقسام القرآن)) (151).
ولعل في قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم: 85]. شاهد للطائفة الثانية وهم الركبان، لأن الوفد لا يكون إلا راكباً كما روي عن علي رضي الله عنه (1) وقد نقل المفسرون عن أئمة التفسير أن الحشر المذكور في هذه الآية إنما يكون عند المنصرف من بين يدي الله في طريقهم إلى الجنة (2) ، فهم لا يركبون إلا من الموقف، أما إذا خرجوا من القبور فحفاة عراة مشاة إلى المواقف كما يقول القرطبي (3).
ومن الأحوال الفاضلة في الحشر، حال الشهيد فقد قال صلى الله عليه وسلم:((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب اللون لون دم، والريح ريح مسك)) (4).
ومن الأحوال الفاضلة في المحشر، حال الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم السبعة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه)) (5).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار الميل. قال الراوي: فلا أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) (6).
فهذا دليل على تفاضل الخلق في وقوفهم بالمحشر قبل فصل القضاء.
ومن الأحوال المفضولة في الحشر، حال المتكبرين كما في الحديث:((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان)) (7).
وأفضل أمم المؤمنين في المحشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختصها الله عز وجل فيه بما تمتاز به عن غيرها، ومن هذه الخصائص:
- اختصاصها بأنها أكثر أتباع الأنبياء عدداً، كما في حديث صحيح مسلم الذي تقدم ذكره:((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)).
- وتميزها بعلامة تعرف بها وهي أنهم يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء كما في الحديث: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)) (8).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء)) (9).
وأفضل أحوال أهل المحشر وأكملهم حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا ريب، وأفضل أحوال الأنبياء حال آدم وأولي العزم من الرسل الخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم كما دل عليه صراحة حديث الشفاعة المخرج في الصحيحين (10) وقد سبق ذكره. فأهل المحشر يقصدونهم خاصة من بين سائر الأنبياء والمرسلين لكي يشفعوا عند الله لإراحتهم من هول الموقف، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أهل المحشر، وحاله أفضل أحوالهم، فهو صاحب الشفاعة العظمى التي يتدافعها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص393
(1)((المسند)) (2/ 377) و ((تفسير القرطبي)) (11/ 152) و ((الدر المنثور)) (5/ 285).
(2)
((تفسير البغوي)) (3/ 209) و ((تفسير ابن كثير)) (3/ 138) و ((تفسير القرطبي)) (11/ 152) و ((الدر المنثور)) (4/ 284).
(3)
((التفسير)) (11/ 153).
(4)
رواه البخاري (5533)، ومسلم (1876). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (660)، مسلم (1031). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه مسلم (2864). من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
(7)
رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 537)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 474) كما قال ذلك في المقدمة.
(8)
رواه البخاري (136)، ومسلم (249). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9)
رواه مسلم (247).
(10)
رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).